قصة قصيرة:
السّم في الدسم
ميسون أسدي
فرحتُ كثيرًا لأم كريم عندما أحضر أولادها صبيّة من الهند عن طريق وكالة لتشغيل الأجانب في خدمة كبار السن، لأنّه وفي نهاية الأمر، أصبح لديها من يساعدها في أمورها المنزلية دون حاجة للأولاد والأحفاد والأقارب، المشغولين عنها في أمورهم الشخصيّة، وكانت فرحتي أكبر عندما تعرّفت إلى الصبيّة الهنديّة التي تعمل لتعيل أفراد أسرتها الفقيرة في الهند… لكنّ الفرحة تحوّلت إلى حزن وكآبة على هذه الصبية وجميع من يعمل في هذا المجال من أجانب.
لمدّة ثمانية أشهر كانت تتقاضى كاجول الهندية أجرًا لا يذهب إلى جيبها بل للوكالة التي أحضرتها من الهند إلى البلاد للعمل في خدمة العجائز من 12 إلى 13 ساعة في اليوم، بما في ذلك أيام الأحد، من دون عطلات وبلا راحة، إذ يقتصر طعامها على فتات ترميه لها ربة البيت.
كاجول هو اسم هندي جميل، ويعني الكحل الذي يوضع على العين فيزيدها جمالاً… قصّة هذه الشابة ليست واقعة معزولة، فعشرات الآلاف من العمال الأجانب يعانون مثلها معيشة قاسية وظروف عمل أشبه بالعبودية بأشكالها المعاصرة وغير الإنسانيّة.
-1-
صرخت العجوز بأعلى صوتها في منتصف الليل بصوت يختلج تأثّرًا: كاجول… كاجول…
استيقظت كاجول من نومها ترتجف خائفة، وجمجمت بصوت مهموس:
– ماذا حدث يا ماما؟
صاحت العجوز والشرر يتطاير من عينيها حتّى بانت نواجذها:
– من معك؟ من بصحبتك في هذا الليل؟ لماذا تقفين على بابي وتراقبينني وأنا نائمة؟
تردّدت وتلعثمت كاجول وكان وجهها الجميل مقطبا بعض الشيء، إلا أن الهدوء لم يفارقه للحظة وأجابت:
– ماما أنا كنت نائمة ولم أقف على بابك، ماذا تريدين مني وأنا لوحدي؟ خلص ماما لمَ تعاملينني بهذه القسوة؟ لماذا لا تثقين بي؟
تأفّفت العجوز كعادتها وبرمت وجهها وأشعلت سيجارتها لتطفئ شرر غضبها، أمّا كاجول انقطعت عن الكلام وحدجتها بنظرة ذات معان، ثمّ أدارت وجهها وعادت إلى غرفتها لتخلد إلى فراشها وهي تبكي مقنعة نفسها بأن العجوز تحلم وغير مدركة لاتهاماتها الباطلة المتكررة.
-2-
في كلّ أحد، كانت العجوز أم كريم تقدّم المال الوفير لصينية الكنيسة وهي تحني هامتها باحترام وورع وثغرها يضيء بابتسامة فاتنة محبة منها للكنيسة ورب الكنيسة وراعيها ولا تتغيب عن الصلاة إلا لأمر عسير فالخوري ورعيته وكنيسته هم أهلها بلا منازع.
وضعت أم كريم مئتي شاقل بجانب سريرها تنتظر قدوم الخوري بمناسبة عيد الشكر لتقدم هديتها بمناسبة حلول العيد. ومن حسن حظها أن ذكرى ميلادها الرابعة والتسعين تصادف يوم عيد الشكر، ولكنها تدّعي أنّها ابنة تسعة وأربعين عامًا، وتتشبّث بالحياة وكأنها شابّة في العشرينات، وقد خطت برجليها الاثنتين أولى خطواتها داخل القبر، إذ فقدت السيطرة على جسمها الذي خانها شر خيانة، فأي نسمة هواء تطيح بها أرضًا.
-3-
أمّا كاجول الطيّبة فهي الممرضة – الخادمة القادمة من مدينة “كيرلا” في جنوب الهند لترعى العجوز المقعدة، وللوهلة الأولى تدرك بأن هذه العجوز تنتمي إلى علّيّة القوم وأنّها من الصفوة المختارة فالنّعمة بادية على ملامحها وتنمّ عن رخاء وترف. درست كاجول التمريض لمدّة أربع سنوات في الهند وعملت في أحد المستشفيات في اليمن كمولدة ثمّ جاءت إلى البلاد لتساعد زوجها وأولادها الأربعة كي يتمكنوا من بناء بيت لهما. تشط وتنط كاجول من مكان لمكان حتى تنهي دورتها في خدمة أم كريم وليتسنّى لها أنْ تذهب إلى الكنيسة لتصلّي مع رفاقها من الخدم، ويصل عددهم إلى مئة وخمسين شابة وشابًا من الهند جاءوا إلى البلاد للسهر وللرعاية المسنين، يصلون في هذه الكنيسة مع خوري هندي وصلاتهم باللغة المالالامية وهي لغتهم الأم. أصل كلمة مالالام من الكلمة mala (الجبل (و(alam) (أرض). كلمة مالايلي malayali تشير للناس الذين سكنوا في الجبال التي تقع في منطقة “جات” الغربية. ونظرية أخرى تقول إن الأصل من (mala) و(azham)، محيط“-وبيشير لـ جبال ساهيا وبحر العرب الذين يحيطون بكيرالا. ثم تغير (Malayazham) إلى (Malayalam) لأن الاسم الأول كان من الصعب نطقه.
