فاطمة المحسن
فراديس الكتابة قد تُكتشف من غبطة الاحتفاء باللغة، وليس كل ناثر بمقدوره الاسترسال على هواه دون أن يكلّف القاريء عناء الضجر. لعل فاروق يوسف بين قلة من العراقيين يملك هذه الموهبة، فقاموسه ثر ومواضيعه يختلقها من العدم. بمقدوره توريط قارئه في مهرجانات القول، حيث يقوده إلى لعبة اكتشاف تلك المناطق المجهولة التي يحدد تضاريسها جوّاب آفاق ومدن وأفكار ولوحات.
في كتابه الأخير “فردوس نائم” دار جداول، بيروت، يضع عنوانا ثانويا ” سيرة” ثم يردفه في فهرست المحتويات ” وصف بغداد” ، وبغداد الموصوفة تعبر المدن والشخصيات والأعمال الفنية وكتب الأخرين والنساء المتخيلات في حلم شاعر أو ناثر، ولكنها تتقدم على نفسها من حيث هي سبب من بين أسباب كثيرة للتصالح مع العالم أو مناكدته.
تاريخ ضياع بغداد في كتابات فاروق يوسف، ينبثق لحظة رحيله عنها، وقبلها لم تكن بغداد محض مدينة مرت بكل ما مرت به من عذابات. فعذابها يبدأ حين احتلها الأميركان، الأعداء القادمون على أجنحة مثقفي الغزاة. لا بأس أن ننتهي ونحن في طريقنا إلى مدننا الفاضلة من فض الاشتباك مع الماضي، ماضي هذه المدينة التي لم تشهد لحظة رحيل تشبه رحيل عاشقها، فالحالم دائما يخال الذين سبقوه إلى المنفى، كانوا في نزهة التنكيل بمدينته. وهو على حق في كل ما يقول، لأن الكتابة في النهاية، شراكة حتى ولو كانت على حد السكين كما يقال، فهي تعريف بالتواريخ حتى تلك التي تتوارى خلف الحق والباطل. غير ان ميزة الجمال تكمن في الترّفع عن الضغينة، فالخيانة، وهي مفردة يطيب لفاروق ترديدها، غدت مملة في النص السياسي العربي لفرط ما استدعت من التصفيق والهتاف.
بيد ان لفاروق يوسف في كتابه هذا، أسبابا كثيرة جديرة بأن نعيش معه متعة التناسي أو التذكّر، ولعل أسلوبه الطليق الذي يتنفس هواء حريته، جدير بأن نجد فيه خلاصة لكل كتابات المنفى، وهذه الأخيرة كلمة جد حساسة حتى نخال أي خدش في تصويتها، قد يحولها إلى فارزة نافلة في سجلات الكلام. كتاب المنفى هنا هو عبارة عن فيض نفسي يجري التعامل مع ترميزاته البصرية على انها الوعي بالطبيعة والكائنات وتحديد المواقيت وتخييلها. إنه على نحو ما، فكرة الارتحال ذاتها. شتات يجمع ما لا يجتمع من الذاكرات في فقه الكلام العابر للنوع الأدبي، ولن يكون للشعر من متسع يسمي به نفسه، رغم أن المؤلف شاعر في الأصل، ولكنه أيضا متمعن في التشكيل، كي لا أقول ناقدا، فالكلمة ثقيلة، ثقل الكلمات المستهلكة.
فاروق يوسف في كتابه هذا، يؤكد فكرة ربما تعود إلى ديكارت، حيث بمقدور الذات التفكير بنفسها وبالعالم على انها ذات جمالية، وجمالاتها ثقافية على وجه التحديد. مرويات هذا النوع من الكتابة تنفتح على فضاءات متبدلة يجري فيها محاورة النصوص والتجارب والأعمال الفنية ونثار الأماكن والأزمنة، كي يكتسب النبر مواقع متغيرة. فالنص يبدو في النهاية كما لو انه ينتمي إلى مقامة حداثية تفتح سجلات الكلام على ما لاحد له من الأفكار والانطباعات والتأملات، كي تتوحد صورة المؤلف مع صورة مايتخيله عن العالم ونفسه
يضع نص بغداد صحبة ثلاثة ميتين على حد تعبيره : بدر شاكر السياب وجواد سليم وناظم الغزالي. هل بمقدور هؤلاء أن يهدونا إلى مفاتيح كل المناطق التي يدخلها المرتحل عن مدينته؟ انه يبتكر لنا طرق الوصول إلى مبتغاه، مع أن خط سيره يمر بمنعرجات كثيرة ويعبر جسورا تتخطى هؤلاء، غير أن الكاتب وهو يحدد هدفه، يبدو وكأنه يسعى الى تعريف نفسه من خلالهم، توتر بين تأريخانية الحنين إلى الرموز، وفانتازيا تخطيها. لعله أراد صوغ شيفرات شديدة الوضح لقاريء عربي، حيث الانتباه إلى من هو جدير بالتذكّر، ومن هو مستبعد ومهّمش لمقاصد أخرى.
