قراءة في كتاب صاحبة السّعادة
للشّاعر عبد الحق بن رحمون
بقلم- بسمة مرواني-
جماليات خازن نار اللوعة في قصائد للام
مع كل كتاب متعة ومع كل جديد رحلة نطلّ بها على بهرجة العبارة.. من دلالتها نلمس أقطارها ونقول من معانيها مساحة للالم ومساحة للذكرى ، تطوف الصور بخمائلها مترنمة و بين ثناياها وتضاريسها، يسري في المتلقي ضياء مقطرا بفاكهة أدهر ما وراء الوجود كي تنساب في جداولها جداول السر الجهير..، الحديث عن الام على لسان الشعراء ..وهكذا يتنزل من العنوان مرتبتها صاحبة السعادة الديوان الشعري الذي نسجته أنامل الشاعر المغربي عبدالحق بن رحمون اهداء لروح والدته اثر وفاتها في صور شعرية لافتة.
ورد الديوان في 147 صفحة على ضفاف نهر روحه عصافير الكلمات علها موغلة في جوانياته كما موغلة في قفار غيابها. تأخذه لصباحِ كحليّ ولتترك المعنى للصوفي فيه يحلّق شاهقاً ويأتينا بنجوم قصائد لا طويلة ولا قصيرة حتى لا يكتظ الحزن على المتلقي شجنا يسيل في مسارب الروح. نقّل الشاعر فؤاده حيث شاء من الخواء الذي تمكن منه بعدها ، فصار مضمحلا في غيهب الذكرى..آب إلى ذاته حيث الذات هي المشتكى..، وما شحّ قطره عن وهاد الروح، ولا جفت ينابيع التكلم وعيون القول عنها في كل القصائد. فعلى الصفحة38 يقول :
صاحبة السعادة الطيبة الذكر
الولية المجيبة من زارها تطيب بنورها
تفتحت مفاتيحه وازهرت مفاتن قلبه
اذ كان في وديان البصر
بعض من الحصى
لم يترك الشاعر عبدالحق بن رحمون تفصيلية بسيطة حدثت مع والدته ،عيشها ومسيرتها , من صدرها الحنون , الذي يملؤها دفءًا وحباً وحناناً . ليعرج محملاً أرغفة الخبز من يدها من قهوتها زرعت فيه , الامل والنور في مسار حياته تحت الشمس وتحت خيمة الوطن , وحين غابت عنه ،غابت الشمس واصر ان يلاحقها رغبة في استمرار النور والضياء رافضا الظلام الطويل الداكن الذي يستحيل اليه الجسد فالشال الاسود والقهوة السوداء والطريق المظلم انما هو حالة العدم الذي اضحى الجسد في كنفها ليرى ذاته الخفية باكية مستبسلة خائفة ويظل المحجوب بالسكوت و مؤشره للبقاء وعلامة الديمومة
يستحضر روح الام معه وهي احدى اهم الجماليات الدالة بقوة على حالة المعايشة المتواصلة والمعاندة لفكرة الفقد والرحيل فاحتفظ بنبضها فكان الخطاب مباشرا في العديد من القصائد اي حين استخدام ضمير المخاطب المتوجه نحو العزيزة الراحلة هذا فيه دلالة الى نبض الكون عموما وشرارته فقد جعلها مثال الميلاد والطهارة ، الرغبة والعفة، تجسيدا للعبث الناتج عن جدلية الموت والحياة..
فالشاعر كل ليلة يلاعب الزمان و المكان ،و مع كل قصيدة له تجوال يستحم بعطرهاِ المسترخي على خاصرة وجع يداعب بركان الشجون..فالفؤاد صفصاف يسند جبين حزنه عليه ِ !. هنا ؛ خطى روح وجلة بهذيان الطريق.والطريق امامه تشعبت…حين تركه النور …فما ايحاءات الكلمات الطريق، الغيوم ، توهج النور/ الضوء النهر الوادي الماء . الينبوع الكهف النار السحاب..
الكثير من الايحاءا ت تقارب بين تساؤلنا والتفكير نحن أمام هذه الاستعارات المكثفة : الطريق والمشي والتفكير للوصول الى المطلق عبر جسر يقود الى الينبوع الذي لا يمكن التخلي عنه والذي رمزيته في الكتاب صاحبة السعادة الى الرحم الى الاصل الى الهوية وما ادراك ما الهوية انها جوهر الانسان… فهذا الطريق قفر متعرج تاتي منه الفُجاءة الصادمة و لا يعرف اهميته الا من احتار واندهش..والدهشة نجدها في الفلسفة الصوفية من دهشة السؤال إلى حيرة البحث عن جواب وعن فهم كيفية الوصول الى اليقين الى ..الحب الاسمى ، الحب الفياض حب الام جعله في محاولة تحليل ماهية الوجود في اغوار الوعي الدفين فحثه الى استنطاق الطريق الذي يبدو بمظهر الأخرس المظلم عند رحيلها فهي اصل الكون وحياة الانسان وسر الوجود… فهل الامكانيات النهائية لمعنى موتها هو انسداد الطريق أهو العدم أم هو الفناء ؟
استعمل عبد الحق اللغة..جسر عبوره ، واسعة بلا حدود , في أسلوبه الفكري والفلسفي الذي ينطلق من بوتقتها موضوع رموزه الام او المرأة لتكون قصائده قد بثت ذاتا حية في المرأة عموما ذاتا تتماهى مع الحلم الميتافيزيق الشهوة الحنين في ظل حضورها أو غيابها تتآلف المتناقضات الحسي والروحي الرمزي وايضا المدنس الحب العميق والرحيل الانسانية والجمال انخلاع الروح في الرثاء المناقبي الغير المعتاد عبر تبرير تخييلي مفاده ان الرثاء لايروي شجرة الموت العملاقة وعلى الانسان ان يتوحد به ويتماهى مع مكوناته.
وتظل الرؤية الشعرية صوتا صارخا في العمل الابداعي وإدراك الامـور والتعبير عنها ليظل الموت تيمة من التيمات التى تشغل الفكر الانساني الفلسفي وهو اشد ما يحاول الشاعر ان يزوغ منه او ان ان يزيح شبحه ولكن انّى له ذلك ولغيره من البشرية فالموت لا يبطىء خطواته و لا يخلف له الميعاد لاستحضر قولة جلجامش في أقدم المطويات الورقية المعروفة لنا حول الموت،ينعى صديقه الاقرب أنكيدو:
” أي نوم هذا الذي غلبك وتمكن منك؟ لقد طواك ظالم الليل فلم تعد تسمعني…”
لقد حاول الشاعر أن يصنع بعدين للحياة في قصيدته، البعد الاول هو بعد الحياة التي عاشتها امه وعاشها معها ليشد قارىء ديوانه بتعبيرات عن قداسة حب اللأم ، البعد الثاني هو الكينونة التي تعلو على مستوى الحياة البشريةوان ما بينهما ، قوّة التّأثّـر والتّأثيـر.