الحنين أعمق من الشوق وهو صلب العاطفة وموئل الذكرى ، وهو حلم مرهف وخيال مجنح وإملاء لامناص ومهرب من سطوته، ومثاله المجسد في الحنين للأوطان والشغف بذكرى المكان وعشق الزمان التي دعي في الغرب(نوستالجيا). وسمي بالعربية (الأبابة). والابابة شعور خيالي يوِّلد الإحساس بالألم نتيجة الخوف من عدم الرجوع الى الوطن ورؤيته ثانية. وقد ارتبط في الحقب التاريخية الماضية بظاهرة الرومانسية المعروفة. وهو يأخذ صورًا شتى من مشاعر الألم الممتزج بالنشوة احيانًا. وقد يفجر تلك المشاعر لدى الانسان تذكّر حادثة معينة او مشاهدة منظر او الإستماع الى قصة او قراءة سيرة او مقال او شعر، او الإستماع الى أغنية او موسيقى ، او شم عطر او غيرها من مسببات تكون للآب بمثابة الصاعق.وقال حكماء التراث عن تلك الظاهرة الإنسانية: الحنين من رقة القلب، ورقة القلب من الرِّعاية، والرِّعاية من الرَّحمة، والرَّحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة الرَّشدة، وطهارة الرَّشدة من كرم المحتد.
والحنين صفة لاتقترن بجنس بشري دون غيره فهي فطرة وسليقة في أعماق الخلق. وثمة إختلاف بين معاشر الشعوب في مدى حنينها لأوطانها،أو الشغف بالعودة لها، فمنها المهاجر بالفطرة أو (السليقة التأريخية) ومنها الثابث المتشبث. وعلى العموم ودون تعميم فإن جل الشعوب الطينية راسخة والرملية مهاجرة، والعراقيون طينيون، لايبرحون وطنهم إلا مكرهين. وقدحدث الأمر عند الإنعطافات الكبرى في التاريخ، ومنها سقوط نامات سومر على يد البداة المهاجمين من الشرق،وسقوط آشور عام 605 ق.م ، وبابل عام 539ق.م، والدولة الأموية 745م، حيث رحل العراقيون بعيدها زرافات من الموالين للأمويين إلى المغرب والأندلس.وحدث الهزيع حين سقطت بغداد العباسية عام 1258م حيث رحل الكثيرون لمصر والمغرب وفارس، حتى (الخلفاء) العباسيين وجدوا لهم موقع قدم في القاهرة.وبعد حلول الخروفين الآسيويين (الأبيض والاسود)، ثم العثمانيين، رحل العراقيون إلى الهند،ونقلوا معهم ميراثهم، حتى لنجد أن (اسطة) تاج محل أسمه واجد البغدادي، ونجد أن كثير من مخطوطات بغداد، قد رحلت معهم.
ونجد من شعوب الأرض تواقين للهجرة مثل أهل جنوب الجزيرة العربية نحو صوبي أفريقيا وآسيا، و سكان حوض البحر المتوسط منذ الأتروسكيين(سومريون سكنوا إيطاليا قبل الرومان منذ 1000ق.م) والفينيقيين، والذين جهابذة البحر الذين وصلوا حتى العالم الجديد، والأمر نافذ عند أهل دول الشمال هروباً من الصقيع الى الدفئ والشمس في الجنوب، وهجرة أهل شرق أوربا الى غربها.وأهم مايهمنا هو توق من سكن الهضبتين الفارسية والعربية للولوج الى الوادي العراقي الأخضر، وهو مصدر كل أحداث تأريخه.
والحنين للأوطان الشاخصة صفة طينية تعني الثبات بالأرض كونها تدر الغلة وتديم البقاء وتستديم.
النوع، وتقع على نقيض العقلية الرملية التي لم تعبأ بالمكان ،كونه مجدب ومكبل ومحبط وعنى الفاقة والموت جوعا،بما حركه هذا الهاجس في الفطرة البشرية من شجون.وثمة بون بين الحنين لأهل وأطلال كما عند البدوي وحنين لأوطان ومكان عند الحضري، لذا فإن الحنين للأوطان مكاني يجد في العاطفة مسراه ومعيار دفقه،والذاكرة موئله ومخزنه والتفريغ التعبيري بالفن والشعر والقول والأدب متنفسه .
