ما بين يوتوبيا الإيروتيك ويوتوبيا الدين
قراءة في رواية “سيرة مسلم في حانة آرتين”
للكاتب علي نصّار
* مثقفون إنهزاميون يديرون إحباطاتهم في حانة آرتين:
ينهض البرنامج السّردي في هذه الرواية البولوفونية “متعددة الأصوات” بضمير المتكلم الذي يتماهى مع صوت الراوي الضمني والراوي العالم بكل شيء في آن معاً، ليخبرنا بأول جُنحة سرقة يقوم بطل الرواية في حياته، حين عثر على مغلّفٍ ضخمٍ في مكتبة والده مكتوب عليه بخّطٍ كوفيٍ أنيق “سيرة مسلم”.
لتبدأ أحداث الرواية بتقنيات فنّية مختلفة تحقق التناغم في البرنامج السردي بين المُعاش والمتخيل، ويبدأ بحثُ البطل عن سبب طلاق والديه بتقنيات الاستباق والاسترجاع التي كسرتْ رتابة السرد ونأتْ به عن الإسهاب الممل، تارةً في السيرة التي وقعت بين يديه، وتارةً أخرى في إرتياده لحانة آرتين، ويتحجج بأطروحته عن الإدمان كي يلتقي بأصدقاء والديّه القدامى في الحانة فيصبح من شّلة الطاولة ومنهم زينب عرابته وصديقة والدته المقرّبة، التي قالت له: “اسمعْ. أنا وعيسى والهرش وبولس أمك وأبوك وأنت شخصيًا، وكلّ ذي عقل… هو مدمن! أما من يتخلّص من إدمانه فسينتقلُ، لا محالة، إلى إدمانٍ آخر…
* أمان الرَسَن والمورفيم الفارغ في شخصيات الرواية:
“النصّ إنتاجية مستمرة يسهم في بنائها وشحنها القارئ بما هو فاعلية نصوصية خارجية” كما تؤكّد جوليا كريستيفا.
ومنه نجد أن شخصية البطل “القارئ” لسيرة مسلم تتقاطع مع أبيها في كثير من الأحيان، وقد ظنّ البطل في البدء أنه يقرأ سيرة حسن الهرش لولا وجود اسمه بين الشخصيات.
لنجد أن حسن الهرش الشاعر والمثقف صاحب نظريةٍ متكاملةٍ ينتقدُ فيها السوفيات الذي أسقط الديالكتيك لمصلحة أصولية متحجّرة، شخصية مركبة دينامية، ينضم إلى العمل الميليشياوي ويصبح واحدًا من المؤهلين للحكم في البلد اليوم، لكنه يتخلى عن سلاحه وينتهي إلى ما انتهى إليه الباقون في حانة آرتين حيث أصبحوا في ديالكتيك ليليّ للبحث عن كيفية تأمين ميزانية للسّكْرة المقبلة.
فنجده يقول: “أليس أشرف لي أن أسكَر هنا في حانة آرتين من أن أكون مثقلاً بآثام تدمير لبنان، وتبديد ثرواته وطاقاته؟ وأن يكون في رقبتي آلاف الضحايا والمعاقين والمنكوبين والمشردين!”
كما أن هناك شخصيات سكونية بسيطة كشخصية عيسى سعيد شديد اللطافة وهو من ضيوف الطاولة الضعفاء المتعطلين كطانيوس والسّميعة.
أما الشخصية ذات الكثافة السيكولوجية فهي والدة بطل الرواية، ابنة موسى هامان وزوجة مسلم التي أغرِم بصديقتها زينب ولكنه تزوجها هي وهاهو ينعتها بالتلمودية …
أما زينب فهي الشخصية الرئيسية المحورية التي تستأثر بالتبئير السردي وتوجّه دفة تفاعلاته و تنطلق منها وتتلاقى عندها مجمل الأحداث وشبكة العلاقات التي يتربطها بمحيطها.
* خارجٌ من كتاب البؤساء في حوارٍ كان هدفًا بحد ذاته وليس مجرّد وسيلة فنّية:
لقد أدّى الحوار في الرواية وظائفَه الفنية والدلالية في مسّرحة السرد وكسر رتابته وتعطّيل ابطاءه، وساهم في الكشف عن دوافع الشخصية ونواياها، وعمل على تشخيص هويتها وطباعها وبيئتها مما عزز من واقعيتها ومصداقيتها الفنية.
