كان بكاءُ ردينة، ذات البضعة أشهر، وهي الطفلة الخامسة لعائلة فقيرة تسكن في مبنى متهالك جوارَ منزلي، والذي سرعان ما كان يتحوّل إلى نحيب، وتنهيد، يثير فضولي لمعرفة دوافعه.
في كل مرّة كنتُ أخرج إلى شرفتي لرؤيتها واستكشاف أسباب بكائها، كنتُ أراها تارةً جالسةً أرضًا، بمفردها، تبكي بمرارة، لسبب يتعذّر تحديده أو تفسيره، وتارةً أخرى، تحاول عبثًا الوقوف فتفقد توازنها، وتسقط أرضًا على قفاها، فتنفجر بالبكاء، وفي الحالتين، ليس من ينجدها، أو يعينها، أو يلبّي نداء استغاثتها. كانت أخواتها الأكبر سنًّا يلعبنَ على أطراف الباحة حيث هي، وأمّها في الداخل، منهمكة، على الأرجح، في تدبير شؤون الأسرة، يلازمها ابنها الوحيد الأكبر سنًّا.
لم أرَها يومًا بين ذراعَي والدتها، أو بين ذراعَي والدها الذي كان يؤوب في ساعة متأخّرة إلى المنزل، إلا عندما كانت العائلة تخرج برمّتها إلى لا أدري أين، وكان لا بد لأحد الوالدين من حمل الطفلة المذكورة التي لم تكن تقوى على المشي بعد.
عرفتُ لاحقاً من والد الفتاة، الذي استدعيته لإصلاح أعطال في المنزل، كونه عامل صيانة، أنّ بناته الأربعَ جئن بدلاً من ضائع لأنّه لا يحبّ البنات، ولم يُرزق سوى بولد ذكر واحد، «ما بحبّ الشوش»، والشوش، في اللغة المشرقية، تعني الإناث، فما بالك إذا كانت الطفلة، موضوعُ متابعتي، هي الخامسة في الترتيب العائلي!
أعادت هذه الواقعة إلى ذاكرتي مقطعًا من قصة نوال السعداوي «عين الحياة»، وهي القصة الثانية من كتاب «الخيط وعين الحياة» الصادر عام 1972، وفيها تروي السعداوي سيرة الفتاة «عين»، المولودة وسط عائلة فقيرة، معدمة، وتتعرّض فوق ذلك للاضطهاد والنكران من قبل أمّها.
تسردُ القصة، في المقطع الوارد أدناه، القبلةَ الخاطفة التي وهبتها الأم لابنتها سهوًا:
«ولأول مرّة تتلقّى عين من أمّها قبلةً، إذا كان من الممكن أن تسمى قبلةً، وإنّما لمسة سريعة ما إن تحدث حتى تنتهي، بل لعلّها لم تكن أيضًا لمسةً لأنّه كانت تظل هناك دائمًا مسافة بين شفتَي أمّها وخدّها، مسافة صغيرة وربما صغير جدًّا كشعرة رفيعة لكنّها كانت تكفي دائمًا لعدم حدوث التلامس» (ص. 72).
إنّ هذا المقطع الأدبي، الذي يؤشّر، مثله مثل سائر المقاطع المماثلة والحادة، التي تحفل بها القصة المارّ ذكرها، إلى فظاعة القطيعة العاطفية بين الأم وابنتها، يصلحُ لأن يكون مادةً سينمائية لفيلم يعالج ظاهرة كراهية النساء، وعدم تقبُّل ولادتهن ووجودهن على القشرة الأرضية، وعضويتهن في الأسرة، منذ إبصارهن النور.
وتحت تأثير مشاهداتي الخاطفة لردينة وبعض مقاطع قصة «عين» لنوال السعداوي، ومتابعاتي السريعة لأحوال الفتيات الصغيرات في الأسر الفقيرة والكثيرة العدد، كما تحت تأثير قراءاتي في هذا المضمار وأبرزها دراسة «أورزولا شوي» عن أصل الفروق بين الجنسين، التي تبرز فيها الأوليات التربوية التي يتمّ بها إنتاج الخصائص «الأنثوية» و«الذكرية» وإعادة إنتاجها، منطلقةً من التمييز القائم بين الجنسين، منذ أيام الولادة الأولى، مرورًا بالأسابيع والأشهر والسنوات اللاحقة، وصولاً إلى سن الروضات، رحتُ أتخيّل ما يلي:
خلتُ الفتاة غير المرغوب في ولادتها ووجودها في كنف الأسرة، لا تُلمس إلا بحساب، لا تُحمل وتُهدهَد إلا بحساب، ولا تجري مناغاتها ومحادثتها وملاعبتها إلا بحساب.
