(منهج البيوجرافي* والتقارب الدلالي في ذات الشاعر )
قراءة نقدية لمجموعة(حلم في الذاكرة) للشاعر علي محمد الحسون
• السيرة الذاتية
تحقيق التوازن ما بين ذهنية فكرة النص والأطر الدلالية للنص الشعري تخلق أبعاد معنوية صورية تقارب الصورة إلى سيميائتها ، ويكون هذا لصالح لغة الصورية ومشهدية الحياة بتصاعدها البصري ، ما يؤدي إلى التحكم بالشكل ( الخارج) من أجل الارتقاء بالمحتوى الضمني ، لكي يبقى التوازن الدلالي ما بين الشكل والمضمون ، وهذا ما يحقق البينة الرؤيوية التي تنفتح على الاستعارة المركزية البؤرية للنص ،ما يجعل النص الشعري عنده: هو علاقة جدلية وتضافر فعال بين مستويات مختلفة من إيقاعية ولغوية تصويرية ، ضمن تأليف سيمفوني متكامل تلج عالم مبدعه الداخلي، فتتشكل لتخرج الصورة التي تكشف عن رؤاه للعالم الخارجي، وهذا ما نجده في مجموعة الشاعر علي محمد الحسون (حلم في ذاكرة ) وقد استطاع أن يكون نصوص خارج أنساق النصوص الاعتيادية بعمق الدالة الموحية بايجابيات الإنسان المتوحد مع روحة في زمن تزحف موانئه إلى شواطئ الروح بالغربة، وقد حقق نص توحيد العوالم الدفينة في داخل الذات الموحية بعمق تجربته في الحياة ، وقد شكل البؤرة محور أنساق الحلم في الذاكرة ،واستطاع أن يجعل من مساحة الحلم، هي الحقيقة الباقية في داخلنا وسط إرهاصات المكان حولنا، فجاء النص كلوحة سريالية عميقة المعنى في التكثيف الصورة الذهنية نتيجة تعاون كل الحواس وكل الملكات مع معرفته بمعاني اللغة المتقاربة، التي تحتم تقارب خطوط الصورة الشعرية ، فجاءت الكلمات شفافة بالمعنى ،عميقة بالرؤيا المعبرة عن أحداث حياته وانعكاس لمسيرته الذاتية ، وهذا ما يسمى في النقد الحديث (منهج البيوجرافي).ما جعل الاستعارة الفكرية ذات دلالات موحية بالرؤيا الذي أراده أن يصل إلى المتلقي ، وجعل النص لديه نص اللغة والصورة الشعرية ..
نص (جناية) ص 23
(يتوارى كأمواج تتلاشى /كأعوام مضت/شوارع أصابها العمى /تستقطب الندم /الفوانيس تتثاءب /لمحطات تتبادل الحقائب /سنابك الكوابيس تسحق خاصرة الليل./جهض الحلم /يغوص في شواخص الزمن العتيدة /يبحث عن تلك الرغبة /أثرت إلا الإصرار /لم تدرك معنى الجناية /نبتت في أرض سبخة ./بذرة ليس للزرع /بل طعم يسترسل منها نشوة / أين كان العقم !!)
الشاعر يتدرج في تحديد الحياة حين تكون غير شريعة وخارج القيم الإنسانية، لا تنتج إلا الولادة غير شرعية والمشوهة ، وقد أتخذ من تصوره الإدراكي تحديد المعنى لكي يقارب الفعل الدلالي الذي ينمو وفق سياقات الحدث المشهدي في الحياة ، وتم هذا من خلال الحوار الداخلي لكي يكشف كل ما يحيط به من مسيرة الحياة ، مع كل ما مر به في حياته(كـأعوام مضت ) لهذا نجده يفقد الأمل بالوصول إلى لحظة التصالح مع الواقع ، لكي يبين تداعي الحدث ونموه ، يناظر سيرته في الحياة مع كل ما يشهده في كل أعوامه ، فكل شيء يتلاشى و يبتعد من قيمة ، وقد أستخدم الاستعارة الأشارية لكي يوصل الدالة إلى مدلولها دون أن يتدخل في تحريكها اتجاه ما يريد لكي يتم كشف الأزمة التي يراها تتسع وتكبر ، ويجعل هذه الأزمة هي الدالة التي تنمو من أجل تحديد مصائر الإنسان في حياة تغيب عنها القيم ،فكل شيء أصبح عاطل عن الحياة ، حتى الشوارع أصابها العمى ،الضوء الشوارع صار مجرد فوانيس تتثاءب في طريق الضوء فأصبح كل شيء غير واضح وغير حقيقي، وهذا ما جعل الليل يتحول إلى كوابيس ، ما أدى إلى أجهاض الأحلام وتحولها إلى شواخص وعلامات تدل على الموت والتراجع في كل شيء حوله ، و قد أستدل على كل هذا من خلال الحياة التي تحولت فيها الدلالات إلى فوضى وأخذت الحياة تتراجع إلى الوراء ( الزمن العتيد)وقد أستطاع الشاعر أن يؤشر هذا التراجع من خلال الأستدال من خلال الزمن الماضي ، والتلاشي هنا هو التراجع والغياب التام في كل شيء حوله ، لأن المستقبل لا يتلاشى وهو لم يعيشه ، وقد حقق هذا من خلال تصوره الفهمي في بصرية الصورة الذهنية لحوارات وفق الدلالات المثبتة للمعنى (يتوارى كأمواج تتلاشى /كأعوام مضت/شوارع أصابها العمى /تستقطب الندم /الفوانيس تتثاءب /لمحطات تتبادل الحقائب /سنابك الكوابيس تسحق خاصرة الليل./جهض الحلم /يغوص في شواخص الزمن العتيدة)لكي يحدد حجم الصورة الكاملة وفق أنساق الامتداد البصري الذي ظل ينمو ويأخذ المساحة المدركة في محسوسات الشاعر والتي هي مرحلة التأويل أو الاستعارة لمقاربة إحداث الانزياح الصوري في تشكيل نصه الشعري ، ومن أجل أن يثبت كل هذا ويعطي الصورة اليقينية في مداركه البصرية ، يأتي بصورة الفوضى والرغبات غير الإنسانية والإصرار على الإتيان بالجناية، التي لا تنبت في الأرض سوى بذرة مشوهة ، وهي ليس للزرع بقدر ما هي جناية تؤدي إلى الضياع والفسق وولادة أبناء غير شرعيين لم يأتوا إلى الحياة إلا من خلال البحث عن النشوة (يبحث عن تلك الرغبة /أثرت إلا الإصرار /لم تدرك معنى الجناية /نبتت في أرض سبخة ./بذرة ليس للزرع /بل طعم يسترسل منها نشوة / أين كان العقم !!)بعدها يطلق صرخته عن كل هذا أين كان العقم ، وهذا أشارة إلى أن الكثير من الناس الصالحين يبحثون عن الولادة ولا يجدونها لأنهم أصابوا بالعقم ، وبصرخته هذه قلب المعنى إلى احتجاج ضد الحياة ، وأشر القيمة المعنوية التأويلية العالية في بنيان نصه وفق الرؤيا الفكرية لموضعة المعنى ضمن مساراته النصية.
