غاستون باشلار
وظاهرة أحلام اليقظة
سعدي عبد الكريم
يعترف (غاستون باشلار) صراحةً بأنه يمتهن حرفة متواضعة، وهي البحث عن الصورة أو الصور التي تحتضن في محيطاتها الارتكازية المعلنة قدرا من الجاذبية بما يكفي لتثبيت وترصين أحلام اليقظة ، ويبدو انه راح يغازل أحلامه تلك ليس وفق سطحية النظرة الواقفة للبلادة ، والامتثال إزاء مجمل تداعياتها الآنية المؤقتة ، او باستدعاء الماضي للاستلال من حيثياته القديمة ومواطنه الآسرة ، في تحديد ملامح تلك الصورة او الصور ، التي يتخيلها او يفترضها لتحقيق ظاهرة أحلامه اليقِظة.
بل يأتي كل هذا الفرز الناشط من رحم المخيلة في مهمتها للدعوة الاستفزازية لمجمل الحواس المجموعة في بوتقة عمل واحد ، لإنتاج حلم اليقظة ، مع ملاحظة ان عملية الكف عن الإبصار المستمر والتحديق اللاهث خلف الصور المتلاحقة ، من شانه ان يخلق تلك الميزة الدافعة للحلم ، وان نصرف آذاننا عن السمع ، وان لا نصغي بالمرة للأصوات المتعاقبة ، عندها يمكن لنا ان نحلم ، ويمكن للحالم ان يصرف قواه الحسية الدفينة لإلقاء مخيلته باسترخاء ، داخل بون الحلم ، لتحقيق ملاذاته الجمالية ، ولكن هذه الحقيقة المؤقتة عند ( باشلار ) ، تحدث في حاضرة اليقظة .
وحينما نتوقف في حضرة مناخات تجميل الذات وتكوينها عبر المعرفة الصرفة العلمية والأدبية والفنية فان ( باشلار ) يقف إزاء ما يخص هذه الموضوعة الحساسة الدقيقة ،موقفا ( انويا ) مغاليا ، حيث يعتبر نفسه فيلسوفا ، ويؤكد ان على الفلاسفة ان يفكروا قبل ان يقرءوا ، ومن هنا في رأينا ، تأتي ظاهرة الالتزام الحرفي الفاعل في الفصل بين القاري المنتج المستنير ، والقاريء البسيط العادي ، لان القراءة كما يعلنها التفكيكيون هي إساءة للنص ، والقراءة التالية هي إساءة أخرى له ، وبالتالي فان تراكم القراءات هي محض تراكم إساءات للخطاب الأدبي ، لتفضي هذه الإساءات بمجملها الى قراءة جديدة مستنبطة أصلية ذات دلائل جمالية ، وقرائن مخيلاتيه في إطار إعادة تركيب النص مرة ثانية ، بعد تفكيك آلياته وأدواته الحاضرة في آلية متنه الخطابية .
يعتبر ( غاستون باشلار ) من الفلاسفة الظاهراتيين المعتدين بذواتهم ، ويعتبر نفسه حالما كبيرا ، حيث راح يحلم بإعادة الاكتشاف بدهشة فاعلة عالية في جسد كل نص يرى فيه من خلال بصيرته الفلسفية ظلا او عتمة او ضياءا كي يشير الى فحولة رمزيته أي ( النص ) الزمكانية العالية .
إن الذائقة (الباشلرية) تعتد بذاتها كمفسرة لحلم اليقظة باعتباره الخلاص الحتمي لكل هذا الهوس الكوني العلمي والمعرفي الذي سيأخذنا بالحتمية الى الانفلات من سيطرتنا على الحواس التفسيرية للظاهرة فهو يدعو لإغماض العين حين ترى محاجرها السنة النار ، وبذات لحظة الإغماض هذه ، علينا ان نحلم أحلامنا اليقظة المؤجلة .
