قراءةُ في رِّوَايَةِ (شبكة شارلوت) للكاتب الأميركي أي. بي. وايت…
تَرجَمة المُتَرْجِم عبد الصاحب محمد البطيحي
لطيف عبد سالم
تُعَدُّ التَرْجَمةَ من بين الفنون الأدبيَّة المهمة التي ساهمت في ترسيخِ سُبل التواصل الحضاريّ ما بين الأمم والشُعوب. وفي الإطارِ ذاته، يؤكد العديد من الباحثين أنَّ التَرجَمةَ الخاصة بالرِّوَايَةِ والشِّعر تتجاوز في أهميتها عامل المهارة الذي توصف بها عادة الأعمال غير الأدبيَّة، إذ يشكل هذا النشاط في نظرهم عملاً يناظر في فعاليته وإيجابيه تأثيره الأعمال الفنيَّة.
أسوقُ هذه المُقدّمةِ القصيرة جدًّا، وأنا أنهي قراءتي للنسخةِ المُتَرْجَمة من رِّوَايَةِ الكاتب الأميركي (أي. بي. وايت) الموسومة (شبكة شارلوت)؛ لأجل التعبير عن دهشتي برصانةِ أسلوب التَرْجَمة الذي اختطه المُتَرْجِم والقاص الأديب العراقي عبد الصاحب محمد البطيحي في ترجمته الرِّوَايَة المذكورة، والصادرة حديثًا في بغداد بواقع (194) صفحة عن مؤسسة ثائر العصامي، مطبعة جعفر العصامي للطبع والتجليد الفني، إذ يمكن القول إنَّ البطيحيَ جهد في توظيف معرفته ومهاراته بمجالي التَرجَمةَ والسَّرْد خاصة، والأدب عامة، حيث اِرْتَقَى في طريقةِ التعامل مع تراكيب الرِّوَايَة ومفرداتها بفضل خبرته في اللغةِ وثقافته الواسعة، فضلًا عن تجربته الخصبة في ميدانِ التَرجَمة، إذ تجلت مهاراته المهنيَّة في اعتماد أسلوب مميز بمهمةِ نقل أحداث الرِّوَايَة إلى اللغةِ العربيَّة، إلى جانب جهده في سباكةِ مضامينها، وما طرحه كاتبها من قضايا جوهريَّة بنصوصٍ جذابة، الأمر الذي ساهم في إثراءِ النّص المُتَرْجَم، والوصولِ به إلى المتلقي بانسيابيةٍ وأناقة ورشاقة، ما ألزم القارئ الحرص على متابعته بإمعانٍ.
لا أكتم القارئ الكريم سرًا إذا قلت: إني شخصيًا لَمْ أكن على معرفةٍ جيدة بمنجَزِ الكاتب وايت، ولَمْ يسبق أنْ قرأت شيئًا من كتبه، حتى أنَّ عناءَ البحث عنه في معطياتِ الشبكة الدوليَّة (الانترنت) لَمْ يفضِ إلى أيِّ نتيجة تذكر. ولولا اطلاعي على تَرْجَمَةِ البطيحي للرِّوَايَةِ مدار بحثنا الحالي، لما أدركت معالجة كاتبها وايت أزمة أخلاقية بتفكيرٍ إجتماعيّ رصين، وتعامله مع شؤونِ الحياة بوعيٍّ مؤثر في النفس.
لا أراني مُبالِغاً إنْ قلتُ: إنَّ الأديبَ البطيحي كان سَخِيًّا كَرِيمًا من ناحيةِ المعلومة مع القراء. ولعلَّ المُقدمة الثريّة للنسخة العربيَّة لهذه الرِّوَايَةِ بيد مُتَرْجِمها البطيحي، تؤكد إنَّه جهد كثيرًا؛ لأجلِ إضاءةِ جوانب مهمة من سيرةِ مؤلف الرِّوَايَة التي كنت شخصيًا أجهلها، حيث أشار في مفتتح ترجمته لرِّوَايَةِ شبكة شارلوت، إلى أنَّ وايت عُرفَ عنه كاتب مقالات بشكلٍ أساس، فضلًا عن كونه شاعرًا، صحفيًا، روائيًا، محررًا للكتب، كاتبًا للسيناريو والكتابة للأطفال، بالإضافة إلى تقديمه وصفًا ممتعًا ودقيقًا لبعض الجوانب المتعلقة بالرِّوَايَةِ.
