الناقد نعمة يوسف
بغداد – هولندا
قال العرب إن الشعر شراب لذيذ لا نعرف من أين يتكون وماهي عناصره !
من هذه المقولة أيضا عرفت لماذا يتوجس الناقد في بعض الاحيان من دخول معبد الشعر ويقف عند حدود بابه، حينما يعرف أن داخل هذا المعبد كائنا متعدد المشارب، شاعرا، كاتبا، ناقدا ومترجما، أديبا وأستاذا بالأدب والمسرح المقارن. إنسانٌ غاص في رحلاته المتعددة شرقا وغربا شمالا وجنوبا في البحث عن اللآلئ في أعماق التجارب البشرية التي وجد نفسه ملقى فيها منذ أن خرج من العراق قسرا في ذلك الزمن الرديء الزمن الصعب حتى تعمق في بطون الكتب وأمهاتها، متأملا، مفكرا، مؤمنا بالعلم والحب والجمال موجّها بوصلته نحو المستقبل رغم شعوره بقبح الواقع!
كتب في كل شيء تقريبا، موظفا اللغة والطقوس والشعائر والرموز والطبيعة جامعا ما بين المحسوس واللا محسوس، بحثا عن البلاد والجذور والسعادة الهاربة، كتب عن مكامن القوة والضعف والتناقض لدى الإنسان، عن مسامير الحياة (وكأنه يذكرنا بعذابات الإنسان من خلال صلب السيد المسيح)، عن المطحنة، عن الأب والأم والمرأة والقلق والرحيل، عن رياح أمريكا التي كادتْ تأسره، عن زفير النهار وتنهدات الليل، عن تلك القيود التي عاشها وعن الخوف والجلاد الذي يتجدد في أشكال جديدة هنا وهناك. كتب لأصدقائه أناشيد المحبة والسلام مستحضرا الذاكرة وما تراه العين متجددا في تعاقب الأيام. يضع لنا في كل نص وصفة درامية للدلالة على كل ما تحمّل من الإثارة أو الحزن أو الخطر الذي مر به، وهو العارف المتمرس بمعنى الدراما ذات الأفق الواسع استطاع تجسيدها في عبر الخيال الذي يتمتع به، كأنه يكتب شعره للمسرح جامعا بين طراوة اللغة وجمالياتها وصراع الأضداد في الحياة. كتب بسريالية خاصة به، بجمالية تتجاوز الواقع المرير الذي عاشه في داخل بلاده وخارجها، من خلال اشراقاتٍ وتجلياتٍ وانفتاح على المادة الواقعية بخيال مارق منفتح على مدارات ليس لها مديات محددة، مستعينا بكل خبرته التي تجلّتْ عبر فطنة الصورة الشعرية واللمحة ومكوناتها بدفق شعري وتجسيد تشكيلي وإيقاع موسيقي يعيره اهتماما واضحا. وهو القائل: “لولا الإيقاعُ بمعناه الواسع العميق لهلك الشعر”.
أني وقفت في منتصف الظل للضوء
منفرج اليدين معقوف القدمين
برأسٍ منحرفا قليلا
بانتظار الريح والعاصفة
كي تنزعا عنّي مسامير الحياة.
أنه الشاعر (هاتف جنابي) شاعر الصمت والبوح الذي أدهشتني أشعاره في أول مرة قرأت له، استوقفني فيه حسيته وروحانيته في تحريك مواضيع شعرية مختلفة، تشمل مختلف مناحي الحياة، متوغلة في خرائط الحب والعشق الذي لا ينضب، بالرغم من الغربة السادرة التي طحنت هذا الأنسان وجعلته أكثر شفافية وبياضا وهذا يذكرني بمقولة المناضل الكوني العم اللطيف “هوتشي من” حينما قال لرفيقه: “كم يتألم الرز وهو تحت المطرقة، لكنه يخرج بعد الطرق أبيض كحجر الصوان، تلك هي مشاكل الحياة يا رفيقي”.