وخلتُها أيضًا لحظاتِ نعاسها لا تغفو بفعل أغنيّة شعبية تُرنّمها لها الأم بصوت يطفح حبًّا ونغمًا، بل تعبًا. كما خلتُها لا تُقبَّل، كي تطمئنّ وتشعر بالاهتمام والأمان، إلا في لحظة تخلٍّ نادرة عن الكراهية. وفي بعض الأوقات خلتُها تلتهم وجباتها بسرعة برقية، كي لا تستثير غضب الأم وتستنزف وقتَها، وخلتها لا تتجرأ على طلب قضاء حاجتها.
سوف تتمرّس طفلتي بكتمان غضبها، وأوجاعها، ورغباتها، وحاجاتها، وسوف تتدرب على السكوت والكتمان والصدّ، وعلى عدم الاستجابة لما تحتاج وترغب.
على هذا النحو الذي كثفته ومثلنته، تنمو وتُعاقَب الفتاة غير المرغوب فيها، من غير ذنب ارتكبته، والتي تُدفع عنوةً وغيلةً، أثمان احتلالها لمكان وزمان مخصَّصَين لذكر مجهول، موعود، فتعيش كالموؤودة، محرومةً من الاهتمام والرعاية، والاعتراف والحب.
تتخطّى هذه المشلكة مسألة التضامن الوجداني والإنساني والحقوقي، كونها تنالُ من الكرامة الإنسانية ذاتها، لتبرزَ كقضية اجتماعية تجعل من هذه الفتاة كائنًا اجتماعيًّا مجروحًا ومعطوبًا، وقاصرًا عن مواجهة استحقاقات الحياة وامتحاناتها اليومية، وعن التحوّل إلى كائن اجتماعي فاعل وفعّال.
ما نقوله ليس كلامًا مرسلاً، إنشائيًّا، بل تؤكّده نظريات علم نفس النمو، التي تُظهر أهمية إيلاء الطفل الصغير، ومنذ ما قبل ولادته، الرعاية والاهتمام والحب والاعتراف، التي تتشكّل كشروط لازمة لازبة لنمو شخصيته نموًّا سويًّا، وعدم إعاقة تطوّرها، وعلى كل المستويات.
وكنتُ كلّما توغّلتُ في قراءاتي في علم نفس النمو، تأكّدتُ من فرضياتي حول أسباب تعاسة الفتيات الصغيرات اللواتي كنتُ أصادفهن في يومياتي ومجرى حياتي، وكن شاردات الذهن، تائهات النظرة، فاترات الملامح، خفيضات الصوت، قليلات الكلام، عاجزات عن الابتسام، وأشكّ في أنهن غير مرغوبات، ولم يتلقّين العناية الأسرية الوالدية الكافية، ولا الحب الضروري للتفتّح والتوازن، والصراع من أجل الحياة وتحقيق الذات.
- فماذا يقول علم النفس؟
إنّ البرنامج النفسي العقلي الجندري المُعدّ والمرسوم للمرأة، يمسي خطيرًا إذا ترافق مع كراهيتها وعدم الرغبة في وجودها، والذي يُترجم حرمانًا من الحب والحنان والاعتراف، ما من شأنه أن يؤدي إلى تأخير نمو الأنثى النفسي والعقلي، والتأسيس لتكوين إنسان غير سويّ، ولا مكتمل المؤهلات.
إنّ إشباع حاجة الطفل إلى الحب والحنان وإشعاره أنّه مقبول، ومرحَّب به، يُعدّ شرطًا ضروريًّا لنموّه السويّ، فالطفل خُلق كي يكون محبوبًا ومحبًّا، وهو يريد أن يشعر أنّه مرغوب فيه وأنّ أسرته ترغب في وجوده، فهو يحتاج إلى الحضن الاجتماعي الذي يُشعره بدفء العاطفة، وعلى العكس من ذلك إنّ عدم تقبُّله واحتضانه، يُفقده الطاقة اللازمة للنمو والتفتُّح والثقة بالنفس.
