إنشقاق أخير
كان يعلم بانشقاقه منذ الخشبة الآولى . قال لا تقرب هذه الشجرة فتندم ، لكن آدم المفتون بالأسماء قطعها ، وما إن فعل ، حتى راح ينقسم إلى ما لا نهاية .. بكى آدم إلى ربه حسرانا .. قال يا رب أنجني مني .
سمع الرب دعاءه ، وحزن لذلك كثيرا .. قال اركب السفينة وحيدا ، ثم خرج منه إلى الأبد .
*******
(انشقاق أخير) لعل العنوان يتناسب مع قفلة النص (خرج منه إلى الأبد) حيث الأخير والأبد يعطييان دلالة القرار النهائي الذي لا رجعة فيه… فهل هو حقا (انشقاق أخير)؟ وقت قرأت الومضة أول مرة قرأتها (انشقاق آخر) فما أكثر انشقاقات الإنسان عن نفسه وعن عالمه وعن ربه ولكني تراجعت حين انتهيت منها إلى موافقتك للعنوان (انشقاق أخير).
(كان يعلم بانشقاقه منذ الخشبة الاولى) رغم أن مفتتح النص لم يذكر اسم بطل الومضة إلا فيما بعد ..لكن من العنوان والمفتتح أدركت أن آدم هو المعني … وكنت أفضل لو لم يتم ذكره صراحة ليس لسبب ديني لكن حتى نبعد بالنص عن المباشرة ولأنه من تتالي الأحداث سيكون معلوماً من هو.
وقت قرأت (الخشبة الأولى) ذهبت إلى المرويات القديمة والأساطير حيث آمنوا أن أول الخلق تم من شجرة باعتبار الشجرة رمزاً لديمومة الحياة .. وأن أول مخلوقين نبتا منها كانا (رجل وامرأة) على اختلاف مسمياتهما تبعاً لتعدد الأساطير … أوحت لي العبارة الأولى بالخلق من الشجرة .. ولأن آدم الذي نعلمه من خلال الأديان السماوية قد عُلم كل الأسماء والعلوم فلم يكن غريباً أن يعلم أنه خرج من صلب شجرة من الخشبة الأولى.
تظهر الشجرة مرة أخرى وفي المرويات الدينية أن الشجرة المنهي عن الإقتراب منها كانت شجرة المعرفة ونُهي آدم عن الأكل منها (قال لا تقرب هذه الشجرة فتندم ) تبدو العبارة منقولة بتصريف بسيط عن الكتب السماوية وبنفس أسلوب كتابة العهد القديم
فالندم مصير آدم لو اقترب لكنه لم يقتنع بالتحذير وتمادى في الاقتراب .
(لكن آدم المفتون بالأسماء قطعها ) تركيبة رائعة (آدم المفتون بالأسماء، المفتون بالبحث والمعرفة لا يهدأ ولا يرضى وكلما أدرك شيئا سعى لما بعده ، وربما ستكون هذه إجابة السؤال الذي خطر في ذهني : على من يعود الضمير(قطعها) وأظن هنا أنه يعود على شجرة المعرفة .. هل قطع الشجرة؟ ولماذا؟
ربما قطع الشجرة لأن معرفته أصبحت أكبر من تلك الشجرة .. فتننته بالأسماء والمعاني والمعارف والعلوم جعلته أكبر من المعرفة وأقصد هنا المعرفة المتاحة له … هل يعني هذا أن آدم أدرك أن الشجرة التي نُهي عن الأكل منها ليست إلا معرفة محدودة جداً وأنه من خلال سعيه الدؤوب توصل إلى ما بعد المعرفة … أو كما تقول التواره أن الرب خاف أن يأكل آدم من شجرة الحياة فيعرف الخلود بعدما أكل من شجرة المعرفة وعرف الخير والشر؟
لكن لماذا قطعها؟ ربما حتى لا يتوصل أحد بعده لما توصل إليه ؟
إن آدم (والمقصود به الإنسان) هو نفسه قد انقسم إلى عدة طبقات … العالم الذي نعيشه هو عالم آدم الطبقات .. هناك آدم العالم الأول وهناك آدم العالم الثالث … وما يعرفه هذا لا يجوز للآخر معرفته … ومن هنا قطع آدم المفتون بالأسماء شجرة المعرفة بعده… ولعل العبارة التالية لها تؤيد انطباعي (وما إن فعل ، حتى راح ينقسم إلى ما لا نهاية) فانقسامات آدم ممكن أن تتم على عدة مستويات:
يمكن أن نقرأها على المستوى انقسامات الجسد فآدم هذا هو أب لكل البشر اجمع وهنا تكون الانقسامات جسدية (انقسامات الخلية الأولى للحياة في كل جسد ).