أكادُ أجزم أنَّ مَنْ تسنح له فُرْصَةُ الاطلاع على رِّوَايَةِ شبكة شارلوت، يجدها من بين أشهر رِوايات الأدب العالمي، والتي لم يكن بوسعي، ولا بوسعِ الكثير غيري الاطلاع عليها، لولا مبادرة البطيحي المتمثلة في ترجمتها إلى العربيَّة، حين قدر له أنْ يعثرَ عليها من بين عشرات الرِوايات أثناء زيارته إلى الولايات المتحدة الأميركية، فكان أنْ حظيت باهتمامِه بعد أنْ وجد أنَّها من صنف الكتب التي تفرض على الباحث الانكباب عليها؛ لأنَّها بحسبه: “واحدة من الرِواياتِ الخالدة التي تقرأ في كل العصور”، فكان أنْ تفرغَ لها، ثم ما لبث أنْ طبعَها على حسابه الخاص بمؤلفٍ ورقي صدر عام 2020م في بغداد بـ (194) صفحة.
بَدَأَ الرِوائِيُّ وايت مشواره الأدبي عام 1925م كاتبًا ومحررًا في مجلة (نيويوركر)، حتى غدا أحد كتاب المقالة الأكثر تأثيرًا في أميركا المعاصرة. وفي نهايةِ أعوام العقد الرابع من القرن الماضي اِنهَمَكَ بكتابةِ رِّوَايَةَ (شبكة شارلوت) التي شكلت أحد كتبه الثلاثة المُنجزة في مجال أدب الطفل، والتي قاسمها المشترك تأصيل الحُبّ والصداقة باستخدام خيال واسع النطاق قائم على حديث الحيوانات مع بعضها، وتصرفها كالبشر. كذلك أصدر وايت مؤلفات أخرى كتبها في مجالاتٍ معرفيَّة متعددة. وبعد ثلاث سنوات من إتمامه كتابةِ شبكةَ شارلوت، أصدرها في عام 1952م بمؤلفٍ ورقي.
يمكن القول إنَّ شبكةَ شارلوت تُعَدّ من جملة الرِواياتِ الرائعة، والشيقة، بل أنَّها من بين الرِوايات الكلاسيكيَّة الخالدة بالاستناد إلى المعايير التصنيفيّة لتفوق الرِوايات. ويعود الفضل في ذلك إلى تماسك هذا العمل الرِوائِيّ وسلامة أسس بنائه التي جاءت داعمة لطبيعةِ النظرة التي يحملها كاتبها وايت عن الحياة، فضلًا عن روعة مِخْيَاله الذي أغواه لتضمينه فصول رِّوَايَته، والذي يعبر عن قدرته على إثارةِ ذهن المتلقي. واللافت للنظرِ أنَّ الرِّوَايَةَ هذه لَمْ تَعُدّ حكرًا على الصغار فحسب، بل تعدت ذلك إلى الكبار الذين استهوتهم مضامينها المتشربة بالإحسان والإيثار وغيرهما من القيم النبيلة المعبرة عن مدلولها الإنساني.
ثَمَّةَ ميزةٌ أخرى تملكها هذه الرِّوَايَة، أفضت إلى جعلِها تبقى حية ومتجددة، والمتمثلة بسلاسةِ أسلوب كاتبها – الذي لا يخلو من الإثارة – في إطارِ سياقٍ وصفيّ لأحداث الرِّوَايَة، وطريقة رسم شخصياتها، وتقديمها بشكلٍ مُتفاعل مع إطارها الزماني والمكاني. ولعلَّ المذهلُ فِي الأمرِ أَنَّ فكرةَ بناء الرِّوَايَة، ولدت من مشاهدة كاتبها لشبكة عنكبوت أثناء تجواله في مزرعته، فكان أنْ تبلورت برمزيةٍ ذات أبعادٍ دلاليَّة تصب في معاناةِ الإنسان بمواجهةِ ما يُفرض عليه من تحدياتٍ وأزمات ومُشكلات – جسيمة كانت أم مصيريَّة – لتمتد في آفاق الرِّوَايَة بحكاياتٍ رؤى، وتصل عتبة العنوان الذي جاء مثيرًا للقارئ.
تتمحور ثيمة الرِّوَايَة حول مجموعة من الرسائلِ النبيلة التي تعكس سعة ذهنيَّة كاتبها في محاولةِ تعميق شعور الآخرين بالتبصر الواعيّ والرؤية الواضحة على فهمٍ أعمق للسلوك الإنسانيّ في التعامل، والعلاقة ما بين الإنسان والبيئة المحيطة، إلى جانب الحرص على العيشِ والانصهار وسط عالم تسوده منظومة قيم إنسانيَّة بمقدورِها نبذ كل ما له صلة بسجايا القُبْح، وما آلت إليه من ممارساتٍ أفضتْ على مدى عقود إلى تشويه معنى الحُبّ على مذبح المصالح الدوليَّة، وإفراغه من أسمى معانيه، بوصفه – أي القُبْح – ضدًا للجمال ونقيضًا له. وقد كشف الكاتب وايت في رِّوَايَته شبكة شارلوت عن الجوانب الإنسانيَّة في نفسه بقوله: “كل ما آمل أن أقوله في الكتب، كل ما أطمح أن أعبر عنه، هو انني أحب هذا العالم”.
