بختي ضيف الله
” لم يكن أحد ينتظرك، أيها الأسود، صاحب الشعر المجعد، كأنّك لست ابن هذه الأرض الملونة.جئت لتغير في لوحة العائلة البيضاء؛ يتوارى الأب من سوء ما بشر به.
كنت توزع ابتسامتك على الجميع ولأمك زيادة. فتأخذ قلبها وقلبه وهو يراقبك من بعيد، يأتيك صاغرا يقبل خديك بشاربيه الرقيقين.
– قبلة هذا الأسود مختلفة يا امرأة، ليست مثل قبلات أخواته الثلاث..
تقذفه بابتسامة أخرى، كأنك تريد حرقه، وأنت لا تزال في المهد صبيا “.
هكذا تخبره الجدة بأيام حياته الأولى. وهو المحب للخير، يزرع بذور السعادة في نفوس الآخرين. بيد أن لا أحد يحبه، ينادونه ( بلالا )، استهزاء به، لسواد بشرته.
فَقَدَ عائلته في حادث سير على الطريق السريع، وهي في زيارة لأحد الأقارب في إحدى المدن الراقية، لتكفله جدته المسنة، تطعمه مما ترك أبوه من مال.
المدينة مفككة،إلا في جدرانها وطرقها، لا روح تجمع أهلها، إلا في بيع أو شراء، من أجل هذا يبتسمون ابتساماتهم الجافة، مصرّين على تحيتيّ الصباح والمساء !
يمشي بين شوارعها وحيدا، لا أحد من أترابه يلقي عليه التحية والسلام أو يشاركه الكلام. يعود إلى البيت وعلى وجهه سحابة من حزن. تواسيه الجدة ببعض الكلمات.
لا يبتعد كثيرا، يجلس بقرب الباب على كرسي صغير، يرقب حركاتهم، غير مبال بنظراتهم.
أشفق عليه أحد الجيران، طلب منه أن يعمل في دكان للعطور ،و لكن سرعان ما فرّ كل الزبائن منه، كأنهم أصيبوا بمس من الجن !
كان عليه أن يجد عملا يكسب منه قوته هو و الجدة، خاصة أن ما ورث من مال لم يبق منه إلا قليل.
اشترى عربة وحصانا، ليحمل أحمالهم المثقلة، يطهر شوارعهم من أدرانها. لتدور عجلتاها، تسابق الزمن، وتخطف بعض الأنظار، هكذا كان يقول ذلك الفيلسوف المسن، المتأمل، صاحب المكتبة العتيقة، في الشارع الكبير. يدون في دفتره حركات الناس وتصرفاتهم.
شدّت عربته قلوب الأطفال، يركبونها ليلعبوا طويلا، وهذا ما أسره هو أيضا، يلحون أن يأخذهم إلى مدارسهم البعيدة والقريبة، سرَّ بعض الآباء والأمهات، كان يعامل صغارهم كأنهم من أهله، لا يأخذ منهم مالا !
استيقظت أقلام كانت نائمة على صفحات راكدة..وجد الكاتب الحزين، جليس المقهى الضيق، ضالته.فثارت ثورة الكتابة، بعدما فقد كل أمل في هذه الحياة..
ندم الرسام على حرق لوحاته في شتاء بارد، وأحضر أخرى، ليعيد خياله الدافئ؛ الحصان للقوة، والعجلة للانطلاق..
يقف ( بلال ) أمام إحدى لوحاته،معجبا بخياله الكبير، فرحا بعربته وهي وتطوي الطريق طيا بين حقوق خضراء، عليها بياض الأغنام وهي ترعى في هدوء، ترسم الحوافر على التراب المبلل رسم الحقيقة، أن قد مر إنسان من هنا.
أحبه الناس حبا لا مثيل له، أصبح أمينا بينهم، يمدونه و جدته بالمال، وهو لا يبخل عليهم بكل عمل يستطيع أن يقدمه لهم. ينهض باكرا ينظف الشوارع وأمام المحلات التجارية، لا يكل ولا يمل، ولا يظهر تعبا ولا ألما،
أصابه مرض شديد، أدخل المستشفى، يعتني به الأطباء و الممرضون كل العناية، يتنافس الناس على زيارته، يشترون كل ما يلزمه من طعام ولباس وأدوية، أصر أحد الأثرياء على أن يتكفل بعلاجه في إحدى الدول الأوروبية، لكن الطبيب المعالج أخبره بأن لا جدوى من ذلك.
بقي محافظا على ابتسامته رغم الألم الذي يعاني منه، اطمأن قلبه واستراح لأنّ كل الناس يحبونه، حتى أن كثيرا من بنات المدينة تمنينه زوجا.
حمد الله الذي أعطاه القبول في الأرض وأن السواد ضروري لرسم هذا الكون الفسيح الذي تمتزج فيه كل الألوان.
ولكن بعد شهر من العلاج شفي تماما ممّا كان يعاني منه، إلا أنه لزم بيته، لا يكلم الناس إلا قليلا، يتأمل في وجه كل من يزوره من الناس، في وجه القمر حين يرفع عن المدينة ظلامها الذي يكاد يلتهمها وهي غافلة..
ألحت عليه الجدة بالزواج، لكنه رفض الفكرة دون أن يقدم سببا واحدا..مدثرا روحه بالغياب..
في الصباح دخلت عليه لتوقظه من نوم طويل، لم ينم كل هذا الوقت من قبل،.وجدته ميتا متجها نحو القبلة ..يشير بالسبابة..
ورجّت المدينة رجاّ عند سماع خبر وفاته، اعتصر الندم القلوب على حقد دفين، وذرفت العيون دمعا يغسل ما علق من نظرات خاطئة.اجتمعوا مودعين سواده الجميل، مقبلين جبته الساجدة، حتى النسوة يلوحن بأيديهن للوداع، من نوافذ كانت مغلقة في كل الفصول، يعلن فصلا خامسا في سنة حزينة.
سار الجميع في توديعه، لا تجد موضع قدم في الطريق المؤدي إلى المقبرة. الكل يريد شرف حمله، راجين أن يغفر لهم على ما أسروا و ما أعلنوا من مكر في الليل والنهار.
وُرِيَ التراب..الإمام:
-أدعوا لأخيكم، إنه –الآن- يسأل.
ابتهل الجميع بالدعاء، بين رافع ليديه ومسدل..
كم دموع سالت على قبره، امتزجت بقطرات الغيث الذي رش المكان لدقائق معدودات، ليضيف للمشهد المهيب دلالة، ليذكرهم أن الحياة مستمرة..
انصرفوا إلى عالمهم وتركوه في عالمه، وقد سمع قرع نعالهم عائدين..