هكذا أنت أيها المعلم الجليل تقول في تطريز الصمت:
عودتُ نفسي
أن تسيرَ على حوافي الطرقات
بين الشوكِ والهاوية
ثمة من ْ يمشي على الماء والريح…
دوّنني الوجهُ من هذا وذاك
ومازال ينحتهُ الوقتُ وتحفره الكدمات
جبل ٌ يعلو جبلا سفحٌ يتباهى بالنفس
نهرٌ يتلاشى في أعماق نهر
والصمت
هو العازفُ الأزليٌّ الفريد..
مقدمة ..
لحياة الشاعر الأديب الدكتور (هاتف جنابي) مدخل أراه مهما قبل البدء في تسليط الضوء على مجموعته الشعرية “صمت”. إنه أديب من منطقة الفرات الأوسط العراقية من قرية تبعد حوالي 60 كم أو أكثر بقليل عن النجف الأشرف التي انتقل إليها مضطرا وعمره 11 سنة. عاش مثقفا مناضلا سياسيا، مكافحا ضد التخلف والجهل والتسلط داعيا إلى احترام الرأي والرأي الآخر، نابذا فكرة الأقلية والأكثرية. هجر العراق اضطرارا سنة 1976 نتيجة الأوضاع السياسية!
تراكمت خبراته ومؤهلاته الأكاديميّة والمهنيّة التي اكتسبها في حياته سواء في العراق (خريج كلية الآداب – جامعة بغداد سنة 1972) وتلك التي عاشها في ” بولندا” حيث أكمل دراساته العليا. قبل هذا كان قد طاف في كثير من بلدان العالم من الجزائر وأوروبا الغربية إلى أميركا وبريطانيا والصين والنيبال وسواها، وحمل في عقله وفؤاده تجربة كبيرة تستحق التوقف عندها!
أعتقد أن ما جاء في مجموعة “صمت” الشعرية رسائل صوتيه شعرية مسموعة ومهموسة ومشفرة أيضا بما في ذلك توفر إشارات فنية عن سيرته الذاتيّة، وهي سرد لجهدٍ فكري- معرفي، اجتماعي وأكاديمي، تنامى وكبر بشكل ملموس في نتاجه، سمحت له بأن يكون مقاما معروفا محليا وعربيا ودوليا.
لذا فسيرته الذاتيّة هي بوابة العبور إلى كل مهتم وقارئ متابع لهذا الأديب العراقي المثقف الذي بدأ حياته الثقافية “بمفارقات وتشظٍّ وأحلام، من يُسرٍ عائلي إلى بؤس ومعاناة وحرمان”. بدأ شاعراً وقاصاً ورسّاما ثم ناقداً ومترجماً. تعود ترجماته الأولى إلى أواخر السبعينيات من القرن المنصرم، في حين أن ممارسته الشعر والكتابة تعود إلى أواخر الستينيات.
نشر أول نصوصه في 1970 وبعد انقطاع عاد فأخذ ينشر منذ العام 1973. عمل في التدريس في مدينة كركوك واضطر بعدها للهجرة في آب 1976.
كان ضمن “قائمة شعراء وكتاب ومثقفين” خضعوا للتعتيم والإقصاء الأمر الذي كاد يُهدّدُ مصيره إنساناً وشاعراً وكاتبا لولا مثابرته وعدم استسلامه. نُشِرَ قسطا من أشعاره وكتاباته وترجماته الكثيرة من “الأدب البولندي” في بعض المجلات والصحف العربية وصدر له أكثر من ثلاثين كتابا.
يقول الشاعر هاتف جنابي في الترجمة: “الترجمة جهد رائعٌ ونافع، وهي محايدة أكثر من الشعر والمقالة ومن السهل نشرها، خاصة من لغة وأدب غير معروفين كالأدب البولندي. القارئ العربي، والناشر كذلك، يشعران بالإحباط والهزيمة لذا تراهما يفضلان نشر وقراءة ما يصدر من المواد المنقولة من لغات أخرى على نشر ما يؤلف في لغتهما الأصلية “.
إنه شاعر حاز على جوائز أدبية عديدة ومنها جائزة الشعر المترجم التي تمنحها جامعة أركنساس الأميركية لسنة 1996، وجائزة الإبداع الدولية لعام 2011، وجائزة هومر الأوروبية العالمية للشعر والفن للعام 2019. وهو يشيد منجزا أدبيا ومعرفيا بجهود استثنائية. وكما قال مرارا:
“إنني أعمل سولو بلا معين كما هو الحال مع آلات العود والقيثار والبيانو في الموسيقى”.