من هُنا يظهر لنا جليًا أنَّ وايت راغبٌ في تعميمِ معاييرٍ ثابتة بجميعِ الثقافات، وما تباين من المُجتمعات، والتي من شأنِها إشاعةَ الشعور بالحُبّ والجمال والسلام، بالإضافة إلى كلِّ ما يقتضي من القيمِ الجماليَّة التي بوسعِها جعل النفوس مطمئنة وقادرة على العطاء والإبداع. وهو الأمر الذي يؤكد نجاح البطيحي في اختياره لإحدى أيقونات الأدب الروائيّ العالمي؛ لما تبعثه مضامينها من رسائلِ محبةٍ في مواجهةِ الظّلم والعنف والصراع والحروب والجهل التي استولت على نفوسِ شرائحٍ كثيرة من الناس، ودنستْ الإنسانيَّة بأبشعِ صور القُبْح، فضلًا عن حثِها على ضرورةِ ارتقاء البشريَّة نحو الْفَضِيلَة؛ لأجل تخليص الإنسانيّة مما لحق بها من دنسٍ، فما حضرت الْفَضِيلَة، إلا والجمال معها. ولعلَّ القول المأثور التالي يؤكد ما ذهبنا إليه هُنا: “قد يفتقرُ الجمالَ إلى الفضيلة، أما الفضيلة فلا تفتقر إلى جمالٍ أبدًا”.
تدور أحداث رِّوَايَةِ شبكة شارلوت وسط بيئة ريفيَّة في أعوام النصف الأول من القرن الماضي. وقد اهتدى كاتبها إلى التأمل في عبثِ الحياة معتمدًا أسلوب الخيال في اختيار شخصياتها، وصياغة حبكتها الدراميَّة، فضلًا عن استناده إلى معطياتِ المُجتمع الريفيّ من قيمٍ وسجايا في مهمة بناءِ تصوّره عن الكثير من القضايا ذات الصلة بحياةِ البشر مثل فلسفة الموت، الحب، الصداقة، الجمال وغيرها. وقد جاءت رؤى الكاتب وايت من خلال فعاليات ثلاث شخصيات رئيسة هي: فتاة صغيرة (فيرن)، خنزير (ولبر) وأنثى عنكبوت (شارلوت).
الرِّوَايَةُ منذ قسمها الأول الذي حمل اسم (قبل الإفطار)، تبدو مغمسة بلحظاتٍ إنسانيَّة مؤثرة جدًا. ولعلَّ من بينها ترك الطفلة فيرن ذات الثمان سنوات المنزل، والجري مسرعة إلى الحقلِ عندما استعلمت من أمها أنَّ والدها ذهب إلى هناك لقتل خنزيرٍ ولد قزمًا، ما يعني أنَّه لا يمكن أنْ ينمو بشكلٍ طبيعي. وحين واجهت والدها، ترجته أن لا يقوم بقتله. وتتوالى المواقف الإنسانيَّة، حيث يستجيب الوالد – الذي أعتاد قتل الخنازير الضعيفة – لرجاءِ طفلته ويمنحها إياه هدية، بوصفه حيوان أليف، فتدخل البهجة نفسها وتصحبه معها إلى المنزل، وتطلق عليه اسم (ولبر)، وبعد أسابيع عدة يبيعه والدها إلى عمها، الأمر الذي فرض عليها زيارته في مزرعةِ عمها، إلا أنَّ شعوره بالوحدة هناك يأخذ منه مأخذا، ثم ما لبث أنْ تعرف على أنثى العنكبوت (شارلوت) لتبدأ صداقتهما. ومع تقادم الأيام يفاجئ ولبر باختياره وجبة رئيسة في أعياد الميلاد مثلما أخبره خروف عجوز بذلك، فيدخل الرعب نفسه، ولَمْ يجد غير صديقته شارلوت، فيهرع إليها طلبًا للمساعدة. وتستمر الأحداث في إطارٍ من التشويقِ والإثارة، مليئة بلوحاتٍ مبهرة تسلل ما بين سطور الرِّوَايَةُ، معبرة عن مواقفٍ إنسانية وإشارات برموز دلاليَّة كما في لوحة الأرجوحة وغيرها.