ان هذا التموضع التبادلي او التنافري بين الحلم كمفسر لحظوي لايعازات طارئة مُتخيلة تزور الذهن البشري عبر النوم ، لاستدعاء الماضي او استشراف المستقبل ، او في تحقيق بعض الملذات المؤقتة الجسدية ، او في تأجيج المطامع الآنية من الطموحات الذاتية في التقدير الاخصب على مشارف الذهن ، ولا يُعتد بهذا الفهم بعد مرحلة الاستيقاظ ، ويبدو ان هذا المناخ التبادلي بين الأحلام بمفهومها الاستنباطي اليومي السائد ، وبين أحلام اليقظة ( الباشلرية ) فقد راقت هذه الومضة التفسيرية للكثيرين من الشعراء والمسرحيين فراحوا يمزجون بين ألوان معارفهم داخل ذلك الملمح الذكي لتعزيز ثوابتهم ومشاريعهم الهوسوية بالمفردة والكتلة والتشكيل واللغة والحركة ، وملامح الجمال ، فراق لهم هذا التجوال الخصب في رحاب أحلام اليقظة ، من اجل تحقيق هذا النمط من أنماط الخطاب الادبي .
نقرأ في النص المسرحي الموسوم ( اللاهث ) على سبيل الاستدعاء التجريبي التوكيدي الآني :-
اللاهث / علينا ان نغمض جفوننا قليلا ، لكي لا نُبصر كل هذا الخراب
ومدارات هذه الكينونـــات المتحركة أمامنا ، لنترك حيزا
لحواسنا ، ليكون باستطاعتها أن ترى وبوضوح ، ما هو
جميل وأخاذ وممتع ، من خلال مآقي أحلام يقظتنا ) ( 1 )
ولو اقتطعنا هذا الجزء من قصيدة للراحل ( نزار قباني ) سنلحظ بانه أناخ بقوافي قصيدته ( اعترافات نمر من ورق ) ليحل ضيفا شفيفا في حضرة تلك الأحلام القديمة التي ما عادت بذات الفاعلية الحاضرة في زمن القصيدة حين يقول :-
لا تطلبي مني الصهيل
فان خيلي من زمان مستقيلة
أني حصان قد أحيل الى المعاش
وصرت أخشى من مواجهة السباقات الطويلة
…
وأحلامي القديمة مستحيلة
هنا يتنصل (القباني) من أحلامه القديمة التي كانت في مكان آخر من قصائد الديوان مليئة بالفحولة وأحلام اليقظة الطرية والمفعمة بالمجاز اللغوي الشعري الحالم :-
أنا الذي جعلت من حبيبتي
مليكة تسير في ركابها
الأشجار .. والنجوم .. والسحاب .. والأحلام ( 2 )
لقد نهلت المعرفة والفنون بجل تصانيفها من هذه الفكرة ( الباشلرية ) اليقظة واستطاعت ان تترجم أحاسيسها ومدركاتها الفاعلة في حسد النص او الخطاب الأدبي لتحيله الى لغة حلم يعيشها الكاتب في لحظات يقظته المفرطة والمتخمة بالحسية العالية ، والصور الفنية المبهرة .
ولد ( غاستون باشلار ) الفيلسوف والشاعر الكبير في فرنسا في عام 1884 حصل على شهادة الليسانس في الرياضيات عام 1912 ، وأبان الحرب العالمية الأولى التحق بالخدمة العسكرية وأمضى ما يقارب الأربعة سنوات في جبهات القتال ، بعدها عمل مدرسا للعلوم الطبيعية ، وبعد الحرب وتحديدا في عام 1927 حصل على شهادة الدكتوراه وقام بالتدريس في جامعة ( ديجون ) حتى عام 1940 ثم انتقل الى التدريس في جامعة السوربون بدرجة أستاذ فلسفة ، حتى حانت ساعة رحليه في عام 1962 .