وحتى لو كان الحضريَّ قد ورد من أرض أقل خصباً، وتغرب في بلادٍ أكثر ثراءا وغلة ، فإنه لابد أن يحن إلى وطنه ومستقرِّه.وللأعراب حنين إلى الجدْب، والمحلِّ القفر، والحجر الصَّلْد، ووخمة الرِّيف، حتَّى قال بعضهم:
أتجلين في الجالين أم تتصبَّري … على ضيق عيشٍ والكريمُ صبورُ
فبالمصر بُرغوثٌ وحُمّى وحصْبةٌ …… ومُوم وطاعونٌ وكلُّ شُرورُ
وبالبيد جوعٌ لا يزالُ كأنَّه ………….. رُكامٌ بأطراف الإكام يمورُ
وذكر عن الإمام علي (ع) قولة عن المهاجر: ( ليس بلد بأحق بك من بلد خير البلاد ما حملك)وتعني كلمة حملك: أعزك وأطعمك واواك. وقال الخليفة الراشد عمر (رض): (عَمَّر الله البُلدان بحبِّ الأوطان ) . وكان يقال: لولا حبُّ الناس الأوطان لخسرت البُلدان.وقال عبد الحميد الكاتب، وذكر الدُّنيا: ( نفتنا عن الأوطان، وقطعتنا عن الإخوان).وقالت الحكماء في الإغتراب: أكرم الخيل أجزعُها من السَّوط، وأكيس الصِّبيان أبغضُهم للكُتَّاب، وأكرم الصَّفايا أشدُّها ولهاً إلى أولادها، وأكرم الإبل أشدُّها حنيناً إلى أوطانها، وأكرم المهارة أشدُّها ملازمةً لأمِّها، وخير الناس آلفُهم للناس.وقال آخر: من إمارات العاقل برُّه لإخوانه، وحنينه لأوطانه، ومداراته لأهل زمانه. وقال بعض الفلاسفة اليونان: فطرة الرجل معجونةٌ بحبِّ الوطن.و قال بُقراط: يُداوى كلُّ عليلٍ بعقاقير أرضه؛ فإنَّ الطبيعة تتطلَّع لهوائها، وتنزع إلى غذائها.وقال أفلاطون: غذاء الطبيعة من أنجع أدويتها. وقال جالينُوس: يتروّح العليل بنسيم أرضه، كما تنبت الحبة ببلِّ القطْر. وقالت العرب: حماك أحمى لك، وأهلك أحفى بك.
وشبَّهت الحكماء الغريب باليتيم اللَّطيم الذي ثكل أبويه، فلا أُمَّ ترأمه، ولا أبَ يحدب عليه.ولنا تجربة في الجزائر حينما حاولو تقديم لي (صدقة) مشيا على موقف في الفقه المالكي الذي يصنف الغريب كما إبن السبيل وتحل عليه، حتى لو كان ثرياً مرفها مثلي. وقيل: الغُربة كُربة، والقلّة ذلة. وقال الشاعر:
لا ترغبوا اخوتي في غربة أبداً … إنّ الغريب ذليلٌ حيثما كانا
وقال آخر: لا تنهض من وكرك فتنقُصك الغُربة، وتضيمك الوحدة. وقال آخر: لا تجفُ أرضاً بها قوا بلك، ولا تشكُ بلداً فيه قبائلك.وقال أصحاب القيافة: إذا أحسَّت النفس بمولدها تفتَّحتْ مسامُّها فعرفت النَّسيم.وقال آخر: يحنُّ اللبيب إلى وطنه، كما يحنُّ النَّجيبُ إلى عطنه.وقال: كما أنَّ لحاضنتك حقَّ لبنها، كذلك لأرضك حرمة وطنها.