إذا فهاتف جنابي بدأ شاعرا وقاصا لكنه ولج عالما خطرا في الأدب ألا وهو فضاء النقد والترجمة!
الصورة ومكوناتها في الشعر:
نعلم أن ” للصورة ” عموما مكانة مهمة في الفن قديما، وكبرت هذه المكانة اليوم بخاصة في “الشعر والإيقاع والموسيقى” حتى اقتحمت العين قبل الأذن!
في هذه المجموعة الشعرية التي وصلتني بعنوان “صمت” وجدت الدهشة والمفارقة الشعريتين كتعبير يؤكد جـدارة القول على اختلاف المكان والزمان اللذين كتبت فيهما هذه القصائد” دون أن يترك لنا لحظة واحدة للإحساس بالملل! فالأدب الجيـد ومنه الشعر تحديدا بعناصره المتكاملة هو الذي يدهش ويثير بذلك المزيج الساحر من التجاوب حسّا وعقلا لما يلامس أوتار القلب.
هذا ما لمسته في قصائد معجونة بالحب رغم قساوة اغترابها وعملية ولادتها!
يتميز الشاعر الأديب “هاتف جنابي” بحذاقة قدراته الفنية في استخدام لغته الشعرية بأسلوب جميل فيه طزاجة ومهارة واضحة في خلق النص الأدبي الذي يتنوع لديه ما بين صور الشعر والمسرح والنقد. يقوم في “صمت” بتوظيف ما يملكه من تجربة و قوة ” خيال” في رسم خطوط هذه المجموعة الشعرية التي تتعدد أدواتها ومن ضمنها فن السرد الشعري متمثلا في إحكام بنية نصوص كما لو أنها قصص أو مشاهد مكثفة نتواجه معها في الشارع والحقل والمدينة وربما في كل مكان.
إن قوة المخيلة والشعرية والشاعرية والخلفية الفلسفية- الوجودية للنصوص انعكاس لفكر وثقافة الشاعر وهي واضحة في مجموعته هذه التي تحمل في مضامينها مؤثرات متعددة ومرتكزات لعل من بينها حضور الصوت الداخلي وارتداده خارجيا، وعملية رسم جمالية الصورة، وهندسة الفضاء أو الاهتمام بمعمارية النص، وتشكيل الألوان، و”فضاءات الأشكال وامتداداتها” كما في التركيز على الشكل المكور (المدوّر):
“نهد مكور”؛ “صخرة مكورة”؛ “أشكال مكورة”
علاوة على ما تقدم فأن عنصر “السرد” الذي يوظفه في بعض النصوص تراه حاضرا سواء بنفس طويل أو قصير حسب متطلبات النص، فهناك حبكة البداية والوسط والنهاية، كما في الدراما الكلاسيكية. يبدو أنها تقنية تعتمد على المعنى اللغوي وتواشج الكلمات أو تنافرها، مع الاحتفاظ بانسيابية القول والفكرة ضمن المدلول اللغوي وتوظيفه في رفد سياقات النص الأخرى، والصورة في السرد تكمل الحوار. إن الاختزال الفني “في الشعر” يرفد وحدة الموضوع ويشبع عناصره من خلال تعاضد مستويات الألفاظ ودلالاتها والقالب الفني. يلجأ الشاعر أحيانا للتماهي مع ذاته والطبيعة والمناخ الذي يعيش فيه بغية تقديم لوحة فنية عميقة في تدفق سريع يوظف الإيقاع. وهذه خاصية عند الشاعر وهي أيضا سمة في طبيعة النص المكثف، والبناء الشعري للومضة أو (البرقة). بهذا البعد يجعلنا ننتقل معه بانسيابية من نص إلى آخر، كما في هذه الومضة التي نتلذذ بها:
فانوس 1
يتطلع الغياب
في عتمتنا
بفانوس العدم
فانوس 2
يرتعش الفانوسُ بين اليدين
خوفا من عتمةٍ غادرة
فانوس 3
رأيتُ فانوسا مقهقها
مستلقيا على القش
مصغيا لعزف الحريق
برْقات ضوئية، التماعات شفيفة ذكية، أو غمزات وإشارات خاطفة!
