الفجوات النصية وجدلية الآفاق
قراءة في رواية (الربيع يأتي متأخرا) للكاتب السوري منذر فالح الغزالي
توطئة:
كثيرا ما يجد قارئ الرواية العربية نفسه أمام تساؤلات عديدة ومتشعبة، تحتاج إلى دراسة واسعة وشاملة لحلها، إذ كيف تجاوزت النصوص الروائية المعاصرة كل أشكال الكتابة الواقعية وما بعد الواقعية إلى أشكال حداثية تتأسس على الانشطار الحكائي، وتداخل الأجناس والأنساق. لعل مرد ذلك إلى كون الرواية جنسا مفتوحا على غيره من الأجناس الأدبية، تسمح لغته بأن يتخللها أنماط تعبيرية مختلفة، يسميها ميخائيل باختين بـ” ذاكرة النوع الأدبي”، باعتبارها ناقلة لدلالات اجتماعية ونفسية، تمتزج بسياقاتها الإنتاجية.
إن هذا التحول في سيرورة الرواية العربية دفع القارئ إلى التأمل، وبالتالي وجد نفسه إزاءَ نوع جديد من الكتابة الروائية يُمَثِّل التطورُ هُوِيَّتَه، وهو ما أدى إلى ظهور إشكالية أكبر وأعمق مرتبطة بتلقي النص الإبداعي ذاته في علاقته بالقراءة التي تهدف إلى استجلاء شيفراته. وهو ذاته جوهر نظرية التلقي. هذه الأخيرة ترمي إلى أن النص الأدبي يخضع لتطور تأليفي وتشكيلي في إطار النصية، وذلك لقدرته على التفاعل مع مختلف القراء، وهو ما يسمح بتعدد تأويلاته التي تصبح عبارة عن تراكمات نظرية ومنهجية، علاوة على أن هذه التأويلات لا تفرغ النص الأدبي من هويته، ثم إن نظرية التلقي تهدف بالأساس إلى تجاوز التصور التقليدي للقراءة، والذي ارتبط بمضمون النص في مقابل قراء يتعاقبون عليه وكأنه الحقيقة مطلقة. كما أعادت الاعتبار إلى المتلقي كشريك في العملية الإبداعية.
في هذا الإطار سأحاول من خلال مقاربة رواية (الربيع يأتي متأخرا)، عبر استبدال علاقة القراءة بالفهم بعلاقة القراءة بالتأويل. هذه العلاقة التي خضعت بدورها لمقاربات نقدية ومعرفية مرتبط بتطور النظرية النقدية ذاتها من جهة، ومن جهة ثانية تتيح عملية القراءة سبل تجديد فهم القارئ خاصة عندما يصطدم بجملة من البياضات والفراغات التي تورطه، وتدعوه فنيا إلى مجابهة النص الأدبي حيث تنبثق الفجوة النصية كأفق لفهم الوجود الإنساني. هكذا يصبح التأويل هو الوسيط بين الذات القارئة الناقدة والمتلقية باعتبارها محللة ومفككة للمُحَوَّل. وبين تجليها في النص عبر ذات الكاتب الروائي والعالم بتفاصيل النص الإبداعي.
- أفق السياق:
تتموضع أحداث رواية “الربيع يأتي متأخرا” ضمن سياق تاريخي واجتماعي وثقافي معقد جدا، سواء من حيث النُّظم والعلائق والأفكار أو من حيث التفكك المجتمعي. فالسياق العام للرواية ينطلق من بداية الحراك العربي الذي شهدته عدد من البلدان العربية، والذي أسفر عن سقوط عدد من الأنظمة التي ظلت لعقود من الزمن متشبثة بالكرسي، (تونس ومصر ولبيا واليمن…)، حراك زرع الأمل في التغيير ليتراجع بسرعة خلف قوانين طاغية، أتت على القيم الإنسانية، وعلى حب الآخر. فسياق الرواية إذن يتشكل أساسا من هذه العلائق النفسية والاجتماعية التي تؤسس مرجعيتها الإنتاجية، كما أن كل فترة تاريخية إلا وتتحكم فيها معايير تأويلية تتكون من إيديولوجيات وتصورات وأفكار.
