مع عشرينات القرن المنصرم، تعرضت ارض مابين النهرين لنمط من “الاستعمار” ـ كان شائعا وقتها على مستوى المعمورة كظاهرة رافقت نهوض الغرب الحديث وراسماليته ـ مختلف كليا عن المتعارف عليه، فالمجابهة التي يؤرخ لها مع نزول الحملة البريطانيه في الفاو عام 1914 لم تأخذ شكل السيطرة المعتادة العسكرية الكولونياليه، التي تعذرت ودلت على الفشل مع ابتدائها، ماجعل الحملة العسكرية تتهيأ للانسحاب من العراق تحت وطاة ثورة 31 حزيران 1920 الامر الذي فرض على إدارة الاحتلال الإنكليزي، البحث عن، والسعي لابتكاروسيلة ملائمة يمكن عن طريقها الحفاظ على النفوذ البريطاني، فكانت الفبركة الكيانيه والمفهومية هي شكل التعامل، التي جرى التوصل لها على قاعدة “الحكم من وراء ستار” باصطناع حكم م “اهل البلاد” وهي الصيغة الابكر لما سمي لاحقا في الستينات ب “الاستعمار الجديد”.
ولم تكن حتى الصيغة المذكورة قابلة للتطبيق لولا توفر بعض الأسباب والعوامل المساعدة عراقيا، الامر الذي اضطلع به بعض من ينسبون الى “النحبة في زمن التردي”، سواء منهم ممن صاروا مادة الحكم “العراقي” وكوادره، او أولئك الذين اعتبروا انفسهم حداثيين وممثلين لماعرف ب ” الحركة الوطنيه”، بالاخص منها تلك الايديلوجية التي تبلورت في الثلاثيناتت من القرن المنصرم، وتجسدت في أحزاب وتيارات أهمها تلك : الماركسية، والقومية، والليبراليه.
وكانت القوى المذكورة قد استغلت عاملا أساسيا، لم بكم لوجودها ان يصبح ممكنا من دونه ذلك هو مايمكن ان نطلق عليه “تأخر النطقية الوطنيه”، الامر الذي هو واحدة من اهم معضلات العراق خلال تاريخه الطويل، فبلاد مابين النهرين كائنه بنيويا واليات وديناميات تاريخيه بما يتعدى القدرة المتاحة على الاعقال والاحاطة كما هي متوفرة للكائن البشري، ماقد جعل البلاد الجاري الحديث عنها، تعيش تاريخها بدوراته الأولى السومرية البابلية الابراهيمه، والثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، والثالثة التي تبدا مع القرن السادس عشر الى اليوم، وهي تنظر لذاتها بعين غيرها، او بحسب ماهو سائد من منظورات ورؤى مجتمعية أحادية ارضوية، الامر الذي رافق ظاهرة ثورة العشرين، وكان اهم ميزاتها كثورة وطنيه بلارؤية وطنيه، الامر الذي سينسحب على لاحقتها ثورة 14 تموز ،1958 عندما تدخل البلاد وقتها ومن يومها تاريخ التازم الأعظم، والانقلاب البنيوي الأهم، وتصير ديناميات واشتراطات الوطنيه العراقية الغائبة منذ اكثر من سبعة الاف عام، حاضرة وغامرة الالحاحية.
قبلها ومنذ العشرينات، كان على العراق ان يمر بطور من الفبركة الكيانيه والمفهوميه، مصدرها واسس وجودها، الغرب الحديث ونهوضه، ومارافق تاريخه الحديث من نموذج وتفكرات، وليس المبررات التي جعلت الظاهرة الحداثية بشكليها كمادة دولة او معارضة، مقتصرة على تعذر ظهور الوطنيه العراقية المؤجله حتى حينه، وحسب، فالعراق يوم وصل الاحتلال الإنكليزي، كان مايزال واقعا تحت اثر مفعول حال الانقطاع والتردي الملازمة لتاريخه بين الدورات وحالات الصعود الامبراطوري، التي هي خاصيته الازدواجية الرئيسية، ماكان من شانه الانعكاس على ماهو، او مايمكن ان يكون متوفرا من اشكال “نخبوية”، وجدت في الانتقال من العثمانيه الى الهيمنه الغربيه واشتراطاتها، وماقد اعتبرته بظل فقرها لابل قحطها الذاتي بمثابة انقلاب ونهضة، لااساس لها سوى الانعكاس الغربي ونموذجه المضاد للذات وحقيقتها.
وبالمقارنة على سبيل المثال بالحالة المصرية او الشامية، فان العراق لم يعرف الا الحداثة الايديلوجية الحزبية، فلم يظهر فيه من عرفوا ب “مفكري عصر النهضة”، ولم يكن هو مشاركا يمكن ذكره ضمن الموجه المذكورة ابتداء من الطهطاوي ومحمد عبدة، وصولا الى من عرفوا ب”العلمانيين”، مثل سلامه موسى وقرانه، والشخصية المهمة التي يمكن ذكرها هنا مثل “جعفر أبو التمن” اتصف نشاطة بالعملية، سواء ابان ثورة العشرين، او بعدها، وانتهى الى العجز والى حل حزبة “الحزب الوطني العراقي” المؤسس على يده عام ،1922 ليلتحق بالموجة الحزبيه الايديلوجيه بفرعها الليبرالي/ تيار الأهالي/، مسجلا حالة انتكاس وافلاس إزاء مهمه مستعصية، متفوقة بما لايقاس على القدرات والطاقة المتاحة، والمتوفرة للنخبة ونوعها والاشتراطات المحيطة بها.