في “صمت” رغم الوصيف هنا وهناك إلا أننا نرى تكثيفا شعريا لا سردا ولا حكيا، بمعنى تسيّد ما هو شعري، كمٌّا من مفارقات أسلوبية ولغوية واحدة تلو الأخرى. يدهشنا ويدعونا نتساءل، لماذا الفانوس؟؟ ما هو الإيحاء المقصود منه؟ عن أي تأويل يتحدث باسم الفانوس، إنها الرمزية العالية، والمفاجأة التي تكتنز ومضاته لتنثالَ في دواخل المتلقي!
نسيج خاص وتفرد واضح :
الحالة الأميز في الشاعر هي أنه خلق أو صاغ نسيجا خاصا به وخصّ به القارئ أيضا، ينبع من خياله المتفرد وتمكنه من فن القول الشعري. تعددت رؤاه ومرايا نظرته فهو الذي جاب الآفاقَ متنقلا بين القارات الأمر الذي رفده بمجموعة قيم وأفكار ومعاينات أغنته وأسرَته! أعاد صياغتها من خلال توظيف أشكال متنوعة، بما في ذلك سريالية غير مبالغة، مستفيدة من الغرابة والإدهاش والتناقضات والسخرية مع تلوين البناء الفني والفكري بتشكيلات وموضوعات وأحداث ومشاهد عاشها في فصول من حالات حب، وغربة، ووجع شخصي، وهم إنساني- وجودي، شأنه ككل الشخصيات العاشقة المتجذرة في الزمان والمكان. قصيدته بمقارباتها الفلسفية الثقافية الجمالية تتقدم إلى الشريك الأهم القاريء لتنمو داخله أيضا.
يتضمن مشروعه الشعري منهجا يجمع ما بين الغرائبية والواقعية، لكنه ينطلق من حالات اللاشعور صوب الوعي وليس العكس حيث تأتلف هذه الحالات والعناصر في بوتقة نص قائم بذاته. حينما ننظر إلى مجموعة “صمت” وخطها الدرامي نلاحظ ما يلي:
أن البنية الدرامية من خلال حضور الفكرة وشخصنة الجماد في مواضع عديدة، ثم تسكين الكائن الحي أعني تجميده، وتوظيف الحدث بما في ذلك من عُقد وحبكات تنشأ أثناء عملية الخلق لها حضور واضح في عمله وانعكاسات أو ارتدادات على حياته وشخصيته وكأنها مستلة من هذه العجينة الحياتية- الفكرية- الثقافية- الوجودية!
هنالك أيضا صراع داخلي بين ذات الشاعر وما يحيط بها؛ بين إرادته في الصمود والانتصار مقابل خسارات الكائن البشري وانكفاء الذات أحيانا في غربته التي امتدت عقودا طويلة تجاوزت المعقول (وحدها هي التي تتسيّد المواقف). ما نريد التنويه إليه أيضا هو أن معظم الأحداث التي جرت وتحدث الآن في نصوصه التي تشير إليها تواريخها هي عبارات صمت، بمعان مختلفة حفلتْ بها قصائد هذه المجموعة!
الشاعر والأديب (هاتف جنابي) شخصية عصامية قوية ذو نزعات وطنية وإنسانية وآراء شجاعة، تدل عل نفسها منذ شروعه الأول في كتابة القصة والشعر في الوقت نفسه، ثم ممارسة النقد وفيما بعد الترجمة الأدبية، لذا فمن يجمع كل هذه الاختصاصات مدعوما بالموهبة لابد وأن يكون مختلفا تماما عن أقرانه!