يلحظ القارئ لرواية (الربيع يأتي متأخر) أنها تهدف إلى خلخلة اليقين، حيث تعج بالوقائع والعلائق، وتتنوع فيها الأفكار كما الحقائق مشكلة فِجاجا في ذاكرة مشروخة وحائرة يمثلها الشخوص (رياض/ زياد/جنان/ خليل/ ميسون/ ليلى/ عبير/ ضحى…). هؤلاء يجدون ذواتهم في صراع دائم مع واقع كانت الغلبة فيه لقيم انتهازية من جهة، ومن جهة ثانية مع ما يتمثلونه من أفكار تحررية في وجدانهم. يقول صاحب الرواية: (رواية عن الروح والعقل والجوارح، عن الإنسان الحائر، في صراعه الأبديّ بين هذه الأقانيم الثلاثة، وهي تتنازعه وتتحكّم بمصيره)[1]،وفي هذه الحال تصبح الكتابة عند منذر الغزالي حالة وجودية، تبغي التحرر وكسر منطق التشييئ.
- أفق النص:
تعد الرواية جنسا أدبيا اجتماعيا هجينا بين المحكي وأشكال أخرى، لارتباطها بعدد من الإشكالات السياقية والتاريخية والحضارية، وهو ما أقره هيجل بعد أن ربط أشكالها ومضامينها بالتحولات البنيوية التي عرفها المجتمع[2]، فالرواية منذ ظهورها في الغرب وانتقالها إلى الثقافة العربية تمثلت التاريخ الأدبي، كما واجهت الواقع عبر عملية تحويله إلى تخييل استعاري بفعل خصائصها الفنية والأسلوبية والبلاغية، الشيء الذي يمنح صورة جمالية عن عالم يتماهى فيه الواقعي بالمتخيل، والظاهر بالغائب حيث تتقلص المسافة بينهما فيتحول العادي القاصر في إدراكه إلى اللاعادي الفاعل. وبالتالي تنتج خطابا جديدا منفردا لا توجد معايير محددة حسب تعبير تودوروف لتصنيفه أو تجزيئه[3]. فإلى أين حد تتمثل الذاكرة النوعية للجنس الأدبي في نص (الربيع يأتي متؤخرا)؟ وكيف امتصت هذا التاريخ المعقد والطويل؟
إن أية رواية لابد وأن تحمل بين طياتها رؤية كاتبها حتى يَسْهُل على القارئ أن يَتَمَثَّل تصورها، لأنها في النهاية هي نسق من المنظورات المصممة لكي تنقل الخاصيات الفردية لرؤية المؤلف. وقد حدد فولفغانغ إيزر المنظورات النصية في أربعة منظورات تتلاحم مع الآفاق الجزئية لمنظورات النص لتشكل أفقه وهي: منظور السارد، منظور الشخصية، ومنظور الحبكة، ومنظور القارئ التخييلي[4].