نهل ( غاستون باشلار ) معارفه الفلسفية من العديد من الفلاسفة الكبار الذين سبقوه أمثال ( ارسطو ) الذي اخذ عنه مفهوم فلسفة العناصر الأربعة ( النار- التراب- الماء – الهواء ) وأخضعها للتحليل من خلال مؤلفاته العديدة ( التحليل النفسي للنـار ) ( والأرض وأحلام الإرادة ) و ( الماء والأحلام ) و ( الهواء والأحلام ) واوجد ( باشلار ) العلاقات المُتخلية ، بين ماهيات تلك العناصر الأربعة .
تعارض مع الفيلسوف ( ديكارت ) في نظرته العقلانيته المحضة , وعرف الروح بشيء من العقلانية المنفتحه والمتطورة والبعيدة عن الانغلاق العقلي.
يُعد ( باشلار ) مؤسسا فاعلا للفلسفة ( الظاهراتية ) (Phenomenology) وقدم أفكاراً متميزة في مجال ( الابستمولوجيا ) ( Epistemology ) حيث تمثلت مفاهيمه في العقبة المعرفية والقطيعة المعرفية ، والجدلية المعرفية ، والتاريخ التراجعي واعتبر ( باشلار ) الظاهراتية منهجا نقديا للدراسات الأدبية وأبدع في خلق مناخا ديناميكيا مميزا ورائعا في اشتغالاته وفق منظومة ( أحلام اليقظة ) ومن المعروف ان هذا المفهوم يجمع بين الإدراك الحسي وبين الإبداع المعملي ، الذي يجعل العالم في مناخات علائقية متطورة فاعلة بين الفاعل والموضوع ، واخذ عن ( ديكارت ) أيضا فكرة التسامي عبر التأكيد على الطابع المتسامي للخيال المحاذي او الفاعل في حركة التجربة ونجاحاتها وعلى صعيد الجانب النفسي فقد تأثر ( باشلار ) بالعالم والفيلسوف ( فرويد ) أيما تأثير ، فقد هيمن الأخير على دراساته وبخاصة فيما يخص جانب التحليل النفسي ، وقد برزت قدرة ( باشلار ) في توظيف فكرة ( اللاوعي الجمعي ) في حقل التحليل النفسي ذات المناخ الأوسع رحبة من فكرة ( اللاوعي الفردي ) وقد وجدت هذه الفكرة الديناميكية لمفهوم الإبداع في الحياة ، ترحيبا في فضاءاته الفلسفية الحالمة والتي استقاهـا من الفيلسوف ( سي . جي . يونغ ) وطورت تصوراته التي تحولت من الخيال المادي الى الخيال الحركي ، التي تتجاوز نمط المادة الجامد ، لتحيلها الى نمو حركي إبداعي مستمر ومثمر داخل المنظومة الحية لحركة الحياة .
ستظل فكرة ومفهوم ظاهرة أحلام اليقظة عند ( غاستون باشلار ) بوازعها المنتج الحقيقي داخل متن الخطاب الأدبي والمعرفي والعلمي والفني ، بمجمل تنوعات طروحاته المذاهبية والأسلوبية والتنظيرية ، مناخا خصبا ، ومرتعا فلسفيا تأميلا ً ، مقرونا بشفاعة النضج الإبداعي ، الذي يقودنا حتما ، الى تحفيز ملكاتنا الحسية الخاملة لإحالتها الى مدركات ومجسات التقاطية فاعلة ومتفاعلة مع الجسد المجتمعي الإبداعي الحالم بالانعتاق من الحيف الإجمالي الفائت ـ لأحالته الى أشكال وصور مخملية قابلة للديمومة والانتعاش وسط أحلامنا الحقيقية الفاعلة والمؤثرة على صعيد جميع المسميات والفضاءات الإبداعية الحالية والقادمة .
الهوامش :-
•(1)نص مسرحية (اللاهث) تأليف سعدي عبد الكريم -أخراج د.ضياء كريم ارزيج 1978 .
•(2) ديوان (الأوراق السرية لعاشق قرمطي) نزار قباني- منشورات نزار قباني-بيروت.