من المناسبِ أنْ يتعرفَ المتلقي بنظرةٍ سريعة على المنجز الأدبيّ لمُتَرْجِم الرِّوَايَةُ موضوع بحثنا، وبالعودة إلى ما تيسر لنا من سيرته الذاتيَّة نجد ما يلي: الأديب عبد الصاحب محمد البطيحي، مُتَرْجِم وقاص، عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، ولد عام ١٩٣٤م في محافظة ميسان – المشرح، حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزيَّة عام ١٩٦٧م، عمل في التدريس مدرسًا لمادة اللغة الإنجليزيَّة من عام ١٩٦٧م ولغاية عام ١٩٩٤م، حاصل على العديد من الشهادات التقديرية، وفيما يلي أبرز معطيات منجزه الأدبيّ:
- تغريدة الرطب، مجموعة قصص قصيرة، دار الزيدي، 2011.
- الماكنة تتوقف، مجموعة قصص مترجمة عن الإنجليزية، دار الزيدي، 2012.
- نساء النبع، مجموعة قصصية مترجمة عن الإنجليزية، دار الزيدي، 2014.
- حكايات الليل والنهار، مجموعة قصصية للكاتب الامريكي بن لوري مترجمة عن الإنجليزية، دار الجواهري، 2014.
- الأسفار الجليلة لفواعل فنون الحداثة، بحوث نقدية مترجمة عن الإنجليزية، دار أمل الجديدة، دمشق، 2017.
- قصص من بغداد، مجموعة قصص قصيرة لقصاصين عراقيين مترجمة إلى اللغة الإنجليزية، مؤسسة العصامي، بغداد، 2019.
- ترجمة مجموعة شعرية بعنوان نهايات للشاعر حمدان المالكي إلى اللغة الإنجليزية، مؤسسة العصامي، 2019.
- 33 ايقونة عراقية، مجموعة قصصية مشتركة لعشرة كتاب عراقيين، عمان، دار فضاءات، 2016.
- رواية شبكة شارلوت، مترجمة عن الإنجليزية، مؤسسة العصامي، 2020.
- قصص عراقية، مجموعة قصصية لكتاب عراقيين باللغتين العربية والإنجليزية، دار أمل الجديدة، دمشق، 2018.
- هزيز الفجر، مجموعة قصص قصيرة جدا مشتركة لعدد من الكتاب العراقيين، دار أمل الجديدة، دمشق، 2016.
- بوح النواعير، مجموعة قصصية مشتركة لكتاب عراقيين، دار أمل الجديدة، 2017.
- حكايات الارتقاء والسقوط، مجموعة قصصية للكاتب الامريكي بن لوري مترجمة عن اللغة الإنجليزية، تحت الطبع.
14- نصوص موضوعة، وأخرى مترجمة، فضلًا عن العديد من القراءات المنشورة في الصحف والمجلات، والتي من بينها:
- ترجمة قصة مسكن الأشباح للقاصة والروائية الإنجليزية فرجينيا وولف.
- ترجمة دراسة عن رواية ” موبي دك ” لهيرمن ميلفل.
- قراءة عن قصة ” الماكنة تتوقف ” للكاتب أي . أم . فورستر.
- قراءة عن قصة ” المنجل ” للكاتب راي برادبري.
- قراءة عن ديوان ” ومض الأجنحة ” للشاعر جاسم العلي.
- قراءة عن رواية ” ذكرأة ” للقاص والروائي علي الحديثي.
- قراءة عن رواية ” ليلة هروب الفراشات ” للكاتب عبد الكريم الساعدي.
- قراءة عن قصة ” ابنة كوجو ” للكاتب عبد الكريم الساعدي.
- قراءة عن قصة ” بندول الساعة ” للكاتب محمد علوان.
- قراءة عن قصة ” صوت من الظلام ” للكاتب عدنان القرة غولي.
- قراءة عن ” تجربة عبد الكريم الساعدي ” الأدبية.
خلاصةُ القول: حين أنهيت قراءة النسخة المُتَرْجَمة من رِّوَايَةِ شبكة شارلوت، وجدتني أمام كاتب فذ، ومُتَرْجَم حاذق. وختامًا أبارك للمُتَرْجِم والقاص الأديب العراقي عبد الصاحب محمد البطيحي جهده الكبير الذي بذله في هذا المنجزِ الأدبيّ المثير مع تمنياتي بتواصل العطاء الإنسانيّ.
***
- رِّوَايَةِ شبكة شارلوت.
- الكاتب: أي. بي. وايت، أمريكي الجنسية.
- تَرجَمة المُتَرْجِم العراقي الأديب عبد الصاحب محمد البطيحي.
- النسخة المُتَرْجَمة: (194) صفحة.
- مؤسسة ثائر العصامي، مطبعة جعفر العصامي للطبع والتجليد الفني، بغداد، 2020.