الدكتور زاحم محمد الشمري
لم تكن صيرورة الحضارات التي ورثتها الشعوب والأمم، وخاصة الشعوب العربية في الشرق الأدنى، بمنعزل عن الأخلاق والحراك الاجتماعي الايجابي والقانون الانساني الذي ينظم حياة الشعوب على مستوى الافراد والجماعات، ويحدد العلاقة بينهما وبين النظام الإداري للدولة، المكلف بإدارة شؤون البلاد وتقسيم الحقوق والواجبات في اطار هذا القانون، الذي يحفظ الحقوق للجميع ويحتفظ بحق توجيه العقوبة الى من يسيء استخدامه او يتجاوز عليه. فالحضارات التي ورثتها الشعوب العربية في وادي الرافدين ووادي النيل لم تكن بمنعزل عن القيم الأخلاقية والقانونية.
من هنا نشأت العلاقة الجدلية بين الأخلاق والقانون والبناء الحضاري ألمجتمعي على مر التاريخ، ذلك لان الالتزام بالأخلاق العامة والقانون سينتج ثقافة مجتمعية واحدة يلتزم بها الجميع في البيت والشارع والعمل، حيث تجدها واحدة لدى جميع الافراد وفي جميع المجالات الاجتماعية والثقافية والعلمية والسياسية والاقتصادية يتم من خلالها انتاج حضارة يخلدها التاريخ كما ألفناه من ماضي الشعوب البعيد في أكد وسومر وآشور وبابل ومصر ألفرعونية، وكذلك الماضي القريب في أميركا وأوروبا ودول العالم الحديث الأخرى التي يشهد لها بالبنان.
أما ما نشاهده في الشرق الادنى بالوقت الحاضر وفي السنين المنصرمة من جوف التاريخ البعيد يشير الى ظاهرة صدأ وتآكل وتوقف وانحطاط عجلة التطور الحضاري والإنساني، والسبب في ذلك، كما نراه واقعاً مريراً ومؤلماً، هو غياب الأخلاق والقانون بسبب سوء استخدام السلطة في هذه المنطقة الغنية بمواردها الطبيعية والبشرية من قبل القائمين على الجهاز الاداري للدولة، والذي يمس حياة المواطن بشكل مباشر، الامر الذي ادى بالنتيجة الى تمرد الفرد على الأخلاق العامة وعلى القانون وعدم الالتزام به، اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ان الفرد يمثل احدى الادوات الرئيسية في تطبيق المثل الأخلاقية والقانونية، ذلك لانه لا يمكن تطبيق القانون بدون مثل اخلاقية ولا تود مثل اخلاقية حقيقة بدون قانون يقومها في ذات الفرد.
فحين تُفقد السيطرة على المجتمع بسبب غياب القانون او التحايل عليه بشكل مفرط لتحقيق مآرب شخصية من ناحية، واضمحلال الأخلاق العامة من ناحية أخرى، تنشأ ثقافات متعددة توازي عدد نفوس المجتمع الواحد، بحيث يسعى كل فرد لإنتاج ثقافة عشوائية خاصة به، يراها من وجهة نظره صحيحة وصحية ومؤثرة، يعمل جاهدا على ايجاد حيز لتطبيقها على ارض الواقع حتى ولو بالقوة.
ونتيجة للتنوع الثقافي العشوائي الذي انتجه الواقع المرير، الذي يفتقر الى البنية القانونية والطموح في التمدد وعدم قبول الآخر، ادى في نهاية المطاف الى ظهور صدامات حادة بين العشوائيات الثقافية وعدم قبول رأي الاخر داخل العائلة الواحدة والمجتمع الواحد، والذي يعني عدم قبول الفرد لثقافة قرينه في العائلة والمجتمع والانتقائية والمزاجية والمحسوبية في تطبيق القانون، وبذلك عطلت هذه الصدامات البناء الحضاري الأخلاقي والقانوني للدولة والمجتمع بشكل عام، وقادت الى فوضى البناء الحضاري في الشرق الأدنى، الذي لم تصل اليه الشعوب في الماضي لو لم تكن هناك قوانين تحكم سلوكيات الانسان وتؤطر نتاجه الثقافي والعلمي .
عليه لابد من ان تكون هناك صحوة وانتباه شديدين لهذه الظاهرة الخطرة، يرافقها العمل على اعداد برامج تربوية أخلاقية وقانونية ممنهجة للأجيال على مستويات مختلفة تبدأ من رياض الاطفال مرورا بالمدارس على اختلاف مراحلها وصولا الى الجامعات والمعاهد التي تمثل مرحلة النضوج الفكري والثقافي للفرد، وبذلك تستطيع الدولة ان تنتج ثقافة مجتمعية واحدة مؤطرة بالأخلاق الفاضلة والقانون، منتجة للحضارة وليس مستهلكة للثقافات والحضارات الاخرى المستوردة والعابرة للحدود، وبذلك نضمن البناء الحضاري الحقيقي على الارض وفي فكر الانسان السليم الخالي من معاناة وآلآم الروح والجسد.