-4-
ربّيتها- هذا ما تردّده أم كريم أمام ضيوفها من رعية الكنيسة أو أقربائها، وفعلاً كانت كاجول تهابها وتخاف من شرّها. كانت إذا غضبت أمسكت بمنفضة الحديد ورمتها بكل قوتها أرضًا. باتت كاجول تخافها وتخاف غضبها.
تذهب كاجول كل يوم أحد لكنيستها بذات البهاء والرواء، وبعد عودتها من الصلاة تبدأ العجوز بالتأفّف من خروجها وتركها وحيدة، وكانت تصطنع البكاء والضعف والمسكنة وتولول وتبدأ باختلاق المشاكل وتحضر الهم والغم فوق رأس كاجول.
جهّزت كاجول الغداء لأم كريم، صحن قرع وباذنجان محشي بالأرز واللحم، بعد أن علّمتها كيفية تحضير كلّ أنواع الطبخ العربي، وقدّمت كاجول لنفسها صحن قرع وباذنجان محشي. نظرت العجوز بعيون غاضبة إلى كاجول وإلى صحنها. لم ترفع نظرها عن الصحن وكل لقمة علكتها كاجول كانت العجوز تلوك معها قلبها غيظًا، فهي تبخل على هذه الممرضة حتى بلقمة عيشها وتجادلها وتناكفها وتناطحها في كل شيء وكأنها في كامل قوتها.
تميّزت أم كريم بأنانية مفرطة غير محتملة وكانت تعامل كاجول بفوقيّة وحكمتها حكم قراقوش، رغم أن كاجول ترعاها بكلّ صدق وأمانة ومحبّة وتفانٍ وإخلاص، تحفظها وتزيل عنها البول والغائط وتدلك لها رجليها الاثنتين وبطنها وخصرها وظهرها وتقص أظافر يديها ورجليها وتنتزع الشعرات الطويلة الشائبة من شاربيها وذقنها ووجهها وتلوّن لها أظافرها. تذهب أسبوعيًا سيرًا على الأقدام لمدة نصف ساعة ذهابًا وإيابًا إلى أحد المطاعم الصينية لتشتري لها شوربة صينية، ومرّتين كلّ أسبوع لتجلب لها الحلزونات الصغيرة وتنظفها وتطبخها لها. وتسحب كاجول الحلزونات الصغيرة من قوقعتها بالإبرة وتجهز لها العشرات من الحلزونات الصغيرة وتشفطها العجوز إلى داخل فمها. تدخن أم كريم بعدها السيجارة أو تشعل لها نارجيلتها وتصرّ أم كريم على أن تلعب كاجول معها الكوتشينة لمدّة ساعتين متتاليتين والويل لها إذا اعترضت. تركض كاجول المسكينة من مكان إلى آخر لتلبّي طلبات هذه العجوز التي لا تنتهي. وإذا تأخّرت كاجول في المطبخ، تنادي عليها لتتفقد بأنها لا تسرقها، وتفتش كيس القمامة قبل أن تخرجه لتلقيه في حاوية القمامة الكبيرة خارج البيت، وإذا تحدّثت في الهاتف مع أبنائها تتضايق شر ضيقة، ترمقها بنظرات الغضب والكراهيّة والعبوديّة.
-5-
في الصباح، استيقظت أم كريم، وطلبت من كاجول أن تقترب منها واعتذرت دون تحرّج وقبلت جبينها معتذرة عما بدر منها في ليلة الأمس باتهاماتها الباطلة بحقها بأنّها كانت بصحبة شاب في بيتها وتراقبها وهي نائمة، وادّعت أم كريم بأنّ ضوء اللمبة الكهربائية سقط على قنينة المياه وانعكس ظل القنينة على باب غرفة نومها ليبدو كجسد شخص، لهذا اعتقدت بأنّها تتلصّص عليها وهي نائمة.
استغربت كاجول من الذاكرة القوية التي تملكها هذه العجوز واعتقدت بأنّها ستنسى ما حدث في الليل، لكنها تذكرت حادثة الأمس بكل تفاصيلها.
-6-
أمسكت كاجول مسبحتها وهي هانئة بمعيشتها وأخذت تصلي تشكر الله، وبكت شوقًا لزوجها وأولادها الأربعة الصغار، فصغيرها “أبوو” احتفل قبل أسبوع بعيد ميلاده السنتين. وطغى عليها في هذه الساعة سرور عظيم ولكنّها شعرت في قرارة نفسها أن سرورها هذا يشوبه ألم غامض وكأنّه السّم في الدّسم.