سقوط .. / زهراء /
عُلقت “”الـ شكارة “”على سور المدينة
حين هَبََط َالليل ، انتزعَها ..
وقبل أن يطْلق ساقيه للريح
سقطت المدينة ..
**********
القراءة / عايده بدر
هل يمكن أن تكون مفردة ما هي بطل الومض السردي؟ ولعل نصك هذا أجاب على سؤالي .. فتيمة السقوط التي اشتغل عليها النص حققت له اتجاهين ليسا مختلفين لكنهما يصبان في جهات متعددة فقد حققت الإيجاز والعمق في ذات الوقت
لم تقتصر الزهراء فقط على اختيار هذه التيمة القوية لكنها أيضاً استخدمت أدواتها الاحترافية في تشكيل البناء مستخدمة نفس المفردة بأكثر من صورة … فقد جاء السقوط في النص بهيئتين مختلفتين : بهيئة اسم مرة نجدها في العنوان “سقوط” ثم بهيئة فعل مرة أخرى نجدها في جملة “سقطت المدينة”
وربما هذا ما منحنا العمق الذي نستشعره فالسقوط بهذا الشكل تم على مستويين مختلفين أيضا : فهو سقوط مادي وسقوط معنوي بذات الوقت
وسندرك من خلال تتبعنا لخط النص هنا كيف أن مفردة واحدة بإمكانها أن تصبح هي بطل الومض السردي بكل جدارة … وكانت فرادة العنوان في اختيار حالة التنكير “سقوط” وليس “السقوط” فإن حالة التنكير إذا جاز لنا هذه التسمية تعطي معنى غير قابل للتحديد بحدود معينة فهذا السقوط ليس يعني حالة محددة .. هذا السقوط يتجاوز الحدود الجغرافية لمكان بعينه والحدود البشرية لفرد أو مجموعة محددة الأسماء … وشخصياً أميل دائما لاستخدام العناوين النكرة للمساحة المتسعة التي تمنحها
يمكننا تقسيم النص إلى ثلاث مراحل متتالية:
المرحلة الأولى: عُلقت “”الـ شكارة “”على سور المدينة
المرحلة الثانية: حين هَبََط َالليل ، انتزعَها
المرحلة الثالثة: وقبل أن يطْلق ساقيه للريح
سقطت المدينة
عُلقت “”الـ شكارة “”على سور المدينة
والشكارة كما عرفتها لنا الزهراء هي المحفظة المالية …. علقت على سور المدينة .. الصورة الأولية التي انتابتني وأنا أقرأ أن هذه المحفظة المالية سقطت من جيب أحدهم … ولما وجدها آخر وضعها فوق أحد الأسوار ليعود إليها صاحبها وقت يكتشف فقدها
حين هَبََط َالليل ، انتزعَها
لعل هذالا يكمل الصورة الأولية .. فالمحفظة موضوعة فوق السور وبهذا الشكل قد تكون متاحة لأي يد تنتزعها أو أقلاً هي تغري أصحاب النفوس الضعيفة بالاستيلاء عليها .. وهذا ما حدث .. يبدو أن أحدهم انتزعها .. لم أتجه بفكري إلى أن يكون صاحب المحفظة هو نفسه الذي عاد ليلتقطها ويستعيد ماله
ذلك أن المفردات التي استخدمتها الزهراء هنا “هبط الليل” و ” انتزعها” توحي تماماً أن من قام بهذا الفعل لم يكن صاحبها وإلا لجاء في وضح النهار يبحث عنها ويلتقطها من فوق السور بأمان .. لكن تزاوج الانتزاع بانتظار معهبوط الليل أكدوا جميعاً على أن أحداً آخر غير صاحبها هو من انتزعها
وقبل أن يطْلق ساقيه للريح
سقطت المدينة
رغم أن الفعلين هنا (يطلق ساقيه / سقطت المدينة) متتاليين ويوحيان بالارتباط بينهما كالقاعدة النحوية “أداة الشرط” .. إلا أن سقوط المدينة هنا لم يرتبط بإطلاق ساقيه للريح .. لكنه ارتبط بالدرجة الأولى بانتزاع المحفظة من فوق سور المدينة
إن إطلاق ساقيه للريح يعود ليؤكد مرة أخرى على أن من انتزع المحفظة لم يكن صاحبها وإلا لما فكر بإطلاق ساقيه للريح والهرب بغنيمته
نأتي للجزء الأخير والنتيجة والمحصلة من تتابع هذه الأفعال … فكان “سقوط المدينة” وهنا نقف وقفة تأمل لأن سقوط المدينة يمكن أن يحدث على أكثر من مستوى
إذا كان سقوطاً مادياً أو معنوياً أو الاثنين معاً
هل نتصور أن سور المدينة وهذا رمز حمايتها وحصنها يسقط من جراء سقوط محفظة في يد لص؟! يمكن أن نفسر السقوط هنا بأنه سقوط معنوي أخلاقي فقدت فيه المدينة أدني صلات الترابط بين أفرادها فانتشرت أخلاق وصفات رذيلة ولم تستطع المدينة بصخبها وازدحامتها وانشغالاتها
يمكننا أيضا ان نقرأ سقوط المدينة بصورة مختلفة حيث أن السقوط قد يكون بمعنى الهبوط والاجتماع فكأن المدينة سقطت على رأسه أي اجتمع أفرادها حوله وأمسكوا به قبل أن يهرب
يمكن أيضا أن نقرأ سقوط المدينة سقوطا بأنه انهيار للمدينة وهنا ستعني “الوطن” وليس فقط “المدينة”وأن تلك المحفظة “الشيكارة” لا تعني فقط الأشياء المادية كالأموال لكنها أيضا تعني كل ما يملك الوطن من مقومات وهي ليست ملكية فردية بل ملكية عامة لجميع مواطنيه وحقه عليهم حمايته من لصوص الأوطان .. ذلك أن سرقة الوطن سبب أدعى لسقوطه وانهياره؟
روعة النص هنا تكتمل بهذا التوازن الذي خلقته في هندسة البناء فاستخدامك لمفردات قريبة لذهن القارئ وحتى حين استخدمتِ مفردة دارجة في اللهجات المغربية أشرت إليها في الهامش … هذه المفردات القريبة مع ما حمل النص من رسالة قوية منحته هذا العمق الذي تعودناه من نصوصك المتميزة … كذلك فإن استخدامك المتنوع للأفعال في أزمنتها مختلفة ما بين أفعال الماضي والمضارع جعالت المساحة الزمنية للنص لم تنتهي في الماضي بل هي تتجدد مع تجدد دلالة المضارع الذي نعيشه … وكان استخدام المبني للمجهول في بداية النص قد أغلق على السؤال الذي من الممكن أن يأت في خاطكر القارئ ” من هو الذي وجد الشيكارة وعلقها” لأن الغرض من رسالة النص لم يكن في التركيز على من وجدها بقدر ما كان الهدف المطلوب أنها وجدت وعلقت وهي أمانة في أعناق سكان المدينة فماذا سيفعلون.
الحديث يطول مع حرفك القيم فأشكرك للسماح لنا بمشاركة ارهاصات الروح العاشقة للأوطان
تقبلي محبتي الدائمة وكل تقديري لروحك الغالية
ولحرفك الراقي الذي أستمتعت بالجلوس معه تحت صوت المطر أمس
والعذر الكبير منك إذا فاتني منه شيئاً
كل محبتي وعظيم تقديري واعتزازي
عايده
11-10-2021