خطى ً في الضباب
محطات الرحيل
توفيق الشيخ حسين
يا وطني , وكأنك في غربة ..
وكأنك تبحث في قلبي عن وطن ٍأنت ليؤويك !
نحن الأثنان بلا وطن .. يا وطني ..
( مظفر النواب )
تركت كل شيء حين قررت الرحيل ورحلت دون وداع عن الوطن , عندما يرخي الليل ستائر عتمته , تنطلق أبواق الذكرى في القلب , جراح مازالت تنزف , الوجع يسكنها مع ذكريات الماضي التي تشغلها , في الإغتراب كل شيء يبدو مخيفا ً , في المنافي تدرك معنى البكاء , الغياب حاضر , الحب حاضر , لكن الإنسانية وحدها مقيدة , المسافات مفتوحة طويلة , الضباب يغلّف أيامها , كل شيء مبهم لا ضفة تشبه ضفة شط العرب .
الأماكن ليست مجرد مدن وأحياء وأزقة قديمة تحمل عبق الماضي , هي تاريخ مملؤ بالأحداث والقضايا الإنسانية الكثيرة التي تزرع في النفس ويعتبر الهيكل الذي يحمل باقي عناصر السرد ومن خلاله يقدم الكاتب للقارىء باقي عناصر العمل كالزمن والأحداث والشخوص الرئيسية والثانوية وغيرها من العناصر .
يقول الكاتب عبدالسلام ابراهيم عن المكان :
” المكان عنصر رئيسي في الكتابة الروائية وعليه تقوم الأحداث وتتشابك وربما يتقابل فيهاعنصرآخر في الرواية لا يقل أهمية وهوالزمن, ومن المؤكد ان لدى المكان سطوة على الكاتب ولا يمكنه اغفال تاثيره ويساهم بقدر كبير في تشكيل اللغة” .
أرتكز الخطاب الروائي في رواية ” خطى ً في الضباب ” على ثلاث ثيمات أساسية هي ” الحرب , الحب , الوطن ” وتتدخل هذه الثيمات فيما بينها وتبرز من خلال علاقة الشخصيات التي تشكل أحداث الرواية , وتعتبر اللغة وسيلة الكاتبة في نقل واقع المرأة في المجتمع مستمدة هذه الصورة من واقع تجربتها الشخصية .
من هنا تزيح الكاتبة ” ذكرى لعيبي ” الستائر عن النوافذ عبر روايتها ” خطى ًفي الضباب ” ** بحياة مليئة بمحطات زمانية ومكانية عدة , فقد رسمت لنا بلغة أدبية جميلة ” بانوراما ” فنية تأسر القلوب .
تتحدث الرواية عن ” أميرة ” أبنة جميلة مدلّلة لعائلة وجيهة ومترفة , تلك المرأة التي يقال عنها ملكة جمال الأهوار أو كما تسمى ” موناليزا الشرق ” , كانت تؤمن بما يخطّه لها القدر وكذلك تؤمن بما تقرأه العرّافة , عقود غابرة سحقت شبابها وتركتها كسيرة الجناح , كل وقت تبكي على نفسها وعلى ما ضاع من إمسها حتى وطنها الذي غادرته ولا تستطيع العودة اليه , تعود لمن ؟ لا أهل ولا أحباب هناك حيث غيبهم الموت , تزوجت زواجا ً تقليديا ً , كان زوجها ودودا ً معها , يحاول أن يسعدها , أنجبت له ولدين , في عام 1991 – بما يسمى غزو العراق للكويت التحق بصفوف الجيش حاله حال الآف الشباب العراقي آنذاك وبعد إنتهاء الغزو والإنسحاب الدامي للجيش عاد زوجها , في ذات العام أخبر زوجته ” أميرة ” بإنه يحب امرأة أخرى ويريد الزواج بها ! كيف ؟ ومتى ؟ ولماذا ؟ اسئلة تتزاحم برأسها وجع لا يشبه وجع الحروب ولا وجع الفقد , سألته لماذا ؟ أجاب :لأني أراك ِ نصف
امرأة , بقيت مع نفسها تتساءل بذهول كيف نصف امرأة ؟ ألم أنجب لك الأولاد ؟ ألست صغيرة وجميلة ؟ ألست بنت حسب ونسب ؟ لكنها عرفت تاليا ً المقصود بنصف امرأة ! نعم التفاصيل مؤلمة ومملة , فصار الأنفصال أقرب الحلول وربما أيسرها .
هذا هو الحدث الرئيسي في الرواية والذي يبني عليه السارد أحداث قصته , الشخصية هي التي تصنع الحدث في الرواية فالحدث والشخصية شيء واحد , وهي تعمل كما يقول ” رشاد رشدي ” بربط عناصر الرواية ببعضها , من هنا نلاحظ أن الكاتبة ” ذكرى لعيبي ” أجادت في ترتيب أحداث الرواية وكانت أكثر قدرة على إبلاغ المتلقي رسالته الفنية وكما تكشف عن صراعها مع الشخصيات الأخرى .
