عبير حميد مناجد
هم موجودين في تفاصيل حياتنا كما نحن موجودون في تفاصيل حياتهم. هم مهمين لنا كما نحن مهمين لهم. من غير العمال لاتكتمل حياتنا من غيرهم وغيرنا لاتكتمل الحياة. ويخطيء من يظن ان عيد العمال في الاول من آيار كل عام . هو عيد العمال من ذوي المهن الكبيرة والرفيعة فقط , وليس عيدا للمهمشين من العمال وذوي المهن التقليدية البسيطة التي قد نمر من خلالهم وهم يعملونها دون ان نبدي اي اهتمام يذكر بهم , بل قد نظن انهم يزعجوننا بضوضاءهم حين ينجزون اعمالهم. الا انهم يقدمون لنا خدمة كبيرة ونحن نعرف ذلك وان انكرناه. فعامل النظافة, ( والسباك), والأسكافي, والبستاني, وعمال المصابع, وعمال البناء, و(الخلفات) و(العمالة) واعمال الكهرباء, والبريد, وتحصيل الأجور (الجابي)… وغيرهم ممن ينظمون تحت فئة العمال التقليدية الفئة العاملة الكادحة التي تخرج للعمل مع تباشير الصباح ولاتعود الى بيوتها الى حين تقترب الشمس من المغيب. هم بالحقيقة من يعطون للحياة نكهة ومعنى جذاب .. فعلى صيحات عمال النظافة (زمان) كنت استيقظ للذهاب الى المدرسة, وكنت اظن انهم يعكرون لي مزاجي وانا استيقط على صيحاتهم ونكاتهم وحديثهم المتبادل مع والدتي ومع الجيران, يتبادلون التحيات والسلامات وكأنهم من بقية العائلة. ثم تشرع امي في عمل الشاي والفطور لهم وكنت اتمايز من الغيظ وانا اراها تهتم بهم وبأفطارهم قبلي انا واخوتي.. وحين ترجع(صينية ) الفطور وقد التهموا القليل منها كنت اعاتبها سأتاأخر على المدرسة لأنك تهتمين (بحضراتهم) اولا وكانت تجيبني كالعادة (خطية تعبانين .. طالعين من الصبح ويلفون على كل المحلات..). كانت تتعاطى مع هذه الفئة من الناس بالكثير من الاحترام, وهذا ما كنت استغربه وانا صبية صغيرة ولا اتفهمه بل كنت ارى ان كثرة اهتمامها ب(الزبال. والحدقجي. وساعي البريد, ومن يبلطون الشوارع, او يصلحون الكهرباء..) مبالغ فيه وليس له داع لأنه يعرضني للأحراج امام صديقاتي. حين يمرون لأصطحابي الى المدرسة ويرونها تتجاذب الحديث مع أحدهم عن أحواله وأحوال أهله. وما اذا كان جائعا او يريد شرب الماء. وغيرها من الاحاديث الموجزة التي لا تاخذ من وقت عملهم الكثير. الا انها تأخذ من وقتي وتحدث عادة مع موعد قدوم صديقاتي لأصطحابي الى المدرسة . واظل افكر دائما بالتبرير الجديد الذي ساقدمه لهم عن سبب تعاطفها مع هولاء البسطاء. وحين كبرت كانت الدنيا قد تغيرت والكثير من المهن التي تعايشنا معها انقرضت. او لم تعد موجوة كالسابق, كما ان طريقة تعامل الناس مع ما بقي منها اختلف. فلم يعد احدا يتكلف عناء الاهتمام بهم او فتح اي حديث ولو عابر معهم, ناهيك عن ان يفكر بتقديم الفطور او الغداء لهم من ناحيتهم هم ايضا تغيرت ظروف عملهم, لم يعودوا بسطاء الحال أغلبهم صار يملك من المال الكثير. علاوة على مايجبرون الأهالي على دفعه, وطريقة احدهم في النظر الى عمله تغيرت. صار يعامل الآخرين( الند بالند), وهذا جيد ولكن ليس بالحدة وبالعدوانية التي يبديها بعضهم . كما ان البعض منهم لم يعد يراعي الله في عمله ولا يخلص في اداءه ففي حين كانت الطرقات والشوارع زمان نظيفة ويتضح من خلالها جهد عمال النظافة المبذول . صرنا على سبيل المثال , نجد( الأزبال) على حالها رغم ان عمال النظافة يمرون اكثر من مرة بجانبها دون ان يتكلفوا عناء رفعها, ويطالبون الاهالي بأن يرفعوها بانفسهم لأن عملهم لايتظمن الشوارع فقط البيوت ,وكذلك السباك او الحداد فلم يعودوا يقدمون الخدمة الجيدة مقابل المال. فكم من مرة يجب ان تدفع لكي يصلحو لك حنفية مثلا او انبوب او مغاسل تتسرب منها المياه ا حيانا تدفع لتصليح عطل بسيط مايوازي ماتشتريه جديدا وا كثر. اختلف الزمان والمكان والكثير من تقاليد زمان (الحلوة), الا ان عيد العمال ظل صامدا يذكرنا بهم, وبأهمية وجودهم في حياتنا رغم كل السلبيات التي تعترض مهنهم وبعض النماذج السيئة التي قدمت صورا سلبية عنهم, مازال العمال مهمين لكل حضارة في العالم بل هم مقياس التحضر والتطور للبلد, فالزائر او السائح لاينظر الى الزوراء وكبار الموظفين وسياساتهم ليقيم البلد او الدولة اولا. بل الى فئة العمال فيها هل يقومون بواجباتهم فيها على احسن مايكون او على الشكل المطلوب في اقل تقدير, بداء من اسلوب سائق التاكسي ونطافة الشوارع والمباني التي قام بها عامل النظافة الى تعامل عمال البناء في الشوارع, وكيف يفسحون للناس المجال ريثما ينتهون من اعمالهم, ولا يخنوقون المرور ويبعثرون مواد البناء بفوضى تحيط بالمكان كله. مرورا بعمال المصانع والشركات كيف يجعلون من ساعات عملهم وقتا مثمرا, مخلصين فيه العمل للوطن والمواطن بلا غش او تسويف او اوقات مستقطعة واجازات وقتية لا ضرورة لها ,الا تمضية الوقت على حساب العمل مرورا بأحترام كل عامل وموظف لنفسه ولمواطنه ومسؤوليه, من خلال لغة التحاور والتوضيح فالكثير من العمال يذهبون للعمل في مكان ما او منطقة سكنية دون ان يتكفل احدهم عناء توضيح طبيعة العمل الذي سيعملونه؟ وكم سياخذ من الوقت؟ ويكتفي اذا سأله احدهم بأن يقول اسأل البلدية, او اذهب الى فلان فهو المسؤول, او الجواب الشهير لا اعرف انا عبد المأمور. وعلى العكس هناك نماذج مشرفة ومبعث فخر في كل عمل او فئة عمالية شعارهم (سوي خير وذب بالشط). فليس مهما عندهم الا انجاز العمل على احسن مايكون, ووفق السلامة المهنية العالية وهم مهذبين يردون التحية, ولا يزعجون الاخرين بأصواتهم العالية اثناء العمل, ويغضون الطرف ولا يتدخلون فيما لايعنيهم وحين ينتهي العمل, يعيدون كل ما اشاعوه من فوضى وينظفون المكان ويغادورون دون ان يشعر بهم احد. ان مقياس التحضر اليوم يقوم على أكتاف هؤلاء اولا وكيف تهتم الحكومة بهم كأحد أهم طبقات المجتمع وليس أدناها هي مسؤولة عن توفير العيش الكريم لهم ورفع نسبة دخلهم كباقي فئات المجتمع الاخرى وان لايتم اهمالهم واهمال احتياجاتهم وانشاء نقابات عمالية متخصصة وكفؤة لمتابعة شؤون حياتهم وكل مايتعلق بمهنهم .( ليتها تفعل), وتنظر لهم بعين الأحترام والتقدير والمنونية كما افعل كما افعل انا اليوم. بعد ان ادركت ووعيت ان امي كانت على حق, وكانت بتعاملها الأنساني الراقي معهم, انما تسبق عصر الحكومات العراقية المتعاقبة التي اهملتهم طويلا(خاصة), كما اهملت كل طبقات المجتمع العراقي وفئاته ( عامة), تحية لعمال العراق والعالم في يومهم المجيد ونتمنى لهم الصمود لغد افضل واكثر اشراقا.
عيد العمال…كل عام وانتم بخير