غزة أرضٌ منكوبةٌ وقلوبٌ مكلومةٌ
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
يجب على المسؤولين الفلسطينيين، وعلى جميع المنظمات الدولية، السياسية والإنسانية والحقوقية، أن يعلنوا جميعها بوضوحٍ وبيانٍ، وبمسؤوليةٍ أخلاقية، وعدلٍ قيمي بعيداً عن السياسة وتلاوينها، أن قطاع غزة أرضٌ منكوبةٌ منذ زمنٍ طويلٍ، كما أن قلوب أهلها وساكنيها مكلومةٌ حزينةٌ.
وعلى المجتمع الدولي كله، بما فيه سلطات الاحتلال الإسرائيلي، أن يعترف بهذا الواقع، وأن يتعامل مع هذه الحقيقة، وأن يقر بها ولا يتجاهلها، مع ما يترتب على هذا الإعلان من إجراءاتٍ دوليةٍ متعارفٍ عليها في مثل هذه الحالات، إذ أن للأراضي المنكوبة قوانينها وأعرافها، ولها أحكامها وعندها تشريعاتها، ودول العالم كله تعترف بهذا الوصف وتتعامل معه، وتتسابق في نجدة ومساعدة المناطق المنكوبة، بما فيها الدول المتحاربة، والسوابق على ذلك عديدة، والأراضي المنكوبة عالمياً كثيرة.
هذا ليس ادعاءً ولا مبالغة، ولا هو بروباغاندا سياسية بقصد استجرار العطف والشفقة الدولية، ولا هو جزء من الحرب الدعائية يتقنها الفلسطينيون عامةً وسكان قطاع غزة خاصة، بل هي حقيقة غزة المرة في أوضح صورها، وأبلغ معانيها، وأشد بؤسها، فهي تعيش البؤس والفقر والجوع والبطالة والحرمان والحصار، والاحتلال والاعتقال والقتل، والتهميش والإهمال والمعاناة، والعالم كله يعرف هذه الحقيقة ويدركها، لكنه صامتٌ لا ينطق، وجامدٌ لا يتحرك، وباردٌ لا يبالي، إذ أن الطرف المدان، والعدو الذي يستهدف قطاع غزة، إنما هو الكيان الصهيوني، الذي لا يقوى على المساس به أحد.
كثيرةٌ هي المظاهر والشواهد التي تؤكد بأن غزة أرضٌ منكوبة، والتي لا يستطيع أحدٌ أن ينكرها، ولعل سكان غزة أنفسهم يعجزون عن تعديدها، وقد ملوا من تكرارها وتردادها، وليس أولها الانقطاع شبه الدائم للتيار الكهربائي، الذي ينعكس على كل جوانب الحياة اليومية، الطبية والاقتصادية والمعيشية، والذي يتحكم فيه الكيان الصهيوني والجوار، حصاراً وامتناعاً عن تزويد محطته الوحيدة اليتيمة بالوقود اللازم لتشغيلها.
وقد أعلنت الأمم المتحدة عن أن قطاع غزة يعتبر من أكثر مناطق العالم اكتظاظاً بالسكان، بعد أن أعلنت احصائيات شبه رسمية، أن عدد سكانه قد بلغوا في العام 2015 قرابة 1,9 مليون نسمة، وأنه سيتجاوز عتبة ألــــ 2,5 مليون نسمة في العام 2025، وذلك في ظل أوضاع اجتماعية واقتصادية بالغة السوء والتعقيد.
كما أعلنت أن نسبة البطالة في قطاع غزة تعتبر واحدة من أعلى النسب في العالم، إذ بلغت أكثر من 43% من إجمالي عدد السكان، وأن نسبتهم بين الفئة العمرية 20-24 تتجاوز ألـــــ 70%، في حين أن النسبة الباقية تصنف في أغلبها ضمن البطالة المقنعة، ذلك أن الكثير منهم يعملون برواتب متدنية جداً، وفي أعمال وضيعة بقصد الربح والتكسب، وأما أصحاب الشهادات العلمية، وذوو الاختصاصات المختلفة، فإن أغلبهم يعمل في غير تخصصه، وجميعهم يتلقون رواتب ناقصة وغير دورية، في الوقت الذي لا تفي بحاجاتهم الضرورية إذا انتظمت واكتملت.
وقال التقرير السنوي الصادر عن منظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “الأونكتاد”، مطلع الشهر الجاري، في أوضح تقريرٍ له، إن غزة قد تصبح منطقة غير صالحة للسكن قبل عام 2020، خاصة مع تواصل الأوضاع والتطورات الاقتصادية الحالية في التراجع، ويعتبر تقرير الأونكتاد من أكثر التقارير المختصة نزاهةً وعلمية، بعيداً عن السياسة وتدخلات الدول والحكومات.
