علاء اللامي*
الاربعاء 14 ايار 1014
هذه التقنيات السردية التي استعرضنا بعضها قبل قليل “العالم الجديد/ عدد 13 مايس/ آيار 2014” تنتمي جميعها إلى السرد المتداخل البسيط والأفقي غير أن الفارق بين الأمثلة التي أتينا على ذكرها وبين رواية “غرفة البرتقال” يكمن أيضا في التنفيذ النثري وفي أساليب هذا التنفيذ بهدف تشكيل البنية الروائية المندغمة منظورا إلى طبقتها الأولى والمركبة باسترسال محسوب زمنيا ونفسيا ومقروءةً – في النهاية – كمتن سردي منجز.
وبالعودة إلى المتن الروائي ذاته، يمكن لنا رصد بداية السرد بالحركة الهابطة للسيارة التي أتينا على ذكرها ، والبؤرة المكانية أو المنطلق المكاني للحدث فسيكون مثالها الأول السيارة المتحركة ذاتها. أما فعالية الشخصيات الروائية ووزنها البنيوي فتشكو – في الظاهر – من خلل فادح جعل من الشخصية الثالثة : العشيق “جلال”، مجرد نتوء ملصق بشبكة الشخصيات الأخرى مع أنه يمتح محوريته من وجوده الفيزيقي في البؤرة المكانية “السيارة” أكثر مما يمتحها من دوره في الفعالية الحَدَثية وعلاقته بعشيقته “وداد” وزوجها “صبحي”.
وقد يقول قائل: إن هذا الخلل الظاهري ينمُ عن رؤية واقعية لوزن العشيق في الحبكة الروايئة وفي الحياة الاجتماعية الواقعية بذات القدر. وهذا قول يحتاج إلى تمحيص وتقويم خصوص
قراءة في رواية (غرفة البرتقال) لعارف علوان: البنية الزمنية المركبة (2 – 2)
ا إذا نظرنا إلى وزن الشخصية من حيث فعلها الدرامي هي، ومن حيث فعل الآخرين الدرامي الواقع عليها ،مما يمنحها في أمثلة روائية واجتماعية معاكسة نطاقا حركيا أوسع ، ووزنا وجوديا أثقل .
إن الحضور الطاغي للشخصيتين الرئيسيتين: الزوجة “وداد “والزوج “صبحي” والحركة الصراعية النفسية والعاطفية بينهما ، جعلت وزن الشخصية الثالثة “جلال” يخف كثيرا حتى أن شخصية “عمة وداد” الواردة في الرواية الداخلية – على ثانويتها السردية – أكثر حضورا، دع عنك أن نهاية الرواية التي سنتوقف عندها بعد قليل لأهميتها جعلت حضور العشيق لا يزيد على حضور هيكل السيارة التي احترقت قبل بلوغ منحدر “صليما” وترنح في لهيبها الزوج في أزمة قلبية مباغتة .
ولعل من المفيد أن نشير – وإن بعجالة – إلى بعض المؤاخذات والهنات ذات الطابع الإجرائي التي تسجل على هذا العمل ولكنها لا تنقص البتة من قيمته التأسيسية ومن ذلك :
– لم يحسم “عارف علوان” أمره بخصوص اللهجة المستعملة في الحوارات القليلة التي وردت في الرواية فهو تارة يستعمل اللهجة العراقية و اللبنانية بحسب الشخصية الروائية الناطقة ، لنجده في مناسبات أخرى يستعمل العربية الفصحى في حوارات مشابهة. لقد كان بوسعه أن يحسم هذا الموضوع فيميل إلى خيار اللهجات العربية المحلية ويهمل الحوار بالفصحى أو يفعل العكس ليخرج نصه وقارئه من هذا المأزق الإجرائي السهل نسبيا. مع ملاحظة إننا نتكلم – هنا – عن الحوار الخارجي “الديالوج” وليس الداخلي “المونولوج” الذي يمكن أن يكون بالعربية الفصحى في حين يكون الخارجي باللهجة المحلية.
-كان من الأفضل أن تعتني الجهة الناشرة أو المحررة والمراجِعة للنص بعلامات الترقيم والتنقيط وخصوصا في طبع عمل دقيق يعتمد هذه الأساليب السردية الحديثة وعدم الاكتفاء باستعمال المزدوجتين الصغيرتين أو خلط الكلام الحواري بالوصفي كما حدث في مناسبات كثير فلا يستطيع القارئ تميز كلام الشخصية الروائية من كلام الراوي.