إن دراسة الشبكة البنائية لأفق النص الروائي، تنطلق من ضرورة الوقوف عند عتباته باعتبارها عناصر تكثيفية وتبئيرية[5]، ومعبرا إلى دلالاته. ويعتبر العنوان أحد العتبات الرئيسية في المناهج الحديثة، إذ يحتل مكانة مهمة، خاصة في سيميائيات النص، والتلقي الجمالي، ونظريات القراءة. فهو مرآة مصغرة لكل ذلك النسيج النصي[6]، وقد جعله جيرار جينيت نصا موازيا ودالا على النص الرئيسي، واعتبره روبرت شولز مسندا عاما وباقي المكونات النصية فروعا مسندة إليه[7]، ثم إنه من المؤشرات التي تدخل في حوار لا مرئي مع القارئ، وتثير في دواخله الفضول المعرفي لمحتوى النص. يذكر كلود دوتشيه : أن العنوان عنصر من النص الكلي الذي يستبقه ويستذكره في آن، بما أنه حاضر في البدء، وخلال السرد الذي يدشنه، يعمل كأداة وصل وتعديل للقراءة[8]. وبتحليلنا لمقولة العنونة التي تَسِم الرواية موضوع دراستنا (الربيع يأتي متأخرا)، فعلى مستوى التركيب نلفيها تحتمل الوجهين من حيث تقديم الفاعل من عدمه، فتقديم الاسم (الربيع) على العامل (يأتي) هو من باب التوكيد، ورفع التَكَلُّف، وهو ما نُرَجِّحُه، إذ أنه ليس من داع اعتبار (الربيع) مبتدأ، وإضمار الضَّمير بعد (يأتي) ما دام تم إظهار الاسم قبله، ثم إنه إذا أخذنا بمبدأ الأصل والفرع الذي يمتد إلى العامل، فإننا نحصل على دليل يقوي جواز تقديم الفاعل، وقد يجعله ضرورة تركيبية، وهو ما نسمه بعلة الوجود الكوني، إذ أن الفاعل أسبق في وجوده[9]. أما على مستوى الدلالة، نجد عنوان (الربيع يأتي متأخرا) يؤدي وظيفتين، إذ تفيد الوظيفة الأولى إغواء القارئ، وإثارته. وهو ما يحفزه على قر اءة النص، والوظيفة الثانية إيحائية رمزية تساهم في تكثيف دلالات النص، وبناء شعريته، وتعداد دوالِّه. فالربيع يأتي متأخرا، مقولة تكتز علامات سيميائية يمكنها أن توجه فعل التلقي، وتغني مستوى التأويل خاصة إذا ربطناها بزمن كتابة الرواية، يقول منذر الغزالي: حين بدأت كتابتها في النصف الثاني من العام 2011، كانت المنطقة العربية تشهد حراكا شعبيا أحيا الأمل في النفوس …[10] انتهت الرواية في درعا 29/12/2013[11]. وما بين اشتعال جذوة الحراك وخمودها، تتوهج أحداث الرواية في انسيابية، وتتجابه الشخصيات والأفكار والهويات.
يبدو لمتلقي رواية (الربيع يأتي متأخرا)، أنها تدفعه حتما إلى تشييد علاقات حوارية بينه وبين نسقها، وبالتالي يسمح له بالتأويل وإنشاء الدلالات، ويكتشف أن الرواية تزخر بجملة من العناصر الفنية الجمالية والفكرية. إن شخصيات الرواية (زياد/ رياض/ جنان/ضحى/ ليلى) والتي خصها السارد بتوطئة في الصفحتين 5و6 من روايته، بالإضافة إلى شخصيات أخرى، ساهمت في بناء اللعبة السردية بشكل كبير داخل النص الروائي (ميسون/ خليل/ سامر/ كاظم/ أسامة/ عبير …)، نجد الكاتب يحدد توجهاتها الفكرية عبر المتن الحكائي في عملية تدرج للأحداث، ثم إن الشخصية البطل (رياض) تشكل نموذجا متناقضا، هذا التناقض الذي يجعلها حائرة وتائهة بل تصل أحيانا إلى درجة التشظي، (في حياتي كلها لم أعش ذاتي بصدق ونقاء .. لكن الحياة التي أعطتني الكثير.. أخذت مني فوق ما أعطتني بكثير)[12]فيصبح (أي شيء يعني كل شيء، وكل شيء يعني لا شيء… وبين كل شيء ولا شيء تمضي حياتنا… نتشبث بالشيء نظنه كل شيء، نقاتل، نفقد لأجله أشياء… ثم بعد أن نملكه نشعر أنه كان لا شيء، من جديد ننظر إلى شيء آخر سواه.. نفقد أشياءنا الأولى.. ثم نفقدها جميعا.. ثم ندرك أننا كنا نصارع من أجل لا شيء)[13]في تتماهيها (شخصية رياض) مع عوالم باقي الشخصيات، وتعيش تمثلاتها الثقافية عبر التساؤل الدائم (قل لي ماذا أفعل؟/كم قصة تجري خلف ستائرها المسدلة؟ كم حكاية؟ وكم مأساءة؟[14]، لتعود إلى الغوص في ذاتها، محاولة التمسك بقيمها التي آمنت بها.