هذه القصائد تقتحمنا في الواقع الحقيقي والخيالي ونتواجه معها من خلال طرافة وتنوع أفكارها وأسلوبها المختلف، فنجد شاعرنا يذهب إلى أبعد نقطة في فضاءات الكتابة، ناثرا الحب بغزل روحي- حسي يبدو خجولا أحيانا وجريئا أحيانا أخرى، ويعرج إلى الأماكن التي يحكمها الحب الغائب أو المغيب في الوقت الحاضر، الحب المنتحر، المذبوح والمحرّم، ليصطاد لؤلؤاً يتكشف في عمق خطابه الفني متوغلا في دروب الحداثة عبر نظام شعري متقن يتناول الحياة بأحلى صورها وأبشعها في الوقت نفسه، مع مخرجات تناقش الوهم والحقيقة، التسامح والانغلاق، البغضاء والمحبة حتى بأبعادها الصوفية. مجتهدا في ابتكار مخيال لشكل من أشكال الواقع وما وراءه. نلمس كل هذا من خلال الفعل الفني المؤثر في نطاق استشراف النصوص والإحساس بها متمثلة في تلك التي وردت في مجموعة “صمت” الشعرية.
هذا هو الشعر الممتع اللذيذ:
رأيت امرأة بشعلة ٍتتزنرُ
وحين لمستها احترقت
شفتي بالحلم
إن قراءة نصوص “صمت” التي تعتمد على فكرة الجمال ونقيضه باستنادها إلى دراما الكائن البشري تمثل الخطوط العامة لواقع ملتبس تكتنفه التناقضات. ألوان متعددة، لا يمكن لأحد عاش غربتها أو لمس وتصور أحداثها ألا يتفاعل معها. في كل نص صراع، في كل مدينة، وشارع حالة حب، شفاه منفرجة، وعيون متطلعة، لكل نص رائحة مختلفة عن الآخر، فهنا رائحة الحب، وهناك رائحة الغربة، وفي مكان آخر من المجموعة رائحة نظرات وحوارات وبكاء وشهقات بمعنى آخر: روائح الحب والطبيعة، روائح الحضور والغياب، الروح والأمل، إنها روائح خاصة بالشاعر متجلية في جغرافيا الحب اللامحدودة!
إن الخيال الذي يعتبر مركز الإشعاع في فكر وفلسفة الشاعر (هاتف جنابي) يقدم لنا نغمات سحرية وشعرية واقعية بملالة سريالية في مختبر كيمياء النص والسرد الصوري الملون لتشخيص حالات مرئية وغير محسوسة في الواقع المعاش الذي انطلق منه الشاعر عبر موشور ذاته والآخر، في كل مكان مسافرا مع شخصياته وأحداثه ورؤاه ولكن بحضور لخيبة الأمل الكبيرة التي أصابت العلاقات الإنسانية في مجملها.
نصوص ملونة بالحب
الحب المنتحر أو الغائب أو ذاك الذي أصبح في طيات النسيان، كيف يتطاير في فضاء العاشق الشاعر من خلال لوحاته الفنية وما تكتنز من إيقاعات داخلية تجعله بمثابة شاعر- رسام. هكذا يسمو قول حبه شعرا!
الأمل: ها هو الحب بمعناه الأشمل والمرأة الفاتنة التي يعشقها الشاعر ممجدا إياها باعتبارها كائنا ساحرا حساسا وخلاقا. حضرتْ في نصوصه بمختلف الأشكال والصور، وبما أنها لم تعد اليوم هكذا، تراه يهجو هذا الخراب، في عالم تحولت فيه القلوب الطيبة إلى قاسية، وابتعد الحب عن مكانه ومنبعه…
هذه المجموعة الشعرية الملونة المتنوعة في أسلوبها وإيقاعاتها وشكلها وفي مواضيعها المتعددة أضافت للمكتبة العربية تجربة ونفسا شعريا أصيلا يضاف لقائمة الشعراء العرب الذين توزعت أعمالهم الشعرية في العالم واقتنت الجامعات وأكبر مكتبات العالم الوطنية آثارهم الشعرية كمادة للقراءة أو التدريس والنقد والاطلاع على حساسيات ونتاج الآخر!
نصوص تمتاز بعبق يمثل عطر تراكمات تجارب استنارت بشعلة الحب المتقدة في فؤاد الشاعر.. إن مـا يميز الجمال في هذه النصوص، هو ما ياسرنا من اللـون والإيقاع والمعنى لفن القول الشعري الجميل. تركز “صمت” أيضا على أهمية الكلمة متمثلة بتعدد الأدوار للمفردات من أفعال ومصادر وتمييز وحال ونعت مع إبراز دور الفعل لما يكتنزه من بعد حركي، وإمكانية نحت مفردات على ضوئه وإدامته في ولادة صور تنبثق من رحم صور أخرى..