وزاد في الطين بلة، إعلان الأونروا عن عجزها عن مواجهة متطلبات اللاجئين الفلسطينيين، وتقليص خدماتها، وتراجع المساعدات التي تقدمها لهم، وهم اللاجئين فوق لجوئهم، والنازحين من بيوتهم من جديد، إثر العدوان الإسرائيلي الأخير عليهم، ذلك أن الدول المانحة، والتي اعتادت أن تدفع حصتها لهذه المنظمة، قد امتنعت عن الأداء، وتراجعت عن الالتزام.
ويصنف قطاع غزة بأنه من أكثر المناطق شحاً في المياه الصالحة للشرب أو الري، فهو يعاني من شح الأمطار، ومن قوانين الاحتلال التعسفية التي تحول دون استغلال الفلسطينيين لمياههم الجوفية، وقد تفاقم الأمر سوءاً نتيجة لزيادة نسبة تملح التربة، وعدم تجدد المياه الجوفية، الأمر الذي جعل الزراعة متعذرة أو غير ناجحة، ومؤخراً قررت الحكومة المصرية ضخ كمياتٍ ضخمة من مياه البحر المالحة، على طول حدودها مع قطاع غزة، والتي تمتد لأكثر من أربعة عشر كيلو متراً، وذلك في إطار سياستها الهادفة إلى محاربة الأنفاق ومنع الفلسطينيين من إعادة حفرها أو تشغيلها.
أما ما دمره العدوان الإسرائيلي في عدوانه المتكرر على القطاع فما زال ماثلاً أمام الجميع، بيوتاً مدمرة، وشوارع مخربة، ومصانع متوقفة، ومعامل عاطلة، وآلاف الأسر بلا مأوى ولا مسكن، يحرقهم الصيف بحره، ويمرضهم الشتاء بقره، وأطفالهم لا يذهبون إلى المدارس إذ أنها محتلة باللاجئين، ومسكونة بالمدمرة بيوتهم، ممن لم يبق لهم الاحتلال على سقفٍ يأويهم، ولا على جدران تقيهم وتحميهم.
وآلاف الجرحى والمصابين، وكثيرٌ منهم أصبحوا من ذوي العاهات المستديمة والأمراض المستعصية، إذ بترت سيقانٌ وأطراف، وأصابت شظايا القصف الأعمدة الفقرية، فأصيب العديد بالشلل الجزئي أو الكلي، ومنهم من أصيب بالعمى بعد أن تهتكت شبكاتهم وتضررت عيونهم، فأصبحوا جميعاً عالةً بلا دخل، وعاطلين بلا عمل، يحتاجون إلى رعاية، وإلى من يقوم بهم، ويهتم بشؤونهم، في ظل الحصار والتضييق والحرمان وتردي الأوضاع المعيشية.
ولا يخفى على أحدٍ في قطاع غزة وخارجه عشرات الحوادث اليومية، وهي حوادث مبعثها اليأس ودافعها العجز، إذ يشهد القطاع حالات انتحارٍ يأساً وإحباطاً، وأخرى تسمماً وحرقاً احتجاجاً واستنكاراً، وما حوادث الغرق التي يبتلع فيها البحر عشرات الفلسطينيين سنوياً، ببعيدة عن هذه الأجواء المحزنة الكئيبة التي يشهدها القطاع وأهله.
هذه الظروف المأساوية وغيرها دفعت بالمئات من سكان القطاع، لأن يبيعوا ما بقي عندهم من متاعٍ وهو قليل، ليركبوا البحر، ويغامروا بالهجرة والسفر، بحثاً عن لجوءٍ وأوطانٍ جديدة، رغم أنهم يرون المئات يموتون غرقاً، وغيرهم كثير يفشل في الوصول، ويخسر ما أدى أجراً ووفر معيشةً.
ليس مثل قطاع غزة أرضٌ منكوبةٌ في العالم، منكوبةٌ بالاحتلال الغاشم، والعدو الغاصب، والمحيط الظالم، والمجتمع الصامت، والأهل الضعفاء، والفصائل المتشاكسة، والسلطة المتشاغلة، والمسؤولين المهمومين بغير الوطن، والعاملين لغير صالح شعبه، فهل يصغي لشكواهم أحد، ويستجيب لنكبتهم أهل النخوة وأصحاب المروءة، أم أن صرختنا في واد، فلا يستجيب لها غير الصدى.