إن وعي البطل (رياض) بطبيعة العلائق التي تربطه بباقي الشخوص، جعله يقف عند مدى التناقض بينه وبينهم، إذ أن ما يعتمل في دواخله جعله يعارض ما تؤمن به شخصية (زياد/ خليل/ جنان) في محاولة لتوجيه مواقفهما اتجاه القضايا التي يتم مناقشتها سواء في مقصف الجامعة أو في شقة زياد أو على شاطئ البحر. وهو ما يجعل المتلقي يشعر بأن هذه الشخصية (رياض) تشكل نشازا جعلت من فضاء الرواية فضاء للصدام والتوتر.
بالتدرج في تلقي الرواية نجد أن الشخصية/ البطل (رياض) حاول أن يؤسس لذاته شرعية التواجد عبر اختراق أفكار باقي الشخوص، ومقاربة ثقافتهم غير أنه كان يجد نفسه في كثير من الأحيان هاربا من المواجهة، ومستسلما لانكسارات الذات عبر فعل الفداء والتضحية (… وأنا حين أضحي بسعادتي، أحسب أني أضحي من أجلك)[15]، وهو ما خلق غموضا في علاقته مع الآخر. إن شخصية (رياض) تعي تمام الوعي أن غموضها ناتج من وعيها باختلافها عن الآخر، حيث يتسرب ذلك إلى الفجوات في النص الروائي. لقد عان البطل بسبب تكريسه للتصور النمطي الذي يحمله في وجدانه لذاته من جهة، ولما يحيط به من جهة ثانية، (أقسى أنواع القهر، أن يُقْهَر المرء من داخله، ان يركض في حلقة مفرغة، دون أن يجد فتحة للخروج)[16]، فكان الشعور باغتراب (الأنا)، والفشل في مواجهة الآخر (الأسرة/ الأصدقاء/ الحبيبة..) أكثر ما وسم شخصية رياض خاصة بعد انهيار أحلامه، حيث طُرِد من الجامعة بعد أن كان يستعد للتخرج في سنته الخامسة كمهندس، وفشله في خلق علاقة سوية مع جنان التي عشقها، كما ضاع منه معنى الصداقة الحقيقة، وحميمية الأسرة. أمام هذا الوضع المتأزم، يتضح أن (رياض) كان يحاول ترميم دواخله، وخلق توازن من خلال علاقات شاذة (علاقته بشخصية عبير وشخصية ضحى) مستبعدا العقل، وفاتحا المجال للشهوة، إلا أنه ككل مرة يجد نفسه في صدام مع الآخر، وهو يعي تمام الوعي أن علاقته بهذا الآخر ستظل متوترة. إن شخصية (رياض الأنا) محور النص، في بعدها الرمزي تحيل على السارد منذر الغزالي، باعتباره مثقفا يحاول إيجاد أرضية للحوار من خلال أنساق متعددة عقائديا وفلسفيا واجتماعيا، وسياسيا.
يفرض الإشكال النسقي على القارئ أن يبحث عن الاستراتيجيات النصية التي اعتمدها الكاتب، والتي تساهم في نمو أحداث النص، وتمنح النص جمالية لا من حيث اللغة فحسب، ولكن من خلال الشعرية التي تخللت الرواية سواء القصائد الشعرية التي كان يلقيها رياض أو المقاطع الفيروزية التي كان يدندن بها رفقة جنان. ثم إن قارئ رواية (الربيع يأتي متأخرا)، سيقف عند جمالية الأفضية التي تشكل مرجعية ترتبط بالواقع السوري من جهة، ومن جهة ثانية تحيل على رمزية قوية في الذاكرة السورية، كاستحضار الكاتب في مطلع الرواية لدمشق، حيث يذكر ما يحيل عليها: (الشمس مالت نحو الغروب، و ألقت على قاسيون نقابا ذهبيا، واشتعلت قمم الأشجار ببريق أشعتها اللامعة…)[17]، واللاذقية، يقول: ( حين وصل إلى اللاذقية في أحد الصباحات الخريفية من سنة 1991..)[18]، ومحافظة درعا ( والمسافة من دمشق إلى درعا تستغرق ساعة بالحافة[19]… انتهت الرواية في درعا 2013)[20] وجامعة “تشرين، حيث كانت تلتقي الشخصيات وهي طالبة في كلية الآداب وكلية الطب والهندسة.