وتظلّ هذه الأفكار في خانة الظنون والافتراضات، إذا لم ندرك أنّ العلم توصّل إلى أنّ المخّ يصل إلى أعلى مستوى من النمو والتطوّر بنمو هذه المشاعر، النابعة من كثرة الاتصالات مع الآخرين، والأطفال عمومًا لديهم إحساس عاطفي عميق وقوي، ومن الضروري أن تستغلّ الأم هذه الميزة في خلق حالة من التواصل البنّاء، ومنها تدليل الطفل وعدم تركه بلا اهتمام، والتبسّم الدائم في وجهه، وحمله ولمسه، والغناء له، فكلّها عواطف مهمّة، لنمو مخّ الطفل بصورة جيدة.
إذ يُعدّ الحرمان، من أسوء الأمور التي يمكن أن يتعرّض لها الطفل، وربما تترك آثارًا تلازمه بقيةَ حياته، على المستويين النفسي والجسدي.
وثمة إجماع أكاديمي عالمي، على أنّ السنوات الأولى من العمر، وخصوصًا من فترة الحمل وحتى سن الثالثة، يحتاج فيها الأطفال إلى التغذية والوقاية والتحفيز من أجل نمو دماغي سليم، وقد أظهرت التطورات الحديثة في علوم الجهاز العصبي أدلّةً جديدة حول نمو دماغ الأطفال الرضع خلال تلك الفترة، وبالتالي نعلم أنّه في السنوات الأولى من حياة الأطفال، تُشكّل أدمغتهم روابط جديدة بمعدل مذهل يبلغ، وفقًا لمركز نمو الطفل التابع لجامعة «هارفرد»، أكثرَ من مليون رابطة في الثانية، وهي سرعة لن تتكرر لاحقًا أبدًا.
وفي خلال بناء الدماغ، تتشكل الوصلات العصبية بفعل الجينيات والخبرات المعيشية، وهي تحديدًا حسن التغذية والوقاية والتحفيز، من خلال الكلام واللعب والاهتمام المتجاوب من طرف من يعتنون بالطفل. إنّ هذه التوليفة من الطبيعة والتغذية تضع حجرَ الأساس لمستقبل الطفل.
بيد أنّ كثيرًا من الأطفال ما تزال تفوتهم توليفة «التغذية واللعب والحب» التي تحتاج إليها أدمغتهم لكي تنمو. فنحن ببساطة لا نعتني بأدمغة أطفالنا مثلما نعتني بأجسامهم، اللهم إذا تمّ الاعتناء بهذه الأجساد كما يجب.
وقد يتسبّب إهمال الطفل وسوء معاملته بتحفيز منظومات استجابية بيولوجية، تتسبّب مع اقترانها بغياب شخص بالغ يحمي الطفل، بحدوث ما يسمى «إجهاد سمّي» الذي يتسبّب بدوره بمشاكل بدنية وذهنية وسلوكية.
ويترتّب على الإغفال والتراخي ثمن باهظ ومضاعفات طويلة الأمد على الصحة والسعادة والقدرة على كسب العيش، مع دخول أولئك الأطفال في سنّ البلوغ، ويسهم هذان العاملان في تعزيز حلقات الفقر وعدم المساواة والإقصاء الاجتماعي.
سوف يتردّد أمام هذه المعلومات – الاستدلالات، أنّ المشكلة المطروحة تطال الجنسين، وأنّ العائلات المنخفضة الوعي والمعرفة، المهمّشة، أو المسحوقة، قد تسيء إلى أطفالها من الجنسين. هذا الافتراض صحيح نسبيًّا لأنّ للتموضع الطبقي، الاقتصادي والاجتماعي، والثقافي، دورًا في تحديد الكيفية التي يتعامل بها الوالدين مع أطفالهما.
غير أنّ هذا التمييز يُخفي في ثناياه وطياته تمييزًا مضاعفًا، كاشفًا عن متغيّرات، إذ إنّ البنت الصغيرة غير المرغوب فيها في البيئات المحرومة اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، مضطهَدة مرّتين، أو مرّات عدّة، بحيث لا يتاح لها لا الحب ولا الاعتراف، ولا التحفيز، ولا اللعب أو الملاعبة، وهي العوامل الضرورية لضمان نمو الطفل نموًّا سليمًا، فضلاً عن حرمانها من العناية الجسدية اللائقة، الأمر الذي يساويها بأخيها، أو إخوتها.
