في البدء كانت الكلمة…
لكن اين هم حملتها؟
احمد لفتة علي
يقال: (الحياة في الكلمة) ولنرى مصداقية هذا القول لدى بعض الادباء والكتاب الكبار فكيف ينظرون الى مفعول وسحر الكلمة في حل الازمات النفسية ومواجهة مشكلات الحياة والتعبير عن الذات من خلال الكلمات.. ففي رواية (قصة حب مجوسية) يقول عبد الرحمن منيف (لااطلب منكم الرحمة، ولا اريد عطفكم اذا كنتم محسنين فامنحوا صدقاتكم للمتسولين انا لست متسولا ولا مسكينا كما لا اعتبر نفسي لصا او قاطع طريق، ومع ذلك لي مشكلة ومشكلتي .. دون كلمة كبيرة، ان الالم يعتصر قلبي.. ليس هذا جديدا بالنسبة للحياة التي اعيشها، لكن الامر، في لحظات معينة.. يبلغ حدا لا استطيع احتماله وما دام الامر هكذا فان الكلمات ، في بعض الاحيان وسيلة لانقاذي).
نعم هكذا يقول الراحل عبد الرحمن منيف ويعترف بان الكلمة وسيلة للانقاذ ونسأل من ماذا هذا الانقاذ هل من الموت المحقق..؟ او من قصة حب عنيفة كادت ان تؤدي بحياة منيف وقد يموت الانسان حيا..
ولنطلع على فن الكتابة لدى الاديب الراحل عبد المجيد لطفي احد الرواد في فجر القصة العراقية وماذا تعني له الكلمة:
ومع عبدالمجيد يقول: اكتب بعفوية وانثيال وسيولة فان قراءتي المتلكئة تطيل من الزمن الذي تستغرقه الكتابة منذ الشروع بها الى ان تدخل في الغلاف لتتخذ طريقها الى النشر، ولقد فكرت لماذا افعل ذلك؟ لماذا اكتب ما في ذهني سريعا واقرأ، طويلا سيما فيما اكتب للادب..؟
وقد انتبهت انني حين افعل ذلك فلكي اتلذذ بما اكتب لان الكتابة عندي احساس لا يشع ولا ينتقل اذا لم يلتهب او يلهب الشارع.. انني لا اكتب اي شيء ادبي ابداعي خالص مالم أجد ذلك الدافع الداخلي القوي الذي لا يقاوم واذا اكتب اشعر بالتوتر العضلي، فتشد اناملي على القلم، كما يشد الجندي القلق يده على البندقية قبل ان يخرج من خندقه للزحف والتقدم، لذلك فان ضغط التوتر على ذبالة القلم يكون كبيرا فيخرق الورقة الى الورقة الثانية بعض الاحيان وليس هذا جديدا ، فمنذ سنوات حين كنت اكتب في ادارة بعض الصحف في بغداد كان زملائي لا يعيرونني اقلامهم لانها لا ترد اليهم سليمة ناعمة.