نخلص إلى أن انفتاح رواية (الربيع يأتي متأخرا) على مرجعيات واقعية ورمزية ودلالات سياقية اجتماعية وتاريخية وثقافية لم يكن انفتاحا عفويا إنما بدافع تفجير دلالي عميق لبنية الخطاب الروائي، وهو ما خلق وعيا نصيا بحقيقة الواقع الذي جسدته الرواية.
- أفق القارئ
إن أي قارئ يسعى إلى فهم نص أدبي، ويعمل على تأويله، سيكون حتما قد تشبع بمرجعياته التاريخية والثقافية والاجتماعية التي شكل منها هذا النص أفقه وسياقه الخاص. وبالتالي يتصادم أفق القارئ مع أفق النص، ذلك أن عملية التواصل بينهما تتأسس على مرجعية مشتركة. ولعل كاتب النص بدوره وقارئه يشتركان في كونهما يَعِيَان تمام الوعي بهذه المرجعيات، وإن كان القارئ يتميز عن الكاتب بأنه يضيف إلى ذاكرته الثقافية عناصر جديدة بالنظر إلى المسافة بين زمن الكتابة وزمن القراءة، وهو ما يتيح له استثمارها في قراءة النص وتأويله. وبالنظر إلى رواية (الربيع يأتي متأخرا) نجد أن التقادم الزمني على مستوى الكتابة ما بين زمن الشروع فيها 2011، وزمن الانتهاء منها 2013، وهو زمن ماضي يجسد أحداث الرواية، ويختلف عن زمن آخر ماض، وهو الزمن الممتد من الانتهاء من كتابة الرواية إلى زمن نشرها 2018، وهو زمن خارج الرواية، وقد رافقه تطور معرفي ،لابد أن وتكون ذاكرة القارئ قد تفاعلت معه، وهو ما يسمح لها بتأويل نص ينتقي من سياقاته ما يشكل رؤيته، لأنه (النص) يتخذ من الأنساق السائدة سياقا له، لكنه لا ينسخ الإطار المرجعي الذي يثبتها[21] وإلا سيعيد إنتاج توقعات القارئ.
تزخر رواية (الربيع يأتي متأخرا) بحمولة مرجعية، تطرح إشكالات كبيرة حول طبيعة الكتابة الروائية السورية، هذه الأخيرة تعكس الظرفية التاريخية والثقافية والسياسية من خلال التيمات التي اشتغل عليها الكاتب، والتي جاءت واضحة في التوطئة التي صدر بها للرواية، وفي ثناياها عبر فصولها الثلاثة عشر (العشق، والحب، والتضحية، وجسد المرأة، والجمال، والهرم، والشباب، والحرية[22]، والانتكاسة، والانكسار، والجامعة، والحلم، والأمل … (وهو يحدثها عن الهندسة وعن تخرجه وأحلام ما بعد التخرج، وهي تحدثه عن ضيعتها الصغيرة…)[23] . لقد بدى منذر الغزالي متمكنا من آلياته السردية حين استعان بتقنية التناوب الزمني بين الاسترجاع والاستباق في سرد الأحداث، حيث يلفي القارئ نفسه أمام زمن متحرك وفي سيرورة لا متناهية، بين بداية الفصل ونهايته، وبين فصل وآخر. إن جدلية الزمن بين الماضي والحاضر والمستقبل وكذا الأمكنة، وطبيعة الأصوات التي وظفها الكاتب، تجعل القارئ يدرك أن النص يقوم بوساطة استراتيجيات متعددة تهدف إلى التحكم في دلالاته، وفي تنظيم عملية التواصل الأدبي معه.