أمامنا رؤيـا خاصة لعالم مغاير قد يصعب علينا التعبير عنه وفيه، لكنه أثبت حضوره بتواشج صور مألوفة ولا مألوفة تنبعث من حرارة الأجـواء وسخونتها.
“صمت”
… في الصمت بلاغة
صمت.. هذا هو عنوان القصائد التي تناولتها في هذه المجموعة الشعرية الموقرة التي تحمل أهمية كبرى في الشعر، فبالصمت أو عبر بلاغة الصمت يكون لها في أغلب الأحيان تأثير كبير على المستمع أو القارئ في اتخاذ موقف معين. الصمت خير من الكلام في إيصال الفكرة أو التعبير عن المشاعر والأحاسيس.
لصمت هذه القصائد التي كتبت بتواريخ مختلفة، معنى ودلالة في البعدين الصوتي والتدويني لحالات الصمت المتعددة التي لم تغادر الشاعر ولم يغادرها، حيث رسخت في حياته وتفكيره الجمالي على مستوى الواقع المعاش الذي نسج له مناخات متعددة، متنوعة وقعا وفكرا، في ترحاله المستمر سعيا للتأقلم مع ذاته ومع متطلبات الحياة الجديدة لكل مناخ، فمرة في التحام وأخرى في افتراق متأثرا ومؤثرا في آن.
لغته وصوره الشعرية وكذلك الأسلوب كونه متخصصا في الأدب والمسرح تجعله يتمتع بلغة متينة وفلسفة خاصة تغربل عبر موشورها تراكماته الروحية، الفكرية والمادية، من مدينة مراهقته النجف إلى بغداد وكركوك ثم وارسو والجزائر وإنديانا وبرمنغهام مرورا بكل المدن التي حلّ فيها. من هذا كله نراه يمتلك منطق وفلسفه خاصة تنعكس على حياته ونتاجه. الكل ينظر إليه كشخص تنويري في خطابه الشعري، الأدبي، الفني والفكري- الاجتماعي. إنسان بعيد عن الأدلجة، له رأيه الخاص في الحياة والأحداث والمجتمع الذي يعيش فيه ضمن ارتباط عضوي، كما يؤكده علم السوسيولوجيا في دراسة الأفراد وهكذا شخصيات فذة ممّن اختطت لها طريقا ومقاما كبير الحضور في المحافل العربية والدولية.
يخلق شاعرنا الصورة الشعرية بمخيلة جاذبة، يرى ويسمع ويحس فيها وعبرها، مثلا:
“وإذا انغلق البرّ
فلتجعل تكويرة نهديها بوصلة
وإذا أبحرتَ فعيناها إسراء
ومثلثها معراج” (قصيدة: موتّو”)
عنصر الجمال يغلب على هذه القصائد متلبسا مضامينها وما تحمل في جوانبها من ألق روحي. بالرغم من العذابات والآلام التي تضغط على فكر الشاعر وارتباطه بالوطن وحياته المفروضة في الغربة إلا أنه يستثمر هذا الوجع ونقيضه الحبور من خلال صمت فيه دلالات وإشارات للرفض والتمرد، وبذلك يضعنا أمام لحظات ندركها ومشاعر تتغلغل فينا، فيبلغ بنا الى مصافي الوعي والانتشاء بالجمال من خلال بناء محكم حسي- جمالي- فني.
