قراءة في ( مدينة الحزن ” حلبجة”) للشاعر شينوار ابراهيم
النص:
مدينة الحزن
“حلبجة”
شينوار ابرايهم
سـنون مضت
دمعة حزن لم تجف
على أرواح
اختنقت
في أحشاء ربيعٍ
أصفر …
مطر قاتل
أنهار من الدماء
صنعتها عواصف الحقد
لرجل عشق القتل…
بناره
أحرق
أجساد الكورد …
قتل الشمس
في عيون
امرأة
تحمل طفلا
تترقب
قدوم نوروز
في محراب آذار …
بين أزقة
حلبجة
مدينة الحزن
في سماء كردستان …
غيوم سوداء
لهيب
حداد طويل
أنهار الوجع
لم تجرف معها
حزني على خدّ
نرجسة
ماتت
في حضن طفل
في بطن
أمه
يحلم بقدوم نوروز …
القراءة / جوتيار تمر
للعنوان “( مدينة الحزن) حلبجة”
الشاعر عندما يلتجأ للشعر ليعبر عن عوالمه الداخلية وليؤثث فضاءاته بالصور التي تنتجه اللوحة الشعرية والتي تتكئ على ما رصده وما عاشه وما يتأمله فانه يخلق عالماً مليئاً بالمشاعر التي تنبأنا بما ذاقه الشاعر من ألالم والمعاناة منذ العتبة الاولى التي تؤشر لنا العنوان “( مدينة الحزن) حلبجة” متداخلاً في جدلية الصورة واللغة الشعرية ، لذا لانتوقع من المضمون ان يخرج كثيرا عن هذا المسار الوجعي .
سـنون مضت
دمعة حزن لم تجف
على أرواح
اختنقت
في أحشاء ربيعٍ
أصفر …
مطر قاتل
أنهار من الدماء
صنعتها عواصف الحقد
لرجل عشق القتل…
الاستهلال الظرفي الزمني جعل من النص اشبه بمشهد درامي حكائي في وهلته الاولى، وكأني بالشاعر يريد ان يرسم للواقع العياني الذي رصده وعايشه وحرك مشاعره ووجدانه، لوحات واقعية ليمزجه بخيال الابداعي والابتكاري للتصوير ، حيث بين الواقع والشعر مرارة كأنها مسيرة انسان من ان برز عنده ملكات الوعي والاحساس الانتمائي، لذا نجد الشاعر يتبع منحنى مختلفاً خاصا به وبتجربته الشعرية، ليرصد لنا الواقع بدقة وتفصيلية يتخللها ايماءات وايحاءات تشير بوضوح الى قضية شعب ومعاناة اجيال جراء استبداد وظلم لامنتهي، وقهر واضطهاد خلف وراءه انهراً من الدمع الذي لم يجف الى وقتنا هذا، حداداً على تلك الارواح التي احرقت اجسادها.. بغير ذنب.. فكان وصف الشاعر للحالة بليغاً واعياً ودقيقاً لكونه رصد ضمن جغرافية الزمنية والحدث بعض الايحاءات التي من خلالها يمكننا رصد المكانية ايضاً ” احشاء ربيع اصفر، مطر قاتل، دماء، لرجل ، القتل..”، كل هذه الايحاءات ترمز بدقة ووضوح الى المأساة التي صدعت ضمير الانسانية وقتها، ووصمت جبينها بالعار الازلي الذي لايمكن ان يغسله صلب مئات الرسل والانبياء، فالحقد الذي حمله رجل السلطة ونقله بدوره الى اذنابه خلق ملامح هذه اللوحة ربيع اصفر ومطر قاتل وانهار من الدماء، هذه الوصفية القاتمة ليست مجرد كلمات تصف واقعة انما هي ترسبات تنامت ضمن جغرافية لم تزل تعاني مآسي امثال لك الرجل العاشق للقتل الجماعي.. ولقد استطاع شاعرنا من التقاط الصورة المناسبة التي تظهر لنا ماهية الحدث الذي اعتمده الشاعر كمادة شعرية، وماهية الواقع الذي ترتب على الحدث الشعري نفسه:
بناره
أحرق
أجساد الكورد …
قتل الشمس
في عيون
امرأة
تحمل طفلا
تترقب
قدوم نوروز
في محراب آذار …