وفي مونولوج يتقاطع مع زمن الأحداث والتدرّج في الوصول إلى الحقيقة، يتساءل بطل الرواية: “هل من الضروري أن أعرف الجانب المخّفي من حياة والدتي و زينب؟! هل من المفيد اكتشاف أن والدي كان ومازال منحرفًا! يستمتع بالتلصص ويدمن على مشاهدة البورنو؟! وأن عيسى سعيد، الذي حرس طفولتي وعوضني عن ابتعاد أبي، ليس سوى دخيلٍ على الفن ويحيا على الفُتات ذليلاً متطفلاً؟! هل من الواجب اكتشاف الجوانب المخفّية في حياة من نحب؟! أليس كافيًا استمتاعنا بالحبّ السامي، المجرّد، والمتعالي على الوقائع والحقائق؟! …
* الطاوليون والتوزيع الزمكاني الأوكسترالي للرواية:
في سيرة مسلم نجد أنّ المكان إتخذ علامة لغوية في واجهة النصّ فكانت “حانة آرتين” عنوانًا لافتًا أدّى مجموعةَ وظائفٍ تخصّ أنطولوجية النص، كما أشارت إلى الأهمية الجغرافية والتاريخية والرمزية لهذا المكان من ناحية، وما يمثلّه الوعي والذاكرة الجمعية من ناحية ثانية، وإلى ارتباط الشخصيات والأحداث من ناحية ثالثة، وإلى أهميته لدى الكاتب من ناحية رابعة.
لتتحقق مقولة باسكال الشهيرة: “الكون يحتويني، بقدر ما أحتويه” وبهذا تكون حانة آرتين تناصًا مكثفًا عن بيروت، فبيروت تحتوي الحانة بقدر مالحانة تحتوي بيروت …
ويتقاطع الزمن في الرواية مابين الحبّ والحرب الذي هو سرّ الملكوت والذي يعني المقامرة حسب ماقاله “الهرش”، وزمن الذبح على الهوية، زمن شعارات العدالة الإجتماعية وإسقاط النظام الطائفي ورفع الهيمنة المارونية السياسية …
زمن تأجيل كلّ ماهو ممتع وإرساله إلى وعدٍ ما، إنه زمن الثالوث .. الإدمان، الإنخراط في اليوتيبيات الدينية والقومية الشيوعية، والضياع في يوتيبيا الإيروتيك.
ومن برلين إلى بيروت وشارع الحمرا، من برج حمود وحانة آرتين يعود بطل الرواية في نهايتها إلى برلين مع إدمانٍ في عوالم السكر، ليجد نفسه لاعبًا داخل ما كتب، في علاقة تفاعليةٍ جدليةٍ يتجلى فيها بوضوح مصطلح الزمكان الذي تحدّث عنه باختين.
* “كلّ من ولدَ بعد الرسول ولم يعتنق الإسلام مأواه جهنم” اللغة صورة الفكر وأداته في آنٍ معًا:
(“ويتذكر مسلم بائع الكتب الشيوعي الملّحد البريء الذي قُتل ظلمًا، فيتجاوز كل التقاليد والأعراف في المسجد ويقاطع الشيخ بتساؤلاته الحادّة …”
“عدتُ لأستبدل وعد ّالجنّة بوعد الإيروتيك”، “كيف انتقلت من أقصى الإنحراف إلى أقصى الإنحراف؟” “الحبّ والجنس كإستحضار الروح إلى الجماد! لن تستطيعَ أن تبثّ السعادة والفرح باستعمال قوانين الفيزياء والكيمياء، الاستمتاع بحاجةٍ إلى ابداع .. والابداع خرقٌ للمألوف”، “من يريد أن يخضع البشر لمعاييره ويفصّل لهم أهواءً على مقياس أهوائه، لن يجد إنسانًا طبيعيًا لأنه سيكون هو الشاذ”،”فالمنحرف هو المجتمع الذي لايستطيع تقبّل المختلف”)
لقد وظّف الكاتب لغة الرواية توظيفًا خدم البرنامج السرّدي بمجمله، ومن خلاله عمد على إبراز وجهات النظر المتبادلة بين شخصيات الرواي