ونجد في التراث مثل الجاحظ يفصل بين حنين العرب عن العجم والهنود ويذكر ما قالته “العجم” في الحنين: من علامة الرُّشد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها توّاقة. أما عند الهنود فجاء ضمن التراث العربي مقولة: حرمة بلدك عليك مثل حرمة أبويك؛ لأن غذاءك منهما، وغذاءهما منه.وقال آخر: احفظ بلداً رشّحك غذاؤه، وارع حمىً أكنّك فناؤه. وأولى البلدان بصبابتك إليه بلدٌ رضعت ماءه، وطعمت غذاءه.وجاء في التراث كذلك: أرض الرجل ظئره، وداره مهده. والغريب النائي عن بلده، المتنحّي عن أهله، كالثور النادِّ عن وطنه، الذي هو لكلِّ رامٍ قنيصة.وقال آخر: الكريم يحنُّ إلى جنابه، كما يحنُّ الأسد إلى غابه.وقال آخر: الجالي عن مسقط رأسه ومحلِّ رضاعه، كالعير الناشط عن بلده، الذي هو لكل سبعٍ قنيصة، ولكل رامٍ دريئة.وقال آخر: تربة الصبا تغرس في القلب حرمة وحلاوة، كما تغرس الولادة في القلب رقَّةً وحفاوة.وقال آخر: أحقُّ البلدان بنزاعك إليه بلدٌ أمصَّك حلب رضاعه.وقال آخر: إذا كان الطائر يحنُّ إلى أوكاره، فالإنسان أحقُّ بالحنين إلى أوطانه.وقال آخر: ميلك إلى مولدك من كرم محتدك.وقال آخر: عسرك في دارك أعز لك من يُسرك في غربتك.وقال آخر: الغريب كالغرس الذي زايل أرضه، فقد شربه، فهو ذاوٍ لا يثمر، وذابلٌ لا ينضر. يقال أن الناس بأوطانهم أقنع منهم بأرزاقهم.ولذلك قال ابن الزُّبير: ” لو قنع الناس بأرزاقهم قناعتهم بأوطانهم ما اشتكى عبدٌ الرِّزق ” . وقالت أعرابية: إذا كنت في غير أهلك فلا تنسَ نصيبك من الذلّ. وأترع الشعر العربي بنفحات رومانسية ، حيث قال الشاعر:
إذا ما ذكرت الثَّغر فاضت مدامعي … وأضحى فؤادي نُهبةً للهماهمِ
حنيناً إلى أرضٍ بها اخضرَّ شاربي … وحُلَّت بها عنِّي عقود التمائمِ
وألطف قومٍ بالفتى أهل أرضه … وأرعاهم للمرء حقَّ التقادمِ
وقال آخر:
يقرُّ بعيني أن أرى من مكانه … ذرى عقدات الأبرق المتقاودِ
وأن أرد الماء الذي شربت به … سليمى وقد ملّ السُّرى كلُّ واخدِ
وألصق أحشائي بيرد ترابها … وإن كان مخلوطاً بسم الأساودِ
وقال آخر
لقربُ الدار في الإقتار خيرٌ … من العيش الموسَّع في اغترابِ
وقال آخر:
لعمري لرهطُ المرء خيرٌ بقيَّةً … عليه وإن عالوْا به كلَّ مركبِ
إذا كنت في قومٍ عدىً لست منهم … فكُلْ ما عُلفت من خبيثٍ وطيِّبِ
ونجد في التراث العراقي القديم نصوص عن الهجرة،ولاسيما من المدن التي تداهم مثل أوروك وبابل. لكن التراث العربى تناول كتب الحنين عن الوطن بغزارة، ومنها: ” حنين الإبل إلى الأوطان ” لربيعة البصري، ” حب الوطن ” لعمرو بن بحر، لا الشوق إلى الأوطان” لأبي حاتم سهل بن محمد السجستاني، “حب الأوطان ” لأبى الفضل بن أبي طاهر، ” الحنين إلى الأوطان ” لموسى بن عيسى الكسروي، ” الحنين إلى الأوطان ” لأبي الطيب محمد بن أحمد بن إسحق الوشاء، ” الحنين إلى الأوطان ” للحسن بن عبد الرحمن ابن خلاد الرامهزي، ” أدب الغرباء ” لأبي الفرج علي ابن الحسن الأصفهاني، ” الحنين إلى الأوطان ” لأبي حيان علي بن محمد بن العباس التوحيدي، ” النزوع إلى الأوطان ” لأبي سعد عبد الكريم بن محمد ابن السمعاني.
ومن أكثر ما وجدناه أهمية في رصد تلك الظاهرة هو مؤلف (حنين الأوطان) للعراقي أبومنصور محمد بن سهل بن المرزباني الكرخي البغدادي، ويقال عنه إنه من علماء النصف الثاني من القرن الثالث والثلث الأول من القرن الرابع الهجري، وتعد هذه الفترة من أزهى الفترات التي وطأتها الحضارة في بغداد، وكان أحد آئمة الأدب والبلاغة البارعين وأحد الفصحاء البلغاء.ويبدو أنه قد آثر الابتعاد في خدمة الخلفاء ودواوين الدولة، لذا مكث في الظل رغم براعته الفكرية والبيانية.وهذا ديدن الثقافة في كل زمان ومكان.