بعد شهور ترك زوجها البلاد وسافر وتزوج بتلك المرأة التي أحبها , أميرة عاشت سنوات طويلة قرضت من صحتها وشبابها , سنوات مشت فيها على فوهات البراكين وقطعت الفيافي وصاحبت المنافي وأرتطمت روحها بفجوات من عصب الريح وأيقنت إنها تسير فوق جسر من الأحزان , تتمنى لو ينقطع لتركب موج طيوف الأمل , جاءتها حيلة قذرة من جد الأولاد , صدقت لأنها لم تتوقع الكذب من رجل ” بلغ من العمر عتيا ” ليأخذ الأولاد الى أبيهم وسافر بهم الى دبي وتبقى أميرة المفجوعة بفراق أولادها لأنها آمنت بطيبة قلبها ولأنها صدّقت النيات الظاهرة وسمعت كلام أحد اقاربها ” أعطهم لوالدهم وستكون الأمور على ما يرام ” .
دخلت دروب مجهولة وحالات حزن عميقة وكانت تبكي بنواح من ألمها وجروحها وشجونها التي لا تبرأ .
منحت الرواية للكاتبة ” ذكرى لعيبي ” مجالا ً واسعا ً في دراسة نفسية المرأة وأطلقت الرغبات الدفينة في نفس شخصياتها في فضاء خصيب للتحرر من قيود الواقع وإطلاق العنان للنفس البشرية لتعبر عن ذاتها بحرية من خلال شخصيات الرواية , ترصد الرواية حالة المرأة في المجتمع فتبدو مظلومة لا حول لها ولا قوة في مجتمع شرقي ذكوري غير مكترث بحقوقها وواجباته نحوها .
سافرت أميرة الى دبي والتقت بأولادها وعملت في مجال بعيد تماما عن تخصصها وشهادتها فقط لتأمين الإقامة التي تتيح لها البقاء في دبي بصورة شرعية , عانت ما عانت من قبل أبيهم وزوجته الجديدة , شعرت بالمرض والتعب من الحرب النفسية المدمّرة فقررت إما أن تعود بإولادها الى العراق أو تبقى لإجلهم وتبدأ مرحلة التحدي فأقترحت عليها صديقتها ” نوال ” أن تبقى , الأقدار تتدخل مرة اخرى في مسار حياتها وترضى بالذي هو أدنى وتحاول أن تؤثث حياتها من جديد وأن تضع بصيص أمل لحياتها فتتزوج من ” وائل ” وفضلت الزواج مرة اخرى على نظرة الذئاب التي كانت تحاصرها ولم تكن تعلم انها وقعت في بؤرة بائسة أشنع مما تعرضت له وكان هدفها وأملها البقاء قرب ابنائها واكتشفت لاحقا أن ” وائل ” صديق لزوجها الأول وزوجته , لكن زوجها ” وائل ” كان كتلة من القهر والمعاملة السيئة , عراك وخلافات وأوهام وبخل فلم يستمر زواجها طويلا ً فقد حصلت على الطلاق, المرض وتبعاته هم ّآخر لحق بأميرة لكن ما حيلتها سوى الرضا بقدر الله .
تأخذنا الكاتبة ” ذكرى لعيبي ” الى قصة ثانية في الرواية هي قصة ” فاطمة ” لبنانية الجنسية وزميلة أميرة في مكان عملها , فتاة جميلة تلثغ بلهجة عربية محببة للنفس , صبوحة الوجه ونقية الروح لكنها أيضا ً ذات حظ متعثر ! تعرفت الى رجل عراقي ميسور الحال والذي كان يتردد الى الأمارات بحكم عمله , عقدت عليه أمالها ومستقبلها بل حياتها باكملها ووافقت أن ترتبط به بعلاقة منقطعة , جنون العشق وتخبط المشاعر وزمجرة الأحلام , كان يطمئنها إنهما سيعيشان حياة سعيدة تنسيها غربتها , دامت علاقتهما فترة طويلة , فترة كافية أن تشعر بعلامات الحمل , هاتفته لتخبره انها حامل ولابد أن يرتبط بها بشكل رسمي ومعلن , قال لها جملة واحدة أرعبتها وغيرّت مجرى حياتها للأبد :
” وهبتك ِ المدة المتبقية , لم تعودي على ذمتي , وتصرفي بهذا الحمل وايضا ّ أنهيت أعمالي في هذا البلد ” .
هكذا تضع الكاتبة ” ذكرى لعيبي ” في روايتها ” خطى ً في الضباب ” المتلقي أمام الأثار السلبية في نفس شخصياتها , فالشعور بالظلم يرهق النفس ويؤدي الى الحسرة والمرارة والقهر وقد يؤدي الى اضطرابات نفسية ولا سيما حين تجد شخصياتها مغلوبة على إمرها وغير قادرة على رد الظلم عن إنفسهم .