إذا كان الإنسان يعي هويته، فجزء من هذا الوعي يعود إلى الآخرين والجماعة التي ينتمي إليها. فالذات، هي بناء اجتماعي وثقافي، يولد من التفاعلات اليومية، وصورة الذات والشعور بالهوية ليست أشياء غريزية أي، لا تُخلق مع الإنسان، ولكنّها تتكوّن شيئًا فشيئًا في خلال السنوات الأولى من الحياة، تتأثّر «ذات» الطفل بالمشاعر الغريزية (الشعور بالجوع والعطش) والعاطفية التي تحيط بها، وتبنى على أساسها مشاعر اللذة أو الحرمان التي ترافق الطفل.
- دور الأم:
إنّ نرجسية الذات ترتبط بنوعية العناية التي تُقدّمها الأم لطفلها، فإذا قدّمت له حاجتَه من الاهتمام والرعاية يشعر الطفل بالارتياح والانسجام بين الجسم والنفس Le psychisme، وهذا يساعده على توازن شخصيته، أمّا إذا افتقد الطفل حنان أمّه ورعايتها، فذلك يؤدي إلى اضطراب في نفسيته وإلى شعوره بالفراغ والإحساس الدائم بعدم الاكتفاء، نتيجة ضعف نرجسيته وعدم توازن شخصيته.
عنصرٌ آخر يلعب دورًا مهمًّا في توازن شخصية الطفل، هو نظرات الأهل Les regards. إنّ مرآة الطفل الأولى هي الأم، فعندما ينظر الطفل إلى وجه أمّه يرى نفسه، فتعابير وجهها وهو ينظر إليها تؤثّر في نفسيته لأنّها تُعبّر عمّا تراه، فإذا عبّر وجهها عن الحب والحنان، فإنّ صورة الذات لدى الطفل ستكون إيجابية، أمّا إذا عبّر وجهها عن التبرُّم والضيق، فستكون صورة الذات لديه سلبية.
معنى ذلك أنّ تكوُّنَ شخصية الإنسان، يرتبط بشكل أساسي بموقف عائلته ومحيطه منه، وكيفية تعاملهم معه منذ الطفولة. هذه الإشكالية العلائقية مع الأم يمكن للذكور تجاوزها فيما بعد من خلال علاقاتهم الاجتماعية، أمّا الفتيات، وبسبب هويتهن الجنسية، فقد يبقين أسيرات أمهاتهن بسبب علاقتهن المرضية Pathologique معهن.
أ- الأم العنصرية:
عندما نتطرّق إلى مشكلة سوء معاملة البنت الصغيرة، نحن نضع، شئنا أم لم نشأ، الأم، وهي الشخص الأكثر التصاقًا بالبنت المستهدَفة، في قفص الاتهام، ووضع الأم والأمومة في موضع الاتهام لم يعد فعلاً محظورًا في دوائر البحث والتفكير الحرَّين، فبات يتمّ التمييز بين «الأمومة الغرائزية، البيولوجية»، و«الأمومة الاجتماعية».
لم تعد «ميديا»، الأم الإغريقية، بطلة مسرحية «يوربيديس» التي قتلت أولادها الثلاث انتقامًا من زوجها الخائن «ياسون»، محضَ افتراض، وغير قابلة للتحقُّق على أرض الواقع، وكرّست اللغة العلمية والإعلامية، سواء بسواء، مفردات غير معهودة، من مثل الأم الخاصيّة، والسامة، والعنيفة، والمهملة، واللامبالية، واللامسؤولة.
ونحن لا نُميّز، حقوقيًّا وأخلاقيًّا ونفسيًّا، بين ضحايا كراهية الأم، ولكنّنا نُميّز بين أسباب الاضطهاد، والتي تجعل من الأم الذكورية ذاتها، متلوّنة، متبدّلة، تُكيّف أمومتها مع موضوعها، بحيث تصبح هذه الأخيرة غبّ الطلب، تتفتّح حين يكون الولد ذكرًا، وتنحسر وتتآكل حين يكون الولد أنثى، منسجمةً في الحالتين مع القيم العامة السائدة، ومع خبرات الأم نفسها وصورتها عن ذاتها.
هي الأم العنصرية التي تُمثّل نمطًا متطرفًا من الأم الجندرية التي تؤهّل ابنتها بإتقان للأدوار التقليدية، كابحةً نزعاتها وميولها وطاقاتها وملكاتها وقراراتها، ولكنّها تتمايز عن الأم الجندرية القياسية، بأنّها تضطهد ابنتها وتنفر منها وتمقتها، ولا تطيق وجودها.