خلاصة القول، إن أفق القارئ يعي السياق التاريخي والثقافي للنص الأدبي، والتحولات التي تطرأ عليه، وهو ما يساهم في خلق سمة تواصلية منتجة لدلالة بينهما.
خاتمة:
بعد أن عالجنا مختلف الآفاق التي تشكل فجوات النص في رواية (الربيع يأتي متأخرا)، وهي أفق السياق، وأفق النص، وأفق القارئ، وانفتاحها الدلالي، نستنتج أن فعل القراءة يظل عملية معقدة إذ يتم خلاله نقل النص إلى ذهن القارئ الواعي[24] ، وهو ما يستدعي بالضرورة مجابهة القارئ لهذا النص، وضرورة معرفته للخلفية السياقية التي ينطلق منها النص الأدبي. زيادة على أن المقاطع السردية في رواية ( الربيع يأتي متأخرا) مترابطة فيما بينها داخل النسيج النصي ترابطا قصديا ودلاليا، وهي ما منح الرواية تماسكا وجعلها تحقق غاياتها.
[1] الربيع يأتي متأخرا، متذر فالح الغزالي، دار المختار للنشر والتوزيع، 2018، ص.3
[2] الخطاب الروائي، ميخائيل باختين، ت: محمد برادة
[3] أصل الأجناس الأدبية، تزفتان تودوروف، ت. محمد برادة، مجلة الثقافة الأجنيبة، العدد الأول، السنة 3، ربيع 1982، ص.48
[4] فعل القراءة نظرية جمالية التجاوب في الأدب، فولفغانغ آيزر، ت. حميد الحميداني, الجلالي الكدية، ص. 31
[5] الرواية المغاربية المعاصرة، دراسة تأويلية، عبد الله لحميمة، ص. 32
[6] النص الموازي للرواية: استراتيجية العنوان، شعيب حليفي، مجلة الكرمل، العدد 46، 1992،ص, 84/85
[7] سيمياء النص الشعري اللغة والخطاب الأدبي، روبرت شولز، ت. سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1993، ص. 161
[8] عناصر علم العنونة الروائي، كلود دوشيه، أدب، فرنسا، عدد12 ، كانون الأول، 1973، ص. 52/53
[9] شرح المفصل، ابن يعيش، الجزء الأول، ص. 202/ 203
[10] الربيع يأتي متأخرا، منذر فالح الغزالي، ص.3
[11] الربيع يأتي متأخرا، منذر فالح الغزالي، ص.705
[12] الربيع يأتي متأخرا، منذر فالح الغزالي، ص.265
[13] الربيع يأتي متأخرا، منذر فالح الغزالي، ص.686/687
[14] الربيع يأتي متأخرا، منذر فالح الغزالي، ص.689/ 690
[15] الربيع يأتي متأخرا، منذر فالح الغزالي، ص.644
[16] الربيع يأتي متأخرا، منذر فالح الغزالي، ص.246
[17] الربيع يأتي متأخرا، منذر فالح الغزالي، ص.7
[18] الربيع يأتي متأخرا، منذر فالح الغزالي، ص.14
[19] الربيع يأتي متأخرا، منذر فالح الغزالي، ص.13
[20] الربيع يأتي متأخرا، منذر فالح الغزالي، ص.7
[21] فعل القراءة نظرية جمالية التجاوب في الأدب، فولفغانغ إزر، ص. 27
[22] الربيع يأتي متأخرا، منذر فالح الغزالي، ص.6
[23] الربيع يأتي متأخرا، منذر فالح الغزالي، ص.160
[24] فعل القراءة نظرية جمالية التجاوب في الأدب، فولفغانغ إزر، ص. 143