تدخلنا الكاتبة ” ذكرى لعيبي ” في القصة الثالثة , قصة ” اليازية ” التي تزوجت من ” عبدالله ” بعد قصة حب دامت فترة قصيرة , أقصى أحلامها أن تتزوج وتنجب وتعيش في كنف زوجها يحبّها ويرعاها لكنها تكتشف في شهر العسل بأنه ” عنيّن ” وتطلب منه الطلاق فيوافق على إخلاء سبيلها شرط أن تقول” إنها لم تكن عذراء ” كي يتستر غلى فضيحة عجزه الجنسي .
إستطاعت الكاتبة ” ذكرى لعيبي ” أن تخلق التجربة بموهبتها وقدرتها على الخلق والإبداع , ومن خلال إبداعاتها تمكنت من إقناع المتلقي عبر توظيف أساليب التراجيديا والسرد السلس لأحداث الرواية لينسجم القاريء مع أحداثها وأحاسيس شخصياتها ويتفاعل معها .
تحمل الرواية في ثناياها رسالة حب فالحب غذاء للروح والجسد والعقل , الرواية تتحدث عن القصة الرابعة لفتاة اسمها ” شامة ” عشقت وأحبت شابا ً وسيما ً ومثقفا ً , كانت مازالت على مقاعد الدراسة , سامي سكن قرارة روحها وملأ عالمها نورا ً وأملا ً, بعد أن أنهيت مرحلة الثانوية تقدم لخطبتها بزيارة والدته لطلب يدها لكن أم سامي شعرت بإن ” أم شامة ” مستاءة من زيارتها ففاجأتها في موضوع الخطبة مباشرة : ” شلون تقبلين جايه تخطبين شامة لأبنج ؟ ” ليش خيّه جا أشبيه أبني ؟
” لا خيّه لا , لا أنتم من ثوبنه ولا أحنه من ثوبكم ؟ أم سامي تبلع ريقها أكثر من مرة وكيف تيبست شفتاها .
احلامها أنتهت بقرار من والدتها , سعادتها تلك تقتلها ما يسمى بالفوارق المجتمعية , رسمت اكثر من سيناريو وخلال دقائق قليلة , أتخذت قرار بائس بقرار الأنتحار , القرار الذي جعلها خارج إرادة الوعي ولكنها نجت من الموت بغسيل المعدة وبقاؤها ثلاثة ايام في المستشفى , حسم موضوع سامي بزواجه من أبنة خالته كرد إعتبار لوالدته التي أهانتها والدة شام .
الرواية هي معاناة لا تجيد التعبير عنها إلا امرأة عرفت هذه المعاناة العميقة عن قرب وعن ذلك الشرخ العميق الذي يسكن أعماقها , تعمدت الكاتبة ” ذكرى لعيبي ” وبطريقة ذكية أن تضع القاريء في حالة تفكير وتحليل وإستنتاج بحكم انها خاضتها لتجربة إنسانية أدى هذا الى أن تظهر لنا امرأة متألمة , منكسرة واخرى قوية متحررة , متمردة .
تزوجت أحد اقاربها لكنه أستشهد في حرب العراق مع ايران والتي أستمرت ثماني سنوات , حرب كفيلة أن تسرق من كل بيت عراقي شهيد أو أسير أو مفقود , حرب سلبت الأمان والكثير من الشهداء , الحزن رفيق دربها والمحطات الصعبة كثيرة لكنها مع كل ذلك تنهض , تستوي في مواجهة حزنها ووجعها مع الحياة التي تركت في نفسها ندوبا ً عميقة وأمام نظرة المجتمع لزوجة الشهيد وبين ضغط الأهل للزواج من أخيه , كان لا بد من تقرير مصير فكان الهروب الى ضفة رخوة حالها حال بقية النساء اللاتي قررن الأنفلات من عجلة مدن الحروب والخروج عن مسار درب القيم البالية والمعتقدات البائسة والسلطة الذكورية المهينة للقارورة التي خلقها الله لمؤانسة الرجل , وللخروج من ألم المعاناة قررت الهجرة ومغادرة العراق كون الحياة في العراق لم تعد ممكنة , هاجرت الى دبي والتي تحاول البحث عن ذاتها في هذا العالم وعن شيء فقدته في الحياة .
هكذا عشنا مع الكاتبة ” ذكرى لعيبي ” وروايتها ” خطى ً في الضباب ” التي كان لها الدور في إطلاق صرخة الرفض بوجه المجتمع والتي عبرت فيه عن اجواء القهر إضافة الى الكبت والأضطهاد وكما يقول ” مارت روبير ” :
” ان الرواية هي تاريخ المرأة وأن كتابة المرأة ماكانت الإ بغرض تحريرها واطلاق العنان لقدراتها الفكرية , فالأدب كما هو مرآة للذات هو مرآة للآخر واكتشاف له ” .
**” خطى ً في الضباب ” / ذكرى لعيبي / حزيران 2020 / دار الدراويش
للنشر والترجمة / بلونديف – بلغاريا .