– تبدو بعض المضامين الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والإيروتيكية (نسبة إلى الإيروتيك (Érotique ) أي الشهوانية الجنسية الخفيفة، تمييزا لها عن البورنوغرافيا (Pornographique ) أي الإباحية الجنسية الداعرة) المعبر عنها على لسان الشخصيات الروائية وخصوصا على لسان شخصية مأزومة وملوثة روحيا وعاطفيا كـ “صبحي” بحاجة إلى حرص في الصياغة وتنظيم وموضوعية في الطرح لكي لا يساء فهمها فتتحول إلى أحكام معيارية تحسب خطأً على المؤلف لا على شخصياته وخصوصا تلك المتعلقة باللبناني والعربي الفرد والمجتمع ..الخ . أما الوقفات الإيروتيكية الواردة في الرواية فبعضها كان منسجما وشفافا أما بعضها الآخر فيبدو محشورا حشرا و في غير مناسبته أو بيئته أو أنه مبالغ فيه على أرجح تقويم .
– كان يمكن تفادي الكثير من الغموض غير المبرر والاكتفاء بنماذج من الرواية الداخلية مع الانتباه إلى توزيعها بدقة وعدالة تخطيطية على مجمل الهيكل الروائي، ولعل من أبرز الأمثلة على الغموض هو ذلك المتعلق بالحركة الصغيرة التي لجأ إليها الكاتب لإحداث الحريق فهي للأسف حركة حدثية رئيسية لم تكن مبررة واقعيا ولا سرديا: فبعد أن تتوقف السيارة بسبب نفاذ “البنزين” تتذكر “وداد” علبة بلاستيكية مملوءة به وموجودة في الحقيبة الخلفية للسيارة فتقدمها لزوجها الغاضب في حركة تحدى واضحة -كان يمكن تطويرها سرديا – وحين يبدأ الزوج بصب “البانزين” في خزان السيارة يسيل جزء منه على غطاء السيارة ذاتها فيمد الزوج يده في حركة مفاجئة ويسحب الولاعة من داخل السيارة ويقدح النار قريبا من فتحة صب الوقود . لماذا فعل ذلك ؟هل للتخلص من البانزين المسكوب خارج السيارة ؟ أم إنها محاولة مقصودة لإحراق السيارة بجلال الذي ظل داخلها كما يبدو؟ ثم تأتي النوبة القلبية لتجمد وتشل “صبحي” وتسقطه في اللهب.
في الواقع يمكن لنا أن نبرر بأكثر من سبب وكيفية هذه النهاية المركبة ولكننا ومهما فعلنا لن نتمكن – للأسف -من تخليص نهاية الرواية من الأثر العميق والمحبط لهذا الغموض والارتباك في صياغتها. ولعل قارئا فطنا قد تساءل بعد أن انتهى من قراءة الرواية : ترى ألم تكن النوبة القلبية كافية كخاتمة ليبحث المؤلف عن حريق إضافي لا يمكن تبريره سرديا أو واقعيا؟
ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه المؤاخذات الثانوية وغيرها مما لم نتوقف عنده، يمكن القول بثقة إن عارف علوان قدم عبر روايته “غرفة البرتقال” تمرينا سرديا محمودا لا يخلو من إبداع ملحوظ ونقاط جِدَّة وقوة على استعمال هذه الأساليب السردية، ولعل أبرز ما سيلاحظه العارفون بالمنجز السردي لهذا الكاتب هو لغته السلسة والتي تحولت إلى ما يشبه الماء الفرات الذي تسيل فيه الكلمات فتتطامن مكونات البنية السردية لتلتحم به تماما، وسنلاحظ أيضا خلو الرواية من أي أثر للنبرة الخطابية المسرحية إذا ما علمنا أن “علوان” كان كاتبا مسرحيا له العديد من الأعمال قبل أن يكون كاتبا روائيا مقارنة بتجارب كثيرة لكتاب آخرين جاؤوا إلى السرد الروائي من النص المسرحي لذلك كله يمكن اعتبار ما فعله كاتبنا عملا لا يخلو من التميز والتحدي الإبداعي وخطوة تأسيسية مهمة في السردية العراقية المعاصرة.
*كاتب عراقي