الباب الأول من الكتاب عنوانه: ” ما جاء في حب الوطن “، وهو يبدأ بالقرآن الكريم، قال تبارك وتعالى في سورة ” النساء ” ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم، وهكذا قرن الحق الجلاء عن الوطن بالقتل، وقال النبي (ص): الخروج من الوطن عقوبة ، وكان يقال: ” بحب الأوطان عمرت البلدان “، ” والحنين من رقة القلب ورقة القلب من الرعاية والرعاية من الرحمة، والرحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة الرشد “.وقال جالينوس: يتروح العليل بنسيم أرضه، كما تتروح الأرض الجدبة ببل القطر، وقال أبوقراط: يداوى العليل بحشائش أرضه، فإن الطبيعة تنزع إلى غذائها، وأنشد الطائي:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى…..وحنينه أبداً لأول منزل
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى…..ما الحب إلا للحبيب الأول
والباب الثالث من الكتاب عنوانه: ” من اختار الوطن على الثروة “، قال بعض الأدباء: عسرك في بلدك، خير من يسرك في غربتك، وقال رجل لابنه: اخرج إلى الهند في تجارة فأبى، وقال: لا متصرف في الطلب خوف العطب، بل الحاجة أشد من الإعواز، والحاجة في عز الأمن خير من الغنى في ذل الخوف.وقيل لأعرابي: ما الغبطة؟، قال: الكفاية مع لزوم الأوطان والجلوس مع الإخوان.
قيل: فما الذلة؟، قال: التنقل في البلدان والتنحي عن الأوطان.
والباب الرابع عنوانه: ” من اختار الثروة على الوطن “، قال أبوتمام حبيب بن أوس الطائي:
فأوبة مشتاق بغير دراهم…إلى أهله من أعظم الحدثان
وقال علي بن عبيدة:الإكثار: وطن الغريب، والعسر: غربة الوطن وقال آخر:
الفقر في أوطاننا غربة…..والمال في الغربة أوطان
والأرض شيء كله واحد….ويخلف الجيران جيران
وأنشد آخر:
لعمرك ما الغريب بعيد دار….عن الأهلين وهو جميل حال
ولكن الغريب قريب دار…..من الأهلين وهو قليل مال
والباب الخامس من الكتاب عنوانه: ” ذل الغربة”.، حيث قال بعض الأدباء: الغربة ذلة، فإن أردفتها قلة، وأعقبتها علة، فهي نفس مضمحلة.وقال آخر: الغربة كربة والكربة ذلة والذلة قلة.وقالت العرب: لا تنهض عن وكرك. فتنقصك الغربة وتضيمك الوحدة.وشبهت الحكماء الغريب باليتيم الذي ثكل أبويه، فلا أم ترأف به ولا أب يحدب عليه. وكان يقال: الجالي عن مسقط رأسه كالعير الناشز عن موضعه، الذي هو لكل سبع فريسة، ولكل كلب قنيصة ولكل رام رمية.وكان يقال: المغترب عن وطنه ومحل رضاعه كالعير الذي زايل أرضه وفقد سربه، فهو زاو لا يثمر وذابل لا ينضر .
وقال بعض الأعراب: إذا كنت في غير أهلك ….فلا تنس نصيبك من الذل.
وقال الشاعر:
إن الغريب له استكانة مذنب….وخضوع مديون وذل غريب
فإذا تكلم في المجالس مبرم…..وإذا أصاب يقال غير مصيب
فإذا الغريب رأيته متحيراً……فارحم تحيره لفقد حبيب
والباب السادس في كتاب الكرخي مخصص لما قيل في نوح الحمام، مر بشار الأعمى بباب الطاق(باب الشيخ اليوم) فسمع صياح قمرية، فقال لغلامه: انطلق، فإن وجدت هذه القمرية بجناحها فاشترها ولو بوزنها ذهباً، فوجدها بجناحها فاشتراها بثلاثة دنانير، فلمسها بيده ثم قال:ناحت مطوقة بباب الطاق…..فجرت سوابق دمعك المهراق
طربت إلى أرض الحجاز بحرقة……فشجت فؤاد الهائم المشتاق
وقال آخر:أحقا ياحمامة بطن واد……بهذا الوجد إنك تصدقينا
غلبتك بالبكاء لأن شوقي……أكاتمه وشوقك تغلبينا
ويقول مؤلف الكتاب البغدادي : أخبرني من سمع أعرابيا يقول: إذا ترنمت هتوف الضحى بين الغصون أدت الشجون مياهها إلى العيون، فمن ذاد عن البكاء عينا أورث قلبه حزنا.
