في تأمّل تجربة الكتابة
لا شيء أنفع من الكتابة لتكون حيّاً في زمن آخر
فراس حج محمد/ فلسطين
أصدرت منذ أواخر عام 2020 وحتى تموز 2021 خمسة كتب، وهي: “نسوة في المدينة”، و”الإصحاح الأول لحرف الفاء- أسعدت صباحاً يا سيدتي” بمناسبة عيد الحب، وكتاب “لا شيء يعدل أن تكون حراً”، كتاب أرصد فيه عملية التلقي لكتاب “نسوة في المدينة”، وكتاب “استعادة غسان كنفاني”، ولي في المطبعة كتاب آخر أنتظر وروده راقصا إليّ قريبا، ديوان شعر بعنوان “وشيء من سرد قليل”. هذه الكتب في أقل من عام تجلب أكثر من انطباع. أحد الكتاب المتلصصين الافتراضيين المطلين على نافذتي من بعيد، لم يعجبه الأمر، وربما صاحبه ومعه آخرون شعور بالغيرة والحسد؛ فكيف يكون لي كل هذه المؤلفات التي تصدر تباعاً في مدّة قصيرة؟
المرأة التي تدعي حبي كانت أيضا تنظر إلى المسألة بأفق مختلف، وتريدني أن “أخفف” من سرعتي في النشر، ليستطيع الكِتاب الجديد أن يأخذ مكانه بين أيدي القراء وعقولهم. وفي آخر حوار أجرته معي مجلة الليبي (سينشر قريباً) أشار رئيس التحرير الدكتور الصديق بودوارة المغربي الذي حاورني إلى هذا الإكثار في الكتابة، وخصص له سؤالاً. أسهبتُ في الإجابة عليه؛ لعلّها تكون إجابة شافية ووافية ونافعة ومقنعة. أتذكر وأنا أكتب الآن أن عالماً جليلاً من علمائنا الأفاضل- وهو جلال الدين السيوطي- قد ألف ما يزيد على (500) كتاباً، وتذكر بعض المصادر أنه ألف ما يربو على (600) كتاباً. أو ما قيل عن أبي العتاهية؛ فهو من الشعراء المكثرين، و”كان ينظم ما يقرب المائة إلى المائة والخمسين بيتًا من الشعر في اليوم الواحد”. تخيلوا إذاً كم خلّف أبو العتاهية من قصائد وأشعار.
بقدر ما تحمل هذه المسألة من تقدير بادٍ عند البعض ومنهم رئيس تحرير مجلة الليبي، إلا أنها غدت محلّ شكّ عند آخرين من الكتاب الفلسطينيين الذين تصاحبهم في أحيانٍ كثيرة نوايا سيئة تجاه بعضهم بعضاً، ولذلك لم تنشر كل الصحف المعتاد أن تنشر أخبارا عن إصدارات كتبي، كل التقارير حول هذه الكتب. أظن أن المحرر الصحفي قد نظر إلى المسألة على أنها نوع من الكثرة غير المحمودة، وأنه لا يعقل أن يُصدر كاتب كل هذا العدد من الكتب في حدود ستة أشهر؛ أضف إلى أن أحدَ محرري المواقع الإلكترونية يمرر لي رسالة عبر صديق مشترك ألا أرسل له مواد للنشر إلا مادة واحدة كل أسبوع. عليّ الاعتراف من جديد أن عالم الكتّاب تسكنه كثير من الأمراض والعلل، وأنهم كثيراً ما يخيّبون الظن. ولا ألمز هنا ألبتة بصديقنا هذا، لكنه- على الأرجح- سمع كلاماً من بعض هؤلاء الكتاب حول كثرة ما يُنشر لي في الموقع ذاته. فصارت المسألة بالنسبة إليه عملا محرجاً.
ربما ما لا يعرفه عني هؤلاء المتلصصون ومحررو الصحف والمواقع والكتّاب والكاتبات أنني أكتب منذ 1994 وحتى الآن، وبدأت طباعة كتبي عام 2013، حتى أصبح لي الآن (22) كتابا مطبوعاً في ثماني سنوات، وما زال لديّ أكثر من عشرين كتابا تنتظر الطباعة. وأن أكثرها ألفتها سابقاً، وكل ما في الأمر أنني قررت نشرها، لأتخلص من عبء وجودها في الحاسوب متناثرة. وتقوم استراتيجيتي في ذلك على أنني سأنشر كل عام (5) كتب أو أكثر حسب ما يستجد من أمور، وبالتالي فإنني في ظرف أربع سنوات قادمة- إن أطال الله في عمري- سأكون أصدرت كل تلك الكتب التي قددتها من لحمي ومن أعصابي، وطبعت أغلبها حتى الآن على حسابي الشخصي، بعض تلك الكتب بطبيعة الحال كان على نفقة أحد الأصدقاء، فكل الشكر والتقدير والاحترام له، وبعضها على حساب جهة رسمية. أتحدث هنا فقط عن الكتب الخمسة المشار إليها أعلاه.