النار هنا ملازمة لماهية الرجل العاشق للقتل، لان من تبعيات القتل حسياً خلق حرقة في صدر الانسان، ولكنها هنا نار ملطخة بوصمة عار ازلية لذا فهي ليست نار عادية انما هي نار محملة بالحقد الانتمائي والعرقي من جهة وبالتعطش الى الدماء من جهة اخرى، ولذلك نراها نار لم تلتهم شخصاً او مدينة او جيلاً، انما هي نار ستبقى تحرق وجدان اجيال تنتمي الى الارض والقومية ” الكوردية” باعتبارها كانت المستهدفة من ذلك الفعل الاجرامي المتمثل بالابادة الجماعية التي اقترفها الرجل العاشق للقتل واذنانه، ولننظر معاً الى الصور التي ارادنا الشاعر ان نتعايش معها ليس ليجذب تعاطفنا بل ليجعلنا نعيش المأساة بواقعها الحقيقي الصوري والدلالي والشعوري ” احرق اجساد الكورد..قتل الشمس في عيون امرأة تحمل طفلاً..تترقب قدوم نوروز في محراب اذار..” فالكلمات احرق،، قتل،، تترقب،، هي افعال ذات ايحاءات حركية واضحة يمكن من خلالها القيام برسم مخطط بياني يعطينا الوصفة الملازمة للحراك الحدثي الشعري، بحيث نعيش وقعها كلياً فالحرق كان لاجساد الكورد..اذا هو حرق عرقي عنصري ..نتج عنه قتل الشمس.. وهنا رمزية تتخطى الصورة المتاحة لكونها تضعنا امام مخيلة تعددية فقتل الشمس ليس فعلي انما هو مجازي يعني قتل الامل ، قتل الحياة، قتل النور،، لذا نجده يتبع قتل الشمس ويربطه بعيون امرأة وهذه المرأة تحمل طفلاً.. اذا تحمل حياة.. وهنا يظهر مدى روعة الشاعر في وصفه للحالة، حيث يتبع القتل الذي يعني انهاء حياة.. بولادة حياة.. وهذه الولادة لاتأتي الا بالانتماء الى الارض التي في اذار تعيش اوجاعها وافراحها معاً حيث نوروز التي توحي بالبداية الجديدة واليوم الجديد.
بين أزقة
حلبجة
مدينة الحزن
في سماء كردستان …
غيوم سوداء
لهيب
حداد طويل
الشاعر هنا يترواح بين ذاتية الحدث وشموليته فهو حين يضع حروفه ليسجل مشاعره فوق رقيم من طين محروق بنيران حقد العصبية يجعلنا نعيش الواقع بكل تمفصلاته، وهذا ما يستدعي بالضرورة اللجوء الى المكانية لتوظيف الحالة وفق معطيات زمكانية سابقة الذكر، لهذا نجدنا هنا نعيش الصورة الشعرية ضمن اطار جدلي واقعي حتمي، حيث الازقة هنا تنطق وترسم الملامح الاولية المنطلقة من العنوان نفسه، لتضعنا امام زمنية جامحة داخل اطار جغرافي مكاني ملتهب ومحترق “ازقة، حلبجة، كوردستان” وولادة مدينة الحزن ..وما الغيوم السوداء الا صورة ناطقة لماهية اللهيب والحداد الازلي الذي لم نزل نعيشه كلما مر علينا ذكرى مدينة الحزن وهو حداد سيرافق الاجيال :
أنهار الوجع
لم تجرف معها
حزني على خدّ
نرجسة
ماتت
في حضن طفل
في بطن
أمه
يحلم بقدوم نوروز …
وها هي النموذجة الذاتية الملتحمة بالشمولية تظهر هنا بوضوح حيث الشاعر قبلها كان يرسم ملامح مدينة الحزن وازقتها وكوردستان واذا به الان يضع نفسه موضع الراوي الشاهد الذي عصفت به الاحداث فاحدثت شرخاً في وجدانه المكلوم، لكن حزنه ووجعه لم تسعف النرجسة ولا الطفل في بطن امه حيث نيران الحقد التهمتهما، مما اودى بالذات الشاعرة هنا اللجوء الحلمية ليضع حداً لمسار الحدث الواقعي الموجع، وليضع بذلك بداية لنهاية مأساوية علها ترسم ملامح اخرى لطفولة ونرجسة تأتي فتعانق الحرية والحلم الآذاري النوروزي الذي مازلنا كلنا ابناء كوردستان ننتظر بزغ فجره.
جوتيار تمر