إذا كان النص في إطاره الشكلي والمعماري يمثل وحدة متكاملة، فإن تلك الوحدة في إطارها البنيوي تعتمد أو تتشكل من مجموعة وحدات أو بنى، تساهم جميعها في تكوين الخطاب الدلالي للنص، وإذا كان المستوى الدلالي للنص يعتمد في الغالب على تواشج معطيات داخلية وخارجية، فإنّ السعة الدلالية لتلك المعطيات تستند على القيمة الإثرائية للنص ذاته. ولذا فإنّ المستويات البنائية رغم استقلاليتها الظاهرية الا انها لا يمكن ان تعكس الصورة الحقيقية للنص الا بعد أن تتجلى معطيات كل مستوى بنائي فيه؛ لتسهم في تكوين الصورة المقترحة له وفق منظور المتلقي.
ووفقا لذلك سنحاول أن نرسم اقتراحا قرائيا لنص مدونة الموت لعارف الساعدي، والذي يتناول فيه موضوعة (الموت) ليس بمفهومها الفلسفي فحسب، وانما بمفاهيمها المتنوعة أيضا اجتماعيا ودينيا وسياسيا، بل و بأشكالها المختلفة أيضا الحقيقية والمؤولة، والطبيعية والمصنعة، وبالنظر في المستوى الصوتي للنص نجد أن الشاعر قد اختار لقصيدته بحر الطويل وهو من البحور التامة التي تستوعب أغراضا متنوعة، كما أنه يعد من اكثر البحور استخداما في الشعر العربي، وأرى أن بحر الطويل يمتاز بهدوء إيقاعه الذي يتناسب مع جدية الصور والأفكار التي يمكن أن تطرح عبره.
ومن هنا فان قصيدة عارف الساعدي وبما تحمله من أفكار، قد جاءت متلبسة لهذا البحر، سواء كان ذلك التلبس إراديا أم لا إراديا مع ترجيحي للثاني؛ ذلك أن الساعدي من الشعراء المطبوعين، وهذا ما يظهر بوضوح في قصائده التي ضمتها دواوينه التي جمعها في الأعمال الكاملة الصادرة عن دار سطور عام 2018 ،ومنها قصيدته التي جاءت ضمن مجموعة (مدونات).
لقد اختار الشاعر لقصيدته قافية المتدارك المطلقة المجردة من الردف والتأسيس واختار رويين: الاول هو التاء المضمومة والثاني هو الراء المضمومة أيضا، والتاء صوت ساكن انفجاري والراء صوت تكراري، وكلا الحرفين مجهورين، والضمة حرف لين صائت خفيض، والتاء المضمومة تكون مصحوبة بضجة ذات فرقعة اذا وقعت في آخر الكلمة؛ كما أن الضمة تتحول الى الواو عند وقوعها في الروي؛ لاحتياجها الى الإشباع، وهذا الأمر يسهم في توسيع مساحتها الفونيمية.
و الميزة الصوتية هذه ومن خلال تناسقها الهرموني مع القوة الايقاعية لبحر الطويل ستسهم في تعزيز الأثر الايقاعي وتعميق وقعه لدى المتلقي على الصعيد السمعي في ركنيه الداخلي ( التلقي القرائي) والخارجي( الشفاهي).
أما على المستوى التركيبي فيمكن أن نُقَسِّم القصيدة الى مقطعين الأول: هو المقطع (التائي)، والثاني: هو المقطع (الرائي)، واذا ما نظرنا في تركيبة المقطعين فسنجد أن الشاعر قد اعتمد في المقطع الاول خاصية التكرار، وخاصة للفظة(الموت) سواء بلفظها الصريح أم بما يدل عليه، وقد بلغ عدد تكراراتها تسع مرات؛ ويبدو ان الغرض من ذلك هو تعزيز وترسيخ فكرتها وموضوعها الرئيسي، كما كرر لفظة كثيرون ثلاث مرات في البتين الأولين، كذلك تكرار اسم الاشارة (هنا) في ما بعد، كما نلحظ في القصيدة كثرة استخدام أساليب الاستفهام والنداء والتقديم والتأخير والغاية من ذلك كما يبدو هو؛ لتأكيد وتعزيز أهمية التساؤل الفلسفي لماهية الموضوع وغايته وطبيعة مفارقاته.
ونلحظ ايضا في عملية انتقال الشاعر من روي التاء الى روي الراء الذي برره بقوله:
كما ضقت بالتاء التي في قصيدتي …. وها أنا نحو الراء أمشي وأعثر
ان ذلك الانتقال لم يكن محصورا بتغيير الايقاع الصوتي للروي، وانما هو ايضا تغيير في صورة وايقاع الانفعال النفسي، اذا نرى أن الشاعر قد عمد الى استخدم تقنية (الفلاش باك)؛ لاستعادة صور الطفولة واجوائها المتشحة بالبراءة والجمال والمرح، مع المحافظة على المسار التساؤلي ذاته، والذي بقي مهيمنا على الجو العام لكامل النص.
ومن خلال النظر في البناء التركيبي للنص نلحظ ان للأفعال بمختلف أزمنتها حضورا طاغيا، وهو ما يمكن ان نتبين من خلاله هيمنة الاضطراب والحركية المفرطة على اللاشعور، وهذا ربما كان ناتجا عن غائية التساؤل أولا، وعن الاحساس المترسخ في النفس بهيبة وعلوية حضور المسؤول(الربّ) لدى الشاعر ثانيا.
وربما أيضا يعود الى المترسخ اليقيني في نفس الشاعر والذي يجعل من تساؤل كهذا والمتعلق بغائية موضوعة قدرية، يبدو منطويا على شيء من الديماغوجية و العبثية؛ وهو ما ساهم في ظهوره الانعكاسي على النفس والمستدل عليه من خلال هذه الحركية المفرطة والمضطربة.
كما يمكن ان نلحظ إن الشاعر قد استخدم في خطابه النداء المجرد من التعريف بالإضافة أو أل التعريف(تنكير المنادى) في قوله:( يا رب)، مع تأكيدنا على أن خصوصية (المقصود) تنطوي على معرفية يقينية لدى المنشئ والمتلقي رغم تجريده، وأرى أن في ذلك مقصدا(إراديا أو لا إراديا)؛ لتوسيع دائرة المنادى وتعميما لنقطة انطلاق النداء. بمعنى ان النداء المنطوي على التساؤل غير محصور بفردانية الشاعر وانما يمتد الى جمعية المتلقين. وكما اشرنا سابقا ان التساؤل هو معرفي وليس احتجاجي او استنكاري وهو ايضا متضمنا ليقينية النتيجة او الجواب، وهو اشبه بتساؤل النبي ابراهيم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة : 260] مع الاشارة الى أن خطاب ابراهيم (ع) كان منحصرا به بدلالة نسبة المنادى الى المنادي(ربِّ) ومع التأكيد على أن التشبيه هنا تشبيها مجازيا وليس حقيقيا.
ومما سبق ومما لم نتوسع بالإشارة اليه في نص الشاعر عارف الساعدي هذا نجد أنه قد انطوى على كم كبير من الجماليات الاسلوبية والفنية إضافة الى القيمة المهمة في الجانبين الفكري والفلسفي.
قراءة اسلوبيَّة ودلاليَّة في قصيدة مدونة الموت لعارف الساعدي
اترك تعليقا