نص (فك ارتباط( ص 57
(أسراب هوس تحلق /فوق الريح / أشواك رحم /تنمو في خاصرة الضيق / يختنق الليل / يجهض الحلم قبل أن تغمض العين /الملاذات كلها منكوبة /حالة طوارئ / غادرتها الفضاءات / لعدم رحابة التيه /يكدح القلق / شرر يتطاير يحرق الخريف /يتشتت الصقيع يضيع /متشبث برغبة فك الارتباط /غادر الرحيل )
يتخذ الشاعر من الشعر الطاقة التـأويلية لمسيرة الحياة حوله، لكي يبحث عن المعنى فيها ومن أجل كشفها وإعطاء الحقيقة المخفية في حركتها، لأن الشعر هو اللغة الذاتية المعبرة عن الهواجس الكامنة فينا، وكلما أدركنا هذه الهواجس كلما كان النص أكثر اقترابا من وعينا لكي يحدث التقارب مع رموز اللاوعي حيث تتحول اللغة إلى رموز وبناء لكل المدارك الذهنية عند لحظة كتابة الموضوع الشعري للنص،ويستمر الشاعر بتحدد أوجه الحياة حين تكون غير ملائمة في عيش الإنسان لأنها بعيدة عن الشروط الإنسانية الحقيقية ، ويطرح في هذا النص ما المعنى من وجوده في الحياة وهي تضيق عليه كل شيء ، و تصبح لا شرعية في حياته لأنها لا تتوفر فيها القيم الحقيقية ،ويستمر الشاعر بطرح أزمات الإنسان بكل أبعادها الإنسانية بشكل تصاعدي أدرامي إلى حد تتسع المعاني وتأخذ شكلها الدلالي في المعنى الذي يبين فيها حجم ضياع الإنسان حين تكون الحياة التي يعيشها بعيدة عن ما يريد أن يعيش كإنسان وبعيدة عن أحلامه وتهمشه وتضيق عليه حريته . فبقدر ما طرح هذا في نصه السابق ، يطرح في نصه هذا ، حين تكون الحياة ضيقة لا يستطيع أن يعيش فيها بحرية وتؤدي إلى استلاب حياته وضياعها خارج القيم الحقيقية التي يريد تكون في منهجية حياته (أسراب هوس تحلق /فوق الريح / أشواك رحم /تنمو في خاصرة الضيق / يختنق الليل / يجهض الحلم قبل أن تغمض العين /الملاذات كلها منكوبة /حالة طوارئ / غادرتها الفضاءات / لعدم رحابة التيه /يكدح القلق) كل هذا يدعوه إلى الثورة ضد كل من يحاول أن يسيطر على حياته , ويسيرها حسب مزاجه ورؤاه التي هي بعيدة عن أهداف الحياة الحقيقية ، ولا يسمح له أن يعيش كما يود أن يعيش ويحاول أن يضيق عليه ويهمش حياته كإنسان فيتطاير الشر ويحرق الخريف ويثور ضد كل هؤلاء (شرر يتطاير يحرق الخريف /يتشتت الصقيع يضيع /متشبث برغبة فك الارتباط /غادر الرحيل ) الشاعر يبني نصوصه على تحكم بالمعنى الذي يعطي التأويل الدلالي وفق مقارباتها التناظرية لفكرته التي بني عليها النص ،أي أنه لا يراكم الجمل الشعرية بقدر ما يجعل هذه الجمل تتناسل داخل المعنى وتمتزج مع بعضها لتخلق المعنى بشكل انسيابي ، كما لا يجعل المعاني تزدحم داخل النص بحيث تفقد بؤرتها المركزية لفكرته التي يسعى إلى أثباتها وهذا ما يمنح النص إيقاع وتجانس وتناظر مع الدلالة التي يريد أن يوصله إلى القارئ …
نص (مهد ) ص 99
(مكبلة يد الريح /. الطواحين أضحت تسأم الركون /صداع يكتنف الوجع / المهد يتوسده العقم / ينشطر الضحى / يختل توازن الضياء /تعربد الذكريات بغضاضة الانتقام / لا يبرح الدخان الأسود /يبقى كراية حداد / ينعي تلك الوجوه التي مرت / مرور السحاب / إلى متى تستغفل العاطفة؟ /تنقاد / نحو الهاوية /طريق ينعق به الفراغ / أقفاص من ظل تحاصر الرؤى /والدموع تخدش الحياء )