فهل الكتابة فن؟ لقد قرأت الكثير عن هذا وانتهيت الى صحة ذلك لان الفن في حدود قواعد مصقولة على ضوء التجارب والنقود الفكرية وهي قواعد ضرورية لتحديد هوية الفن المكتوب ولكنه ليس دائما (اثر المؤثر) اي الموهبة حين لا تكون حاضرة فما هو غير موهوب في اساسه يمكن ان يكون فناً ولكن ما هو (موهوب) وانفعالي مبدع شيء ليست له تسمية بعد.. وان كان يحشر مع الفنون في القصة والمقال، ففي النقد يختلف عطاء (الموهبة) عن عطاء الاكتساب العقلي فللاول حرارة الايمان والانفعال الغيبي وللثاني قدرة الادراك المتمرس على رؤية كل جوانب الاشياء بتغلبها على كل الزوايا والوجوه. فهل هذه افضلية على الكتابة العفوية، غير المبرمجة وغير الخاضعة لاعداد او لتخطيط مسبق في الاوليات على الاقل..؟
وفي كتابه الرائع (كيف حملت القلم) يقول الروائي السوري حنا مينا، يقول(ان حامل القلم هو حامل قضية..) قال الآن روب غريية: (انني اقذف بحجارتي الى الشارع) . فرد عليه ميشيل بوتور (ولكن ينبغي ان تتأكد انها لن تصيب احدا من المارة) وتعليقا على ذلك ، كتب فاضل العزاوي ان الحجارة تصيبنا في كل لحظة مادمنا اخترنا ان نعيش في مرمى الحجارة، كل كتابة هي حجارة ترمى في مهرجان بشري، وليس ثمة بد من ذلك، ان الكاتب في عصرنا يقف وسط معركة تاريخية كبرى وفي هذه المعركة لابد ان نميز بين الكاتب الذي يقاتل من اجل ولادة انسانية جديدة والكاتب الذي يضل طريقه الى المستقبل ولكن الأسوأ من ذلك ان يمجد الكاتب الارهاب والموت والخيانة، انهم ينحدرون الى مستوى كلاب مسعورة لاتجد في فنها وسيلة لتمجيد سيدها الذي يقذف لها بالعظام بين حين واخر، عظامنا نحن فتقضمها ثم تعوي قصيدة عصماء (ياللبؤس الانساني)!
ويضيف الروائي السوري الكبير قائلا: (لقد تعلمت في سن مبكرة ان اكتب عن الناس للناس، ان اكتب عن بعضهم لكلهم، لانه محال ان يقوى كاتب مهما تكن طاقته ومهما امتد به العمر ان يكتب عن الناس كلهم، وان يخرج من كتابته بشعور من الرضا لانه وفي الذين كتب عنهم حقهم).. واصبحنا نحن حملة الاقلام، ترجمانا عن ضمائرهم ولن يكون في وسعنا ان نبلغ هذا الشمول ، هذا التعميم الا بان نكتب بصدق، باصالة ، بجودة وتشويق وايقاع وامكانية خارقة على التحريض وهذا يتطلب فضلا عن الموهبة، الممارسة، العمل الاتقان، سعة التجربة، المشاهد العيانية والاحساس المرهف ، الحب البشري الذي لا حد له كما يتطلب ان نجرح قلبنا وان نسقي كلماتنا بالدم، فهذا الدم وحده هو خمرة الابداع وفي بذلنا له لابد من مجانية الشح والاقتصاد والحذر والخوف، ان الكون طبيعة ومجتمعنا هو القيثارة وتكون في مقارعة الشدائد فولاذ اسقي بماء الخلود الذي في متناول يدنا حين لا يكون الخلود همنا بل الفولاذ الذي نسقيه دون ان نسمح لافعى جلجامش ان تسرقه كما فعلت بعشبة البقاء على حافة البئر التي اغفى عندها. ولن تأتي هذا لمن يخاف الجوع ويرهب الشقاء ويحذر العاقبة ويجانف المغامرة فالوصول الى عدن لن يكون ميراثا لمن يتهيبون الطريق، لانه مكتوب ان الغذاء هو السلم الى السماء..
ترى هل هذا نداء الى الكاتب والمثقف والفنان واي انسان في حقله الابداعي.. ان يكون كالنبي في قومه للوطن وابنائه الذين تراق دماؤهم هنا وهناك.. وتخرب بيوتهم وتلوث مياههم وبيئتهم وهواءهم وتنفتح الحدود للارهابيين ان يعبثوا بامنهم ودورهم وتقتل رجالهم وترمل نساؤهم ومواجهة هذه المهمات هي لحملة الاقلام وصناع العالم الجميل بكلماتهم ودمائهم وعصارة فكرهم وعرقهم ودموعهم واهاتهم وتنهداتهم.. انهم انبياء شعوبهم وهم امراء الكلمة الحب والحياة….