قصة قصيرة
تدليك
ميسون أسدي
هالو؟
اتصلت سهام بسونتشكا وكانت فرحتهما لا توصف. رحّبت سونتشكا بالمتصلة من صميم قلبها وعاتبتها لأنّها اختفت عدّة سنوات ولم تسمع منها كلمة أو خبرا. بعد التحية والسلام سألتها سونتشكا عن حالها وحال أهلها واصدقائها وجيرانها الذين عالجتهم بالتدليك مقابل مبالغ زهيدة. قرّرتا الالتقاء واعتذرت سونتشكا ضاحكة على أنّها مضطرّة لإنهاء المكالمة، لأنّ طبختها على الغاز ولا تريد أن تحترق. قبل أن تغلق سمّاعة الهاتف أوصتها بالاتصال ثانية وهي تنتظر زيارتها بفارغ الصبر. فعلا، صممت سهام على زيارتها في أقرب فرصة ممكنة، مع أنّها تتحاشى هذه الزيارة بسبب كثرة القطط المتواجدة في بيت سونتشكا وتظل تحوم حولها، فرائحة القطط تزكم أنفها. رغم ذلك كانت سعادتهما بهذا الاتصال لا تضاهيها سعادة.
لقاء
مضت سبعة أعوام لم تتصل سهام خلالها بسونتشكا أو تزورها في بيتها بعد أن اعتادت زيارتها على مضض وتدليكها بمساج خفيف غير مهني، ولكنّها دائمًا متوفرة لاستقبالك بسبب قلّة الزبائن عندها وثمن جلسة التدليك عندها الرخيص جدًّا مقارنة بأسعار التدليك في السوق. لم تكن سهام راضية عن علاجها لكنها شعرت عندها بالهدوء النفسي فاختارتها، وأمكنها الذهاب إليها متى شاءت دون تحديد موعد مسبّقًا.
سونتشكا، وينادونها صونيا، في عقدها السابع يهوديّة من أصل روسي، شقراء مع عيون زرق، لا تفارق الابتسامة محيّاها. متحدّثة كثيرة الكلام كريمة ومعطاءة وخدومة وهي من مدينة تشرنوبيل وقد فرّت من هناك بعد انفجار مفاعل تشرنوبيل الشهير وبعد أن أصيبت بالسرطان وتمّ استئصال رحمها وأصيب صغيرها بتشَوهات خلقية وجسدية. جاءت إلى البلاد هربًا من الفقر والآلام من تشرنوبيل لتعيش فقرا وآلاما من نوع آخر، فكان الفقر والعوز ملازمًا لها أينما حلّت. عاشت في البلاد في أفقر الأحياء مع ابنها نيكيتا ذي الإعاقة العقلية، وربطتها علاقات صداقة مع عرب البلاد، فقسم منهم كانوا يتعالجون عندها. اعتادت سونتشكا وابنها زيارة بعض المرضى العرب في بيوتهم لتجري لهم تدليك وتبعث الدفء والسرور أينما حلّت.
صمت
في عيد ميلاد سهام الثلاثين، قدّم لها زوجها هديّة بإيعاز من أحد الأصدقاء، والهديّة عبارة عن مساج طبّيّ عند المدلّكة أولغا الروسية، حينذاك توقّفت سهام عن الذهاب إلى سونتشكا. أولغا امرأة فارعة الطول يهودية – روسية في عقدها السادس، جذورها من مدينة نيقولايف القريبة من مدينة أوديسا، سكوتة وقليلة الكلام، طيّبة مثقّفة ذات ملامح ارستقراطية. عملت كممرّضة سنوات طويلة في أوديسا ثمّ أصيبت وهي شابّة بالسرطان وتمّ استئصال رحمها ومبيضيها. جاءت إلى البلاد هربًا من الفقر والعوز، طُلب منها اجراء امتحانات لممارسة التمريض ولكنّها رفضت وكانت لغتها العبرية ركيكة جدًّا ومعظم اصدقائها في البلاد كانوا روسيين. تعلمت مهنة التدليك في البلاد ونالت شهادة أهّلتها لممارستها وكانت لها سواعد قوية جدًّا كالرجال، دقيقة ومهنية في عملها. أخذت سهام تزورها أسبوعيًّا لتدلك جسدها واحبّت أولغا وأجرت معها بعد الأحاديث العابرة المقتضبة وفي إحدى المرّات قالت لها أولغا:
عندما توفّيت جدّتي وانا في الثالثة عشر من عمري، رافقت جدي لزيارتها في مقبرة نيقولايف، رأيت وسمعت جدي يصلي بلغة لم أفهمها، وحين سألت أمّي، عرفت بأنّ جدي صلّى باللغة العبريّة، فبكيت عندما عرفت بأنّني يهودية ولست كباقي صديقاتي، ولكنّ أمّي التي كانت مهندسة سفن وعلى دراية وثقافة عالية، أخذت تطيّب خاطري بترديدها اسماء خالاتي وعماتي، وتعلمني بأنّهم اناس لطفاء وطيبون ومحترمون داخل المجتمع الروسي وهم أيضًا يهود. ثمّ أضافت أولغا وكأنّها تفشي سرًّا:
كان لكل شخص يهودي اسم روسي واسم يهودي، ففي الحياة اليوميّة نستعمل الاسم الروسي ولكن بين بعضنا نستعمل الاسم اليهودي… حصلت أمّي كمهندسة سفن على مكافآت عدّة مقابل كل مشروع برعت به، بالإضافة إلى المعاش المخصّص لها. سكنّا في بناية متعدّدة الطبقات. وضعنا الاقتصادي والاجتماعي في روسيا كان جيّد جدًّا… أما هنا في هذه البلاد، ذقنا الأمرّين، الفقر والبطالة.
