على طريقةِ “سوفوكليس”
لا توقظوا الحبَّ
في قلبي
فأنا الآنَ حرٌّ
أطيرُ كفراشٍ حالمْ…
يكفيني وهيجُ الذكرياتِ
حتى الرماد
وأكرهُ الاشتعالَ من جديدْ..
قلبي مثخنٌ بالجراحِ
خوفاً
يحتمي بشغافهِ الحنونْ…
منذر يحيي عيسى
القراءة:
من العنونة نجد أنه
كان يترجم الحواس بذاك الإشتعال مستهلاً مع استجرار إشاراتي عن الفلسفة الأثنية التي تعمق بتراجيديتها (سوفوكليس) فهو أعطى النهي
نافياً ملغياً أي نهج لإشتعاله من جديد (( على طريقةِ “سوفوكليس”
لا توقظوا الحبَّ في قلبي)) الجملة موجهة بصيغة الجمع أي لكل ماحوله كي يصل طلبه معمماً
من شدة الألم الذي حوله لرماد فلقد استمد مشهديته من أنوية ذاتوية
تتكلم بلسان المتكلم ((فأنا الآنَ حرٌّ))
و((وأكرهُ الاشتعالَ )) اللفظة الأنوية طاغية من خلال الجمل الخبرية التي اعتمدها لتطوير الفكرة وإيصالها للمتلقي بكل الغائية ليعالج حالة واحدة من الإكتواء فالنص لاتقسيمات له
لكنه كتلة واحدة لمعنى عام مفتوح على قرار له كل النهي للإبتعاد لأجل اللاعودة لأنها ستحيل الذات الى تراكماتية متكلسة من الإشتعالات والتأويل المفعم ليس مرتكز للنص بل لخدمة الفكرة ووفّق الناص بذلك كلياً فالإيحاء غالباً يتبع فكرة النار والإشتعال الذي بدأ نصه من خلاله عن صاحب الشعلة (سوفوكليس)
نجده لارغبة له بإيقاظ الحب فهنا الحب بالنسبة إليه اشتعال تلعب الحالة النفسية دورها بالنص فهي أقرب للشعورية المتوجسة فهو
لايرغب ذلك الإحتراق لذلك يقوم بالعطف على جملته الأولى توكيداً ودلالة على طلبه بجملة (فأنا الآنَ حرٌّ)
إذاً النهي كان كي يتحرر من قيده العشقي الذي ألهبه
نص ممتد بمعانيه برغم قصره معتمداً على مؤثرات عباراتية عن النفرّي (( إن ضاقت العبارة إتسعت الرؤيا))
فلقد كان التكثيف بالمعنى كمحور أساسي حركي أثمر بإيصال الفكرة العامة
بإطارية ناجعة على المستوى البلاغي والمعنى (( لا توقظوا الحبَّ
في قلبي
فأنا الآنَ حرٌّ أطيرُ كفراشٍ حالمْ))
وعلى المستوى التصويري المشهدي النفسي ((قلبي مثخنٌ بالجراحِ
خوفاً
يحتمي بشغافهِ الحنونْ))
الحدثية الشعرية كانت وفية للأنا بإيفاء الوجدان العالي بمتوالية تصدق بالحس والطلب والرغبة ((وأكرهُ الاشتعالَ من جديدْ..
قلبي مثخنٌ بالجراحِ)) ولامست عمقنا الوجداني بمكنونها الضمني ورؤاها الظاهرية بلا مفارقات نصية فالنص فكرته متجانسة واحدة بإيدلوجية مسارها ذاتي ولم تكن على حساب المسار الفني فهناك تعايش وتكامل إيجابي بين المسارين بمعطيات أتاحت للناص إيحاء الفكرة المبتغاة
أقول للناص إنا فتحنا لك سمط الدر المضمخ بالنسرين تتلو في كراسته اليقين بهذا الإنبلاج الفلسفي كي تفك أسر شعورك حين ينتهي للقناعة (يكفيني وهيجُ الذكرياتِ
حتى الرماد) فهو قد اكتنز بالإحتراق ومازالت ذاكرته مكتظة بذلك التشظي غاية الركود الكلي باتت كالرماد من شدة الاشتعالات المتكررة
يالهذا القلب السخين المجعد في أخدود المأساة بالوقود!! (( وأكرهُ الاشتعالَ من جديدْ))
هل قامت قيامته ‘ليخطو بهذا الهامس وحيداً فيضيق به مخدع شجوه المكبوت المتواتر على إيقاع النار وينقل الإحتداد الى خارج النافذة العليا للوجع.
