قراءة في المجموعة الشعرية (نايات الريح)
رفيف عصافير الدوري يعانق قلوب العذارى
محمد حسين الداغستاني
عندما نستعرض رموز بدايات الابداع الشعري النسائي في كركوك تبرز امامنا أسماء عديدة منها على سبيل المثال منور ملا حسون وآيدان النقيب ورمزية مياس وآمنة محمود وغيرهن اللائي أفلحن من خلال نتاجاتهن في إضافة الكثير من الحيوية والمواقف المميزة والجرأة الادبية على المشهد الثقافي والادبي للمحافظة خاصة والعراق عامة .
وتكمن تميز الشعرية النسائية أيضا في القدرة التعبيرية على خلق فضاء ابداعي يتوائم مع هواجس المرأة في تفتيت أسار الحجر الانثوي ومجابهة التحديات الاجتماعية واختراق اسوار التضييق فضلا عن التعبير الخلاق عن الجرح الانثوي وسلسلة القهر الطويلة التي كبلت المرأة في مجتمع ذكوري محافظ.
وفي هذا السياق فإن الشاعرة مها الهاشمي التي اطلت على الساحة الشعرية النسوية في السنوات الاخيرة حرصت بخطوات ثابتة لتكون النموذج الواعد لمبدعة ترتقي عبر مجاميعها الشعرية الى موقع متقدم ولتتبوء مكانتها الادبية بين شاعرات وأديبات كركوك بإقتدار مبين .
في مجموعتها (نايات الريح) تترجم الشاعرة توق المرأة التقليدية الرازحة تحت وطئة التقاليد والقيود العشائرية الى التحرر من هذه القيود عبر إطلاق العنان لخيالها الجامح فتغدو الكلمات مثل نهر فائض يندفع بقوة الى تأكيد ذاتها الانثوية المشحونة بالتحدي، موحية لمعاناتها المؤلمة بسبب املاءات السطوة الذكورية للأهل والعشيرة الحائلة بينها وبين إنسانيتها ومشاعرها العفوية :
قفل يُحيط ُ بجسدي…
مفتاحهُ الأهل والعشيرة…
عيّنوني عليه حارسة شخصيةً وأميرة !
خلسة وبيوم حظرٍ للتجوال…
غافلت حراس الطرقات…
وفتحت كل الاقفال…
خبأتها بجثة مَلْقَاةٍ على باب….
لامرأة موبوءةٍ بالسعال…
سابقت الريح قدماي.
تعثرت مراراً…
كطائر للتو يتعلم الطيران..
وتستعين مها الهاشمي بتقنية الصورة الشعرية المتآلفة مع الطاقة التعبيرية للالتفاف على التضييق القسري ولترسم لوحة آسرة تمنح نصها قدرة إيحائية فذة بمفردات بسيطة إلاّ أنها ذات دلالات جمالية رغم ان بيئة النص سلبية ناجمة عن القهر والتعسف القبلي اللذان يحرمان على المرأة خياراتها العاطفية فتستسلم لقدرها المشحون باليأس و تلجأ الى الخالق من منطلق قدسية المشاعر النابضة بالعاطفة والبوح النبيل عسى الاقدار تتغير :
قلَمْتُ مخالبً الشوق…
كي لا تنهش ملامح وجهي..
وتفضح الامر
فالعشقُ جريمةٌ
يعاقبُ عليها، وذنبٌ في شرعنا لن يغتفر..
رفعتُ إلى السماء كفي بدمعة يأسٍ..
وتنهيدةٌ حرّى..
وقلتُ يارباه…. من قبلُ ومن بعد
ان لك الأمر …
وتمضي نصوص المجموعة بلغة سلسلة تقرع الأفئدة بقوة نحو الإسفار عن تجليات الدرب الشائك الذي كتب على الخيار الصعب لحب مستحيل ، في عزف على وقع التوقعات الموجعة لتلتحم مع معطيات المجتمع الذي لا يزال في جلّه ينظر الى المرأة بدونية ، في مكاشفة مفتوحة لسمات واعدة توحي بتحديات آتية :
أخبركَ أني امرأة حين أحُبْ…
لا أرتدي قناعًا، لا أغطي شعرىِ بغطاء.
اتركة لأصابع الرّيح تداعبُهُ…
نشوة الحب ترفعني للسماء…
فتخبرُ الحميع عني
بأني إمرأةٌ تكتبُ قصائدُ حبٍ في رجلٍ ما..
كلماتها انثى تتعرى أمام قطيع ذئاب.
وحين تأتي اللحظة الموعودة تحفل نصوص المجموعة بمفردات التردد وتتفجر فيها كوامن المحظور وينطلق من اعماقها صراخ مختنق يردها الى عالم الذات السحيق، فيتداخل الرجاء مع اليأس فتختار جاهدةً الركون مع وجدها الى محاولة الاختفاء اللامجدي في سبكة لغوية رائعة يغلفها هوس برصد الاحتمالات الممكنة :
أخاف أن أحبك فأثقل عليك
فأهرب منك مثقلة الخطوة ..
ألبس حين أحادثك ألف قناع
أكمم صراخ قلبي بكفي ..
يخفت صوتي مختنقاً بعبرة
ويبسم ثغري ..
أخفي بقلبي ما ليس يخفى !
وفي خضم الفرح تبقى السوانح المستلة من الزمن البخيل أثيرة فتلتقطها (مها) بمهارتها الشعرية مدركة قوة وعنفوان الصدفة في حياة العشاق عندما يعز اللقاء لأي سبب ، فهي تعصف بالقلب وتقلعه من مكمنه فينبهر صاحبه بما حوله مستعيناً بحساسيته المرهفة لكي يكون بمستوى الحدث غير المتوقع ، والآت من الغيب بلا موعد ليضئ الجوانح بنور سماوي آسر :
كلما التقّتْ عينانا صدفة
يخفقُ قلبي بقوة
فتجفل عصافير الدوري بصدري
ويملأ رفيف اجنحتها السماء
ويتحقق المستحيل وينساب البوح المعلن دون قيود وتتكرر فرص اللقاء وتبقى اللحظة الفريدة اليتيمة هي وحدها عالقة في الذاكرة متجذرة في الأعماق تحكي زمن التحرر النادرة من حبال الوجل، هذه اللحظة التي كانت تمثل حلم العمر المثقل بالألم والأمل ، إلا أنها في النهاية لم تكن سوى تيه وسراب :
ذات لقاء
بلا موعد…
تعلقتُ على كتفيك!!..
وصدى حديث ملؤه العتاب…
ما زال يطرق مسمعي..
يصدح في أذني بلا جواب
يحيل خيام العزاء عرسا يراودُهُ حلم سراب.!
يقول الروائي الجزائري ( واسيني الاعرج) الاستاذ في الادب بالسوربون في باريس وهو يضع يده على الجرح النازف نتيجة إستحالة إدامة اللقاء بين العشاق (أن مشكلة الحب الكبير هي أن أصحابه يبدأون بشكل جميل وينتهون في الفجيعة ) هكذا وكأن مآل الحب الكبير قدرٌ مرسوم لابد من خوض تجربته المريرة ، لذا وعلى هذا الوتر عزفت شاعرتنا أغنيتها الموجوعة :
حين قرّرتَ الرحيل..
ولملمت أشياءك التى أعشقها فيك…
نسيتَ أن تعيد لي يدي..
ومنذ افترقنا لم أنم..
ومذ عرفتكَ لم أغفُ إلا على كتفيك….
وهكذا وفي كل ليلة تظل في إنتظار الآتي الذي قد يأتي ولا يأتي ، تتقد جذوة الشوق الأليم في فؤادها الكليل المفعم بالتمني والتوق ، متطلعة نحو موعدٍ كسير أحال ليلها الى كمدٍ محرق وسهدٍ مديد !
كلما يمرّ بي الليلُ
يملأُ سلتي المعلقةُ على نافذتي
حفنة نجومٍ ويراعات حصاد تضيء
وسنابل قمحٍ مليئةٍ بالحب وبدراَ لا يغيب…
هل أوصيتَ الليل بي حين رحلت؟
ويمعن الغائب القريب البعيد في ظلمه بل ويضن بقسوة ظاهرة حتى بحبات مطرٍ قد تكون لامست عطره دون أن يأخذ بالحسبان ما يكبل الحبيبة من حدود وموانع :
ما عدت ُ أشمُ رائحتك مع حبّات المطر
هل هجرت السحاب
وسكنت القفر ؟
لكن مع كل هذا الزخم العاتي والتجاهل المضني تبقى جذوة التمني متقدة في الفؤاد ، تسفر عن نفسها مع فجر كل يوم جديد :
تغيب شمسنا وكأنها لن تشرق أبداُ
لكنها لا تلبث تأتي ثانية أكثر إشراقا
وكأنها لن تغيب
ليتها تلتقي مساراتنا دون فراق !!
إن (مها الهاشمي) وهي تتصدى بشجاعة لقضية المرأة الحبيسة في شبكة العشيرة المتينة عبرتجليات نايات الريح فإنها بذلك تدين المحبس الذكوري الذي غادره العصر منذ زمن طويل و تحول حروفها الصادمة بإصرار الى أسراب من عصافير الدوري الزاهية وهي تملأ الفضاء بالتغريد والقادم الجميل !