هذه الكتب عدا الكتب الأخرى المصاحبة لتأمل مشروع الكتابة ذاتها، وجعلتها تحت عنوان عامّ “في تأمل تجربة الكتابة”، ستضم كل ما كتبه الأصدقاء الكتاب عني والحوارات التي أجريت معي، وشهاداتي حول ما كتبت من شعر وسرد وقصص ونقد وحفلات التوقيع ورأيي في الكتابة من حيث هي. وقد بدأت بالفعل نشر أول كتاب من هذا المشروع وهو كتاب “لا شيء يعدلُ أن تكون حرّاً”، وآمل أن أعيش حتى 2023 لأصدر في عيد ميلادي الخمسين مقالات الكتاب فيّ كاحتفال شخصي بمشروعي الكتابيّ.
والسؤال الذي قد ينطّ من فم أحدهم، وكيف تدفع كل تلك المبالغ وأنت مجرد موظف، ذي راتب محدود، بالكاد يكفي متطلبات الحياة والتعليم وما شاكل؟
المسألة هنا متعلقة بالتخطيط والهدف من الحياة، فأنا شخص لا أدخن، ولا أشرب الوسيكي أو العرق، ولا أذهب إلى المقاهي، ولا أواعد النساء (عادة أقلعت عنها منذ مدة طويلة)، ولا أنفق عليهن في المطاعم و”الكوفي شوبات” والسهرات والحجز في الفنادق لنكون معا في ليالٍ حمراء وصفراء وخضراء وملونة ومبتلّة. كما أنني لا أنفق على الترفيه؛ فليس لديّ رحلات استجمامٍ أو سفر خارج البلاد أو داخلها، ولا أنفق أيضا على الكماليات وشراء الملابس، وليس لديّ سيارة خاصة، وليس لديّ أي شيء يستنزف قدرتي المادية، عدا تعليم بناتي (رضي الله عنهنّ)، ولذلك كل ما كان عليّ أن أنفقه في مجالات “الهباء المنثور” أنفقه على طباعة كتبي، وأكون سعيدا بهذا الإنفاق، لأنني أنفقها في شيء يبقى ويدوم، وتتذكرني به الأجيال القادمة، وتحكم على ما أنتجت، فإن أحجم اليوم “النقاد” عن الحديث عني والإشادة بما أكتب والوقوف عليه والإشارة إليه، وإن نظر إليّ الكتّاب ببعض الحسد والغيرة والشك، فسيأتي يوم يكون فيه جيل جديد لا يعرفونني إلا عن طريق الكتب وليس لي بهم صلة، غرباء عني وغريب عنهم، سيقرؤون تلك الكتب، ولعلّ نظرتهم تكون أكثر صوابية من كُتّاب هذه الأيام الذين لا يعرفون إلا التلصص والاستغابات اللاثقافية. فأنا أكتب لزمن آخر وجيل آخر، لعله يكون أكثر إنصافاً ممن يعرفونك وينصّبون أنفسهم منافسين لك دون أدنى حاجة للدخول إلى هذا المنطق السقيم، فلا شيءَ أنفع من الكتابة لتكون حيّا في زمن آخر حيث الموت يكون قد طواك في حفرته الباردة الضيقة، لتخرجك الكتب إلى الحياة من جديد، كأنك خلقت متجددا مع كل قراءة أو استعادة.
بهذه الكيفية وبهذه القناعة أسير في بناء مشروعي الثقافي المفتوح على أسئلة الإبداع الشخصية والكونية، مشروع أظن أن له القدرة على الصمود، لا أدري كم هو عمره المفترض ليعيش بعدي، لكنني- وبكل تأكيد- أعمل بإخلاص على أن يكون صالحاً للعيش أكبر مدة زمنية ممكنة. وهذا يجعلني أكثر شعورا بالمسؤولية تجاه نفسي أولا وتجاه الكتابة ثانيا، وتجاه الأجيال القادمة ثالثاً.