بمعنى ان مايعرف ب”النهضة” وكما يقرر الايديلوجييون انفسهم، كانت شبه منعدمه في العراق(1) ابان الطور العثماني، الأخير من الاطوار البرانيه المتعاقبة على بغداد منذ سقوط عاصمة الدورة الامراطورية الرافدينيه الثانيه، ماقد جعل الحضور الغربي المباشر العسكري تحديدا، يتحول هو بالذات الى عامل”طلب للنهضة”، ملحا ومكرسا لنمطية وتفكرات الغرب الحديث، ومايتصل به وبنموذجه، وهو ماقد اصبح آلية يحفزها القصور التكويني الذاتي المنفصل عن الاليات الذاتيه، والراضخ لقوة مفعول الجانب الانحداري الانحطاطي منها ومايمكن ان يولده من توهمات ضمن ظروف بعينها اذا توافرت.
هذا الجانب يستجلب الملاحظة المتعلقة ببنيه وتكوين القوى المسماة “وطنيه”، بالاخص لجهة انعدام عنايتها بواقعها او ببنيتها التاريخيه والمادية الواقعيه، فالايديلوجيون اهتموا بالدرجة الأولى بافتراض وفرض عراق “حديث” مختلق، ركبوه على العراق من دون ايه محاولة تذكر من أي نوع، يمكن عدها، او اعتبارها من قبيل حتى مايعود الى اشتراطات التاقلم مع ماهو مفترض من متغيرات مواكبه للغرب وظاهرته، وإذ نحن نقرا “فهد” يوسف سلمان، او أي من الشبوعيين، واخرهم زكي خيري، او الليبراليين وبمقدمهم الجادرجي، فان مانتعرف عليه هو جزم اعتباطي يتحدث عن عراق راهن يفترض انه طبقي، انتقل فجاة وبمجرد ان حضر الاحتلال الإنكليزي، لان يصبح كيانا له صفات وخاصيات بنيوية تكوينه مرافقة لحضور الغرب عسكريا، وفي افضل الأحوال حضور “سوقه الراسمالية”، وبعض الصناعات البرانيه غير المتصله بالضرورات الموضوعيه العراقية، مثل السكك الحديد والنفط، مما قد انشأه الاحتلال لاغراضه الخاصة، ومايوافق مصالحه الاستغلالية ويسهلها.
والاهم من بين خاصيات الوطنية الايديلوجيه، انها ترضخ بلا أي تردد او توقف، للحتمية الجاهزة للغرب وصورته التي صار عليها اليوم، باعتبارها قدر العالم بغض النظر عن مستوى ودرجة ونوع واليات التكوينات الأخرى، خارج اوربا، في الوقت الذي جرى الإصرار على اعتبار الواقعه الغربية الحديثة حالة اطلاق، غير قابلة للمناقشه تستجلب حال ايمان لامعرفة، لابل تنفي المعرفة ومستلزماتها، علما بان ماننوه به كان يجري بمايخص العراق، في موضع من بين مواضع العالم بخصوصيات بارزه، وغير ممكن شطبها او تجاهلها حتى من قبل الغرب نفسه بالذات، حيث يكون محتاجا لتكريس مفهومه النمطي ضمن مسارات وسرديه التصير المجتمعي، والظاهرة المجتمعية التي تعود افتتاحيتها وبدايتها الممهدة الى ارض مابين النهرين، التي هي أيضا حالة قمة، وسطى وامبراطورية مشحونه بالظواهر الداله، وبمواضع التحري الواجب، بما يجعل من هذا المكان عينة كوكبيه اجبارية، اذا تهرب أبناؤها من تحمل مسؤولية التعرف على مكنونها، فانهم يثبتون وقتها انتماءهم لشكل من الممارسة، لابل الكينونة المتصاغرة، الدون، حتى مستوى الخضوع للغرب وهيمنته واستعماره.
ـ يتبع ـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يقول كامل الجادرجي:” لاشك ان المظهر الأول للحركة الوطنيه الحديثة في العراق ـ وقد كان مظهرا ضخما ـ هو ثورة حزيران 1920 ضد الاحتلال الإنكليزي.
وقبل الاحتلال الإنكليزي للعراق، واثناء الحرب العالمية الأولى، وخلال العهد العثماني، لم يكن هنال مظهر بارز لحركة وطنيه حقيقية في العراق. لقد كانت هناك فئات وطنيه صغيره، كما كان هناك افراد قلائل يحملون أفكارا وطنيه وقومية تنطوي على مناهضة الحكم العثماني، ولكنها كانت حركة ضعيفه غير منظمه، وكا ن مظهرها اكثر بروزا ماارتبط منها بالحركة القوميه العربيه التي نشات لها مراكز خارج العراق، في الاستانيه وبعض المدن العربيه، ولم يكن هنالك الا صدى ضعيف لذلك داخل العراق، وقد كان الوضع العام في العهد العثماني يتميز ببعد الناس عن السلطة، ذلك البعد الذي كان اكثر عمقا في الريف والقرى والبوادي” والجادرجي بالطبع لايكلف نفسه عناء التساؤل؟ اذن من اين جاء الوعي الذي جعل ثورة حزيران 1920 كمظهر “وطنيه ضخم” يوجد في حينه، وبمجرد بدء الاحتلال، فالجادرجي غير مهتم بسوى الوطنيه المستقدمه المستعارة من خارج المكان، عدا عن انه وامثالة معنيين فعليا ويتركز همهم على مصادرة ثورة العشرين والحاقها ب “وطنيتهم” التي لم تكن موجودة، ولم توجد الا بوجود الاحتلال. يراجع/ كامل الجادرجي/ مذكرات كامل الجادرجي وتاريخ الحزب الوطني الديمقراطي/ دار الطليعة ـ بيروت/ ص 20
فبركة عراق لم يوجد بعد؟/1
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا