خرج من بيته خائفا على مصير أخيه الأكبر، الهارب من جحيم سلطات الاحتلال الفرنسي، يترقب وجهه الذي لم يره منذ أكثر من عام.
-أين أنت يا أخي؟، كم اشتقت لرؤية وجهك الجميل، أنت أبي الثاني، كم أنا بحاجة لعطفك وحنانك..أين أجدك؟..لعنة الله عليك يا محتل..
يراقب المُخْبِرُ الملقبُ بالثعلب خطواتِه، يجعل منه طعما ليقبض على أخيه، المتهم بتفجير محطة المسافرين. يجلس على كرسي خشبي في طرف الشارع، يدخن سيجاراته بغضب كأنه يصارع عفاريت من الجن.
-آه يا أخي ..لا أستطيع الحركة لأبحث عنك، وهذا الماكر يكاد يلتهم باب بيتنا العتيق بعينيه الزرقوين؟
..وصورك على الجدران والجرائد مثل مرشح وحيد في حملة انتخابية !!
أغلق باب غرفته على نفسه والحزن والشوق يحرقان قلبه، وصور الذكريات الجميلة ترسم من جديد لتزرع الابتسام تحت سيل الدموع.
في يوم ماطر، هزّ المدينة انفجار عنيف، صفارات سيارات الشرطة والإسعاف تتقاطع مع طقطقة المطر المتساقط برفق فأفسدت سنفونيته.
-يا الله..لا أثر لذاك الثعلب الماكر، إنها الفرصة السانحة للبحث عنك يا أخي..يا أبي..يا رفيقي..
ارتدى لباس أبيه حتى لا يعرفه أحد مستعينا بعصا جده، اتخذها سلاحا يدافع به عن نفسه من الكلاب الضالة.
شق طريقه بين الغابات والأودية، يبحث بين الأشجار والأحجار..
-يا الله..كن بجنبي ..ساعدني..
قضى يومه باحثا عنه، دون كلل أو ملل، حتى توارت الشمس بالحجاب، وبدأ يتلمس خيوط الليل مستعينا بالقمر وهو مكتمل الوجه مبتسما.
استغرب لماذا جاء إلى هذه الأمكنة البعيدة، ربما أن أخاه مختبئا في إحدى مساكن أصدقائه في المدينة. رغم شكوكه إلا أنه واصل البحث..حتى تمكن من التعب فاستسلم للنوم..
قبل الفجر، استفاق على قرع نعل جندي قام نحوه، أصابه رعب شديد، قام من مكانه، وتسلح بشجاعته مشهرا عصاه. اقترب الجندي وعلى وجهه ابتسامة عريضة.
-أخي الأكبر..نعم ..الحمد لله..كم اشتقت لك..
-وأنا أيضا..كم أنا مشتاق لرؤيتك مرة أخرى..تعال أعرفك على بقية رفاق السلاح..
كانوا كلهم من الشباب، كلهم حيوية ونشاط واحترام لقائدهم.
القائد: يا شباب..سأرافق أخي إلى المدينة لأ قضي معه ما بقي من الليل، كونوا يقظين فالعدو يتربص بنا..لا تنسوا موعدنا..
الرفاق:نحن على أتم الاستعداد أيّها القائد..
عاد معه وكله إعجاب بأخيه القائد. قضى معه ساعات كلها حب واحترام، نام بجنبه ممسكا بيده كأنه لا يريد أن يتركه.
مع طلوع الشمس، المخبر يطرق الباب بقوة ومعه لفيف من الشرطة، يتطاير الشرر من عيونهم الزرقاء، يشهرون أسلحتهم نحو الباب.
-أخرج أيها الملعون، أين أخوك مفجر القنابل..أين هو؟
فتح الباب.. دخلوا دون أن يسمعوا ردا منه، فتشوا في كل ركن من أركان البيت، قلبوا الأَسَرّة..
لم يجدوا أخاه، لا أثر له..كانت النافذة الكبيرة مفتوحة، تخترقها أشعة الشمس الدافئة..
صاح بأعلى صوته:أخي أين أنت ..لا تتركني وحيدا..
استيقظ مفزوعا، والعرق يتصبب من جبينه..
لا يزال يحتفظ بكل بقية تخلد ذكراه..