وإنّنا نحصر اهتمامنا بهذا النوع من الاضطهاد، لأنّه يصدر عن نوع محدّد من الأمهات المؤذيات الفاشلات، وهن الذكوريات الانتقائيات، لا اللواتي يرفضن أمومتهن بالمطلق، ويساوين في اضطهادهن بين الذكور والإناث.
ولسنا في معرض تبكيت الأم وتذنيبها، لأنّ ما يعنينا، جوهريًّا، هو ارتدادات أداء هذه الأم على ابنتها المكروهة وتسبُّبها بحرمانها من العناية التي تستحقها، لكي تنمو نموًّا سويًّا وتتفتّح وتتحقّق بدل أن تفشل، وتُحبط، وتتفكّك.
خلاصة القول، إنّنا نفترض أنّ عدم تقبُّل الأهل لولادة الأنثى، وعضويتها في الأسرة، سوف يؤدي بالارتكاز إلى النظريات ذات الصلة، كما إلى المشاهدات والواقعات، إلى إعطاب شخصية الفتاة موضوع الاضطهاد، وإعاقة نموّها النفسي والعصبي، والعقلي، خلوصًا إلى الاستدلال المسبق أنّ التعامل مع المرأة على قاعدة التسليم بنقائصها، لا يلبث أن يؤسّس بدوره لنقائصها، ما لم تحدث معجزة نفسية أو اجتماعية تجعل هذه الفتاة-الضحية تتمرّد على ذاتها القديمة المشوّهة، وعلى محيطها، من أجل ذات أخرى، تخترق بها عبابَ الحياة.
تصبّ إثارة هذا النمط من القضايا في خانة الدفاع عن حقوق الإنسان، وكرامته، فالأنثى تستحقّ منذ تكوينها ومجيئها إلى العالم، الاعتراف بها بصفتها «موهوبة العقل»، وبكرامتها، أي بقيمتها الإنسانية المطلقة الكامنة فيها، وهي تستحقّ ربطًا، الاعتراف بحقوقها الإنسانية الطبيعية، وينطبق عليها ما جاء في شرعة حقوق الإنسان، وتحديدًا في مادّتها الأولى التي تقول:
«يولد جميعُ الناس أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وُهبوا العقلَ والوجدانَ وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضًا بروح الإخاء».
وبما أنّ اضطهاد الأنثى وكراهيتها يبدآن منذ ولادتها وما قبلها، ينطبق عليها ما ورد في الشرعة الخاصة بحقوق الطفل، في مادتها التاسعة عشرة، والتي أقرّت بـ:
«حماية الطفل من كافة أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية والإهمال أو المعاملة المنطوية على إهمال وإساءة المعاملة أو الاستغلال، بما في ذلك الإساءة الجنسية، وهو في رعاية الوالدين، أو الوصي القانوني عليه، أو أي شخص آخر يتعهد الطفل برعايته».
وبما أنّ الضحية هي في جميع الأحوال أنثى، فإنّ قضية الأنثى المكروهة، والمعنّفة، وفي كل مراحل حياتها، تندرج أيضًا في خانة الدفاع عن حقوق المرأة خصيصًا، فالهدف النهائي للخطاب الحقوقي النسوي، إنّما هو القضاء على كل أشكال القهر والرفض المتّصلة بالنوع الاجتماعي (Gender)، أو الجنس، ليسمحَ للمجتمع، نساء ورجال، بالنمو والمشاركة في المجتمع بأمان وحرية. ولكنّ السؤال الرئيس المطروح هو: كيف نرفع عن هاته الفتيات الصغيرات سيف الكراهية والاضطهاد المسلط عليهن، وهن مسلوبات الإرادة والحرية، بالنظر إلى صغر سنهن؟ وأي استراتيجية خطابية وعملانية يمكن وضعها لحمايتهن؟
إنّنا نحتاج إلى خطاب مخصوص، ينبني حول هذه الظاهرة المحدّدة، والتي تُعدّ انتهاكًا صريحًا لشرعة حقوق الإنسان وللكرامة الإنسانية، ولحقوق المرأة عامّةً، وربما إلى إنشاء مؤسسة تبحث عن هذه الضحايا في دهاليز الأسر الذكورية، وتتقصى أحوالهن، فالأطفال ليسوا ملكية الأهل العقارية.
وختامًا، إنّ الحديث عن مقت النساء مقتًا جذريًّا كليانيًّا، لا يقوم على استعارة بلاغية، بل على حقيقة واقعة، فهلمّوا!