الصمت هنا أيضا هو نوع من التعبير عن المواقف والحقائق الغائبة أو المسكوت عنها، ولهذا فهو ليس تعبيرا محايدا. ينبغي التعامل معه على أنه معادل موضوعي حقيقي للضوضاء والغياب وتضاؤل الإنصات، وهو حاضر في كل موضوعة وفكرة وردت في متن هذي النصوص المعبرة في جمال ناتج عن كثافة الصور الدرامية المليئة بالصراع بنيةً وبالمعنى منطلقا من فلسفة تنويرية وهجاءً لسطوة الرجل وتقلب مزاجه:
“هوذا الرجل – الضباب – المطلق
عيناه أكثر صفرة من أوراق الخريف
لم يكن حزنه أكثر اسودادا من غيمة عابرة
كان يسرق الحلم منها في عزّ حياتها
منهمكا بتسديد النظرات لجارة تلقى برقائق الزهر
على جسد الحبيبة المفترضة…” (صورة جانبية للسيدة أمل)
الصدق والجمال والتعبير في صمت القصائد! التأمل والاحساس بالوجود الروحي :
بالرغم من الاختلاف والتعارض بين موقف وآخر الا أن تحصيل حاصل المواقف في الصورة المشبعة دراميا تضيف مخرجات وتفسيرات فلسفية يقصدها الشاعر ويرسلها الى القارئ كي يتابعها بنفسه! ليضيف لها ثراء فكري ومتابعة مستحقة.
هذا الفيض الشعري المتدفق بصور متعددة تحمل جمالية روح الشاعر وجمالية الصورة معا تعصف بذهن القارئ وتشعل عاطفته من خلال الترميز والتفاعل والمحاكاة وتفجير المكنون الشعري!
نستشف من هذا أننا أمام عملية فنية إبداعية متمثلة في هذه المجموعة الشعرية.
قصائد بصورها الشعرية، لغتها، أسلوبها، وأفكارها تحفز القارئ على المتابعة والتفكير في ماهية هذا الشاعر وأهمية تنتجها نصوصه، برؤيا جمالية جديدة، وما تمنحه من متعة للمتذوق. وبعيدا عن أي تفسير لخلفيات هذه النصوص وأبعادها الوجدانية والفكرية والجمالية التي يمكن تلمسها في هذه الإضاءة النقدية، تحمل هذه المجموعة سمات فنية خاصة بها. ولهذا فهي تحتاج لقراءات ودراسات متعددة بسبب احتوائها على مداخل عديدة أسلوبية- بنيوية- فنية- ولغوية معززة بفلسفة وجمالية متميزتين.
صمت…
تعطي لنا مدخلاً لعالم التأمل، لما تحمل في طياتها من إحساس متعدد المشارب سواء فيما يخص الشاعر نفسه أو ما أراد التعبير عنه. لعلها خلاصة لتجربة من تجاربه الذاتية وما مر به من أحداث ومواقف حياتي- جمالية- فكرية- اجتماعية. إنها صورة شاعر يسكنه الأدب الراقي بعيدا عن الأنانية والكراهية والشللية الأدبية والاجتماعية والأيديولوجية!
وفي الختام فصمت تشاكس وتسأل دون تقديم إجابات لأن هذا ليس من شأنها، تحذر وتنبه وتضيء، لأن ما يدور الآن في الواقع من اختلاط واضح بين الأحداث والانفعالات ما هو إلا تصارع إرادات وأولويات تتزاحم وتستكلب أحيانا. مقابل ذلك يتقدم الشاعرُ بنشيد الحب والتسامح وترويج المعرفة!
صمت:
إنها بحق مجموعة شعرية تعالج موضوعات الوجود، الحب والجمال، الموت والحياة، ومصير الإنسانية، تمثلت برؤيا شاعر فذ عاش ومازال يعيش الحب بكل أشكاله..، محاولا إيصال أفكاره وهمومه مستعرضا لنا في نصوصه هيامه بالحياة وخوفه من المجهول، وسفره الخالد خياليا وواقعيا. ورغم كثرة العوائق التي مرت به وأمامه إلا انها لم تمنعه من أن يتحرر من قبضة اللهاث وراء الأضواء ومغريات الحياة سعيا منه في تجسير الهوة الناجمة عن تراجع الفكر الانساني المتسامح لذلك أعلن الحب للحياة والطبيعة والجمال إذ يراه لا محدودا.
تحية للشاعر الأديب (هاتف جنابي) وهو يفتح لنا سبلا في فن القول الشعري بأشكال متعددة ومتنوعة!
هاتف جنابي، صمت (120 صفحة)، منشورات دار تمات بالاشتراك مع دار نشر ميزوبوتاميا، بولندا/ العراق، مارس 2020