النار النار !
هكذا يحدو الناص إلى لعبة الهدوء والشاعرية وإلى أكثر من دلالة لغوية ونفسية بالنص (( يكفيني وهيجُ الذكرياتِ))
وهو يستدعي بهذا التحذير تذكرات مناطق الوعي لتعميق تقاطعها
وترتيب مفردات الخوف الذي يحدده بالضرورة مفهوم الفراشة (( أطيرُ كفراشٍ حالمْ…)) بما لها من علاقة تذكر بالنار وذلك ماتؤكده الدلالة الشعورية السادرة
أيضا منذ عتبة الخوف المحصورة بين قوسين ب(خوف الإشتعال) الى مفردة تتضمن مصير هذه الفراشة الحائمة حول موقد
الهوى التي تحترق في لهبه منتحرة في صورة عاشق/ة ( أطيرُ كفراشٍ حالمْ…)
وهذا ماترسله مفردة الفراشة إلى وعي القاريء وهو يتأمل
مخرجات الخوف كما لوأنه يتناسل من نفسه على طريقة سوفوكليس قصة قصة ورواية رواية وهي المناسبة التي
تلقن بفعالها مغزى الحرية وقيمتها ودورها بل وكأن الحرية صارت حقاً وهي هنا الثيمة الأهم ((فأنا الآنَ حرٌّ))
لنص مترع بالصور والدلالة (( قلبي مثخنٌ بالجراحِ
خوفاً)) إنه الخوف من الإنزلاق مجدداً في بؤرة النار التي أثخنته بالجراح ولسعته بالوهم حتى بات منطفئ الحواس فلم يبقى له إلا حس متوجس متبقي يخبئه ((خوفاً
يحتمي بشغافهِ الحنونْ))
مفردة حنون تعطي أبعاد الذات المتوجسة فلو قال قلبي الجبار أو القوي لما تواكب المعنى مع الاشتعال ومع النار
والخوف فلقد عرف كيف يوظف الخاتمة فكل ماكان يخشاه لأنه يمتلك قلب حنون ..
مبدع قدم نص عميق بمتسع يضيق أي كان هناك اقتصاد لغوي بتصويرية
مقطعية تتلازم مع ماقبل ومابعد الجملة لم يعتمد التضادات
أو التناقضات لكنه طغى بالصورة كلياً للتعبيرية عن الرؤيا العامة برحلة نفسية تجّب عوالمها في ذاتويتها
قبل أن تؤثث للبرّاني بإلتقاطات وتحولات تفسيرية للحالة المشهدية
الناص حفر على الممكن الأنوي ليصور للمحيط الإستقاء المنتمي لشعوره ببحث في الذات والذات الأخرى التي
كانت المحرض الأساسي بالنص (النار) بتقاطع بين الدال والمدلول
لتعطي نبوءة الإستقرار والسكينة (( فأنا الآنَ حرٌّ)) و((يكفيني وهيجُ الذكرياتِ))
كان الناص يؤكد الفكرة بالتصوير الذاتي لإستحصال النتيجة فلقد برع بذلك بلا تأويلات مرهقة للنص بل كان هذيان راقي له كل الرغبة
يصعد لنبوءة المعنى وفلسفة العصفور حين يستنكه المواسم عن بعد والناص إستنكهها عن قرب وابتغاء بقناعة
نص له يراع يحرثنا للإعجاب ويمتحننا بالدهشة