الاكتئاب
حاولت سهام توطيد الصداقة بينها وبين أولغا التي كانت انسانة متكبرة “بريّة” جدا تفتقر إلى العلاقات الاجتماعية، ولها أخ واحد في البلاد يعاني من اكتئاب حاد فكانت تستقبل ضيوفها للتدليك وكأنّها روبوت بلا مشاعر. أولغا مدخّنة مدمنة، تفوح أحيانًا رائحة التبغ من أناملها. اختلقت سهام حججا لتبقى معها بحجة أنّها تعاني من دوار فتصنع لها الشاي وتبقى في صالون بيتها لنصف ساعة إضافية وبالكاد كانت أولغا تنطق وتتحدّث. وقعت أولغا في بيتها وكسرت يدها اليمنى وبقيت بالجبس ثلاثة أشهر، وكانت زميلة لها من مولدافيا تعمل على رعاية عجوز تسكن فوقها في نفس العمارة تقوم على رعايتها، تحمّمها يوميًّا مقابل مبلغ من المال وأحيانًا تقوم بالتدليك لبعض الزبائن بدلا من أولغا- وهي مدلّكة جيّدة. زاد وزنها بشكل ملحوظ. اخبرت سهام سابقًا بأنّها تشعر بكدرة في صدرها ولكنّها تختفي وتظهر من جديد هكذا دواليك. بعد نصف سنة من الوقعة الأولى، وقعت أولغا ثانية وكسرت حوضها، ثمّ مكثت في المستشفى لمدّة شهرين بعد أن اكتشفوا ورمًا خبيثًا في بطنها. اتصلت بها سهام فأجابتها باقتضاب أنها تشعر بالسوء ولم تسمح لسهام أن تزورها في المستشفى.
مضت أشهر تحاول بها سهام الاتصال بأولغا ولا من مجيب. بالصدفة التقت سهام بالسيدة المولدافية التي تسكن بالبناية فوق أولغا وفهمت منها بأنّ أولغا غادرتنا إلى المدن السماوية بهدوء تام كما عاشت.
نيكيتا
رنّ هاتف سهام وأجابت بفرحة شديدة أهلا سونتشكا:
- أنا لست سونتشكا، أنا نيكيتا ابن سونتشكا.
- يا إلهي، صوتكما متشابه جدًّا.
- أحببت أن أسألك إذا كنت تريدين مرافقتنا اليوم لزيارة أمي؟ أنا وبعض الأصدقاء ومعنا مكان شاغر في السيارة وأحبّ اصطحابك.
- اين أمك يا نيكيتا؟
- توفيت أمّي قبل ستة أيام. بعد أن مكثت في المستشفى شهر وتركتنا إلى مدن السماء.
هدوء نسبي
كان الخبر مفاجئًا لسهام، خاصّة أنها فكّرت بالعودة إلى سونتشكا لجلسات التدليك التي أدمنت عليها، ومنحتها الراحة النفسية. برحيل سونتشكا وأولغا، اقفل باب المدلكات المفضلات لدى سهام، فأخذت تبحث عن مدلّكة جديدة، إلى أن سمعت بأنّ صديقتها نوال تذهب إلى مدلّكة ممتازة، فتوجّهت إليها لتدلها عليها. استغربت نوال سؤال سهام، فهي تعرف أنها مرتاحة عند مدلكتها أولغا، فروت سهام لها قصّتها مع كل مدلّكة وما آلت اليه كلّ منهن. عندها قالت نوال ضاحكة:
- لا يا حبيبتي، لن أدلّك على مدلّكتي، فكل مدلّكة تذهبين إليها تغادرنا الى مدن السماء… وأنا لا استغني عن مدلّكتي، فهي أيضًا روسيّة وما زالت شابّة… تريدين الراحة النفسية لدى مدلّكتي، لتدخليني بعدها إلى قلّة الراحة… ابحثي في مكان آخر…
قالت جملتها الأخيرة، بهدوء دون أن تبتسم.