بعد أن أشر الدلالات التي تبين الجوانب الكثيرة من الحياة ، فبعد أن عمق الدلالة في الحياة حين تكون العيش فيها دون القيم الحقيقة ، التي يعيش فيها الإنسان بحاله غير شريعة ، أستمر يؤشر حالات التي يعيشها الإنسان ومنها فقد الحرية في حياته الاجتماعية . أستطاع الشاعر أن يوحد البؤرة النصية داخل نصوص المجموعة ، ويجعلها تتناسل بشكل أفقي لكي يطرح كل ما يراه في الحياة، حين تكون ضد الإنسان إلى حد تفقده حريته ، وأستطاع أن يبني النصوص الانبثاقية التي تسلسل المعنى في مسيرة الحياة الإنسان ،ليشكل سلسلة من المرئيات الصورية في بؤرة التحسس الذهني لمدارك الحياة التي تبعد الإنسان عن حقه في الحياة ، وفي هذا النص تنبثق التصور في أحداث على كل ما مر به من مشاهد بصرية ،ليعلن الثورة على كل هذا المراحل التي مر عليها وجعل من سيرة الحدث المعبر عن كل حالاته ، وقد حقق الدلالات دون أن يتدخل في صيغتها بقدر ما ينقلها بطريقة جمعها وفق تسلسل سيرته الذاتية ، حيث حدد ما في ذاكرته وجعلها حرة في النمو والتسلسل ، وحسب تصوره الفكري المرتبط بحالاته الباطنية لكي يعيد صياغتها وفق نسيجه الشعري ، ليثبت التأويل الدلالي حسب منهجية رؤاه وتحسسه للمرئيات حوله ، وبعد كل هذا يحد أهداف الثورة على كل ما يسلب حياة الإنسان وفق معناه ومخيلته الرؤيوية ،و يحدث الانتقام ضد من يكبل ويسبب الوجع ، حتى ينتشر السأم ويختل التوازن، لهذا تأتي الثورة من أجل تغير الحياة باتجاه تحقيق آمال الإنسان وعادة حياته الحقيقية (مكبلة يد الريح /. الطواحين أضحت تسأم الركون /صداع يكتنف الوجع / المهد يتوسده العقم / ينشطر الضحى / يختل توازن الضياء /تعربد الذكريات بغضاضة الانتقام) ولكي تغير كل حالات الاستغفال والدخان الأسود الذي يسيطر على الحياة ، ما يجعل الأسود يسيطر عليها كريات ، و تتحول الطرق إلى ناعق بالفراغ للحياة من قيمها ، وتحاصر الفكر والرؤيا ، فلا يبقى سوى دموع تخدش الحياة ، لهذا يجب أن تحدث الثورة ويحدث التغير (لا يبرح الدخان الأسود /يبقى كراية حداد / ينعي تلك الوجوه التي مرت / مرور السحاب / إلى متى تستغفل العاطفة؟ /تنقاد / نحو الهاوية /طريق ينعق به الفراغ / أقفاص من ظل تحاصر الرؤى /والدموع تخدش الحياء ) وأستطاع الشاعر أن يجعل من سيرته الذاتية البؤرة التي تسلسل الحدث حسب رؤاه و تناميها ضمن أفقها المعنوي من خلال استخدام الإيحاء الرمزي واستخدام الأنزياحات التكوينية ، لكي حقق التأويل الدلالي ضمن فكرته ، وربط الشاعر جميع نصوصه ببؤرة خفيه تتطور وتتصاعد حسب الحالة التي يعيشها وقد أستطاع أن يحقق المعنى الجمعي لكافة النصوص المجموعة في حلم في ذاكرة ، لأنه لم يحدد هذه الذاكرة وقد حقق حالات الحلم التي تؤرخ سيرة الإنسان في الحياة والأسباب التي تؤدي إلى إخفاقها في كل هذه المسيرة .