يمكن أن نقرأ انقسامات آدم على أنها انقسامات روحية ونفسية .. فكل ولد آدم يحملون ثلاثة أنواع من النفوس داخلهم (كأنها انقسامات النفس ما بين نفس مطمئنة وأخرى لوامة وثالثة آمرة بالسوء)
ويمكن أيضا ان نقرأ انقسامات آدم بصورة مادية وجودية كما أشرت مسبقاً لانقسامات العالم (عالم آدم) إلى عوالم مختلفة وطبقات غنية وفقيرة / متبوعة وتابعة / عالمة وجاهلة/ عالم أول وثاني وثالث وووو
إن عبارة (ينقسم إلى مالا نهاية) تعطي دلالة التشظي بلا وعي ولا إدراك وانفلات الأمور من بين يديه … فبعد عبوره عالم المعرفة إلى ما بعدها … لم يعد هناك حد يقف أمامه … فهذا العبور الذي عبره آدم لم يعد للعوالم المادية والروحية وما بعدهما … بل أصبح آدم يريد أن ينافس الرب في خلوده تماما كما سطر العهد المقدس (عن خوف الرب من منافسة آدم له في الخلود )
(بكى آدم إلى ربه حسرانا .. قال يا رب أنجني مني)
كانت خطيئة آدم الأولى التي استتاب من أجلها هي أنه قال شيئاً وفعل شيئاً آخر.. قال لن آكل من الشجرة المنهي عنها لكنه فعل وأكل لذلك قال انجني مني لأنه يعلم بما لديه من علم أنه من يودي بنفسه إلى المهالك فطلب من الرب النجاة .. وعند البعض فإن (الشر من أنفسنا والخير من الله ) .. كان هذا آدم الأول فما بال الانقسامات منه لم تتحسر ولم تطلب غفرانا ولم تسأل النجاة ومازالوا في غيهم .
(سمع الرب دعاءه ، وحزن لذلك كثيرا .. قال اركب السفينة وحيدا ، ثم خرج منه إلى الأبد)
سمع الرب دعاءه وحزن عليه والحزن بمعنى الشفقة على هذا المخلوق الضعيف الذي يظن نفسه امتلك العلم والمعرفة .. وفي الموروث الديني ظهر الطوفان كحل لمعضلة الخطيئة الاولى … وجاء نوح ليبدء خلقاً جديداً وأن الرب قرر منحه فرصة أخرى ليبدأ حياة جديدة … وهنا ظهرت إشارة “السفينة” إلى سفينة نوح وبدء الخلق الجديد …
ودة مرة أخرى للشجرة .. فالسفينة تم صنعها من خشب الشجرفتكون السفينة هنا هي نفسها شجرة النجاة ويصبح لدينا شجرة الخلق وشجرة المعرفة وشجرة النجاة … فالشجرة نجاة للإنسان … وفي الحديث المروي: إذا قامت الساعةُ وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها… دائما تعود إلينا الشجرة حتى لو كانت الحياة في طريقها للنهاية الأخيرة تبقى الشجرة .
لكنه هنا (قال اركب السفينة وحيداً … ثم خرج منه للأبد) كيف تكون هذه فرصة للنجاة؟ اذا ركب السفينة وحيداً؟ ولم يكتف بهذا بل (خرج منه للأبد) القفلة التي انتهت بها الومضة هنا على خلاف كل المعارف والمفاهيم المتوارثة … فلا نجاة هنا ولا فرصة لحياة جديدة .. ركوب السفينة وحيداً كانت تتم للموتى فقط كما جاء في الأساطير الإغريقية القديمة … حيث يسجى الجسد فوق خشبة بشكل قارب/ سفينة ويرسل وحيداً إلى حيث يستقبله خارون الموكل بعبور أرواح الموتى إلى العالم الآخر ويقبض ثمن هذا العبور عملة فضية في فم الميت وفي بعض الروايات الأخرى توضع فوق عينيه … لعل هذا يفسر (خرج منه للأبد) أي أن الروح التي نفخها الرب في جسد آدم حين تغادره فقد غادره للأبد … فهذه السفينة هذه المرة لن تكون سفينة الحياة/ شجرة الحياة بل هي سفينة الآخرة / شجرة الآخرة … ومن هنا جاء العنوان (انشقاق أخير) حيث يسدل الستار الأخير على الحياة ..
مبدعنا القدير أ.ابراهيم شحدة
أحييك بداية على هذا النص البارع لفت نظري من أول زيارة له
راقني كثيرا تقمصك لأسلوب العهد القديم في بناء ومضتك … منحتها بعداً تاريخياً مغايراً .
قد تبدو هذه الوقفة المتأملة لنصك شطحت بعيداً عن مقصدك منه أو حتى الدائرة التي رسمتها لحدوده .. بعض النصوص تحفز العقل على التحليق خارج الصندوق
تقبل تقديري ومودتي
15 اكتوبر 2021