والباب السابع في الكتاب عنوانه: من تداولته الغربة. حيث قال أبوتمام حبيب بن أوس الطائي:
ما اليوم أول توديعي ولا الثاني…..البين هيج لي شوقي وأحزاني
دع الفراق فإن الدهر ساعده……فصار أولع من روحي بجسماني
وقال آخر:
نساعد بالوصال ودهرنا……يومان يوم نوى ويوم صدود
وقال آخر:
حتى متى أنا في حل وترحال….وطول هم بإدبار وإقبال
أكابد الدهر، لا أنفك مغتربا….عن الأحبة لا يدرون ما حالي
في مشرق الأرض طوراً ثم مغربها…..لا يخرج الموت من ذكرى على بالي
والباب التاسع وصف الوطن بالطيب والنزهة، والباب العاشر ما قيل في الأشجار والضياء والبروق وغير ذلك، والباب الحادي عشر ما قيل في حنين الإبل، والباب الثاني عشر في المساءلة عن الحنين.وعودة إلى الباب الثامن من كتاب البغدادي وعنوانه: من جسمه بأرض وقلبه بأخرى،ونجد فيه مطابقه مع معاناة ملايين المهاجرين من العراقيين الذين كانوا مجبورين على المكوث بأوطان أخرى ومجبولين على حنين مجنح لوطنهم.فسرحت متأملا كيف ومتى تحين ساعة العودة لهؤلاء،مع يقيينا أنهم فقدوا الكثير في الوطن والمهاجر، فأسراب الطيور المهاجرة تفقد ثلثها في طريق العودة الى الوطن .
عادة ما أقرا بالحدس مصيري من سير من سبقني في الغربة وأمتلئ بالحسرة، فقرات إبن بطوطة وأنا صغير (11 عام)، وشغفت بسيرته وغربته،وكاني أقرأ مستقبلي، ثم شدني سيرة (الصاعد البغدادي) الذي مكث أربعون عاما كما هي غربتي اليوم، متنقلا في الأندلس، ليقرر أخيرا العودة، لكن الفلك الذي نقله من الساحل الشرقي لميورقه ثم صقلية، كان آخر المطاف، فمات دون أن يعود لبغداد.
ثم شغفت بشخصية وسيرة الدكتور المعمار (محمد صالح مكية: مولود في بغداد 1914)،و الذي أنجزت كتابي تحليلي عن حياته وفكره ومنجزه ، والذي صدر ببغداد العام المنصرم، حيث جمعتني به المناف والصداقة والإنتماء العراقي والصنف المعماري، وربما يوم ميلادنا الذي يقع اليوم 15 ينايركانون الثاني . بيد أن الاسى يملئني وانا أفكر بأن قامة ثقافية مثل مكية وهو اليوم يجتاز عمر القرن(مئة عام) يعيش منفاه الإختياري في لندن ومنسي من العراق الغافل والنخب النائمة والسلطات المخدرة والمنشغله بواه الأمور. ففي الوقت الذي ادعوا الله لأن يمد بعمره ويديم ظله ، أمني النفس أن نستدرك ما يمكن إستدراكه، ونعتني برموز ثقافتنا وشواخص مبدعينا مثل مكية وأمثاله،قبل فوات الأوان، كي لا يؤرقنا الندم ، أو يلومنا من يرد بعدنا على تقاعسنا. وذلك ويؤجج الحنين للوطن العراقي المبتلى، ويثير فينا الاسى.
لقد أكرمني الله أن أدفن جثامين أمي وابي في وسط غابات ستوكهولم الندية حتى أمسى حنيني مشتت بين بغداد موئلي وقدس روحي، ووادي السلام التي ضمت في ثراها من أحب، وستوكهولم لأحرس قبور أهلي آخر الأصقاع. سألني الإعلامي الرائع مؤمل مجيد مقدم برنامج (خط الحياة) في التلفزيون العراقي آخر سؤال، وفحواه: إذا مت، فاين يطيب لك ان تدفن؟، فأجبته من سجيتي، بأن ارض الله كلها طاهرة، ثم تذكرت في لحضة تجلي قبر والدي هناك الذي تمنى أن يكون دفين وادي السلام، فبكيت ، متذكرا أن ما أصابنا في العراق ، كان يجب ان لايكون قدرنا، فلم نقترف الخطايا التي تقابل تلك العذابات، وتشظي بين الأرواح والأجساد. كان (مؤمل) حاذق، ورغم أنه واعدني بقطع تلك اللقطة(بالمونتاج)، لكنه وظفها في الديباجة، أتذكر أنها كانت مشوبه بنشيج من الروح تمتمت فيها : العراق ما يستاهل اللي د يصير بيه اليوم!.
د.علي ثويني