بيد ان بمقدورنا ترتيب مادة الكتاب وفق عناوين محتوياته، وهي تبدو في كل أحوالها محطات لالتقاط الأنفاس، ففاروق يوسف يكتب وهو يلهث مستعجلا أفكاره التي تبدو وكأنها تسبق تدوين لحظتها، ولكن دقة تلك الأفكار ومتانة لغته تصرفنا عن النافل فيها. يكتب في مفتتح كتابه: ” الكلمات لا تسمى، ولكنها تقول من المعاني ما لا يمكن العثور عليه في معجم” سنجد هنا مدخلا لوصف بغداد ” ابنة اللقاء بين عدم تخونه اللغة ووجود تزيّفه اللغة، فقد شاءت ان تُعبّر عن وجودها بكلمات هي أشبه بالأثر الذي تتركه الإزاحة اللغوية. كلمات لم يقلها أحد من قبل ولا يمكن أن يقولها أحد يفكر بهناءة أيامه”
هكذا بمقدورنا الاهتداء إلى متاهاته؟ سيقدم أحد مقترحاته ” كلما مشيت في أزقتها الضيقة، يخيّل إليّ أنني أنهي قراءة حكاية من حكايات الليالي” بورخيس الحاضر هنا، يسلّم الكاتب إلى كتاب ولع به المثقفون العراقيون في زمن منصرم عن الطبيعة وفصولها. كان هو الكتاب الوحيد الذي وضعه المؤلف في حقيبة سفره وهو يغادر بغداد ” قوت الأرض” لأندريا جيد” “حَملته كرقية” هكذا يقول. وكان عليه أن يساعد صاحبه كي يبتكر أنشودته عن الطبيعة في كمال صورها “يوميات في الشمال الأوربي” مستبعدا وحشة الثلج ووعر الطريق في بلد بعيد مثل السويد. هنا تكمن الأرواح في تبدّل مواقعها، كي يقول الغريب لنفسه ” لقد نجوت” غير أن سؤالا من نوع من “أين أتيت” هو بمثابة المسمار الذي يثقب قارب النجاة.يكتب فاروق يوسف عن هزيمة اللغة ” المنفى اللغوي في حد ذاته مكان لا يتمكن المرء من الخروج منه سالما ومعافى” ، فاللغة ليست وسيلة للتفاهم فقط، بل ” بصفتها معياراً ثقافياً”. انه يسلّمنا الى طريق هو المتاهة التي يبحث عن مفارقاتها بين المدن، وستكون فكرة التيه ناظم الكتاب أو دليله إلى تعريف المنفى، حيث المرأة وطن يواجه الغريب فيه نفسه،فهي ” المكان الوحيد الذي نذهب اليه من أجل أن لا نكذب. في حالتها يكون الموت نوعا من الرياء” ثمة اعتقاد هنا بما للجمال من صلة بالحقيقية، ولن تكون سوى المرأة ـ الأم، منبع تلك الشهوات التي تصلنا بالبراءة الأولى ” ليست الأمومة فكرة، إنها واقعة، غير أنها الواقعة الوحيدة التي لا تحل محلها ولا تمحوها أية واقعة أخرى تشهدها مسيرة المرء في حياته”. يحدد الكاتب لبغداد وللمنفى دائرة تبدأ من اللاشيء، ومن فكرة المواطنة التي يرى انه افتقدها عندما كان في بلده، رغم ان هذا النقصان يأتي عرضا، ليعبره الكاتب مهرولاً إلى فكرة الفردوس المفتقد، وصولاً إلى الوطن البديل. وهل هناك من وطن بديل؟ لعل هذا التيه الذي يقصده الغريب، تسليم بالمكوث في وطن الكتابة.
* كاتبة وناقذة عراقية مقيمة في بيروت