عبدالامير الركابي
ففي بلادنا، او في مجال التوحيدية التاريخية، لايقوم النظر للتاريخ، ولا يتمثل دور التاريخ من خلال الثبوتية الوقائعية، وقد دللت التجارب مرة بعد مرة، ان هذا ليس هو طريق المفهوم الغيبي او علم الغيب للتاريخ:”الم * ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلوة ومما رزقناهم ينفقون *” ــ البقرة 1ـ 3 . ولقد فعل الاسرائيليون منذ احتلوا فلسطين كل شيء، ونقبوا ارض فلسطين شبرا شبرا، بحثا عن شواهد تثبت ماهو وارد في التوراة، فلم يجدوا لاهيكل سليمان، ولااي اثر من اثار بني اسرائيل.
ويقول علم الاجتماع الديني، بل هو يصادق على ان النص الديني، لايقاس بصدقه او كذبه، باستناده الى حقيقة ملموسة، او عدم استناده لها، انما يقاس بمدى فعاليته بين البشر، ومدى ايمان الناس به، ومن ثم وزنه كقوة فعل وتاثير حياتي وايماني، واذا تحرينا عمل الانبياء ودورهم، فاننا سنتعرف على ” علم ” يتطابق والشروط التي يعبرون عنها، ففي منطقتنا يتم التعبير عن التاريخ ومساراته والياته وقوانينه، حتى الان على الاقل بالحدس والالهام، بينما علم التاريخ الغربي يقول ” لاتاريخ بلا وثيقة “. وهو مايصدقه الاستاذ احمد الكاتب، ففي موضع حضارت طينية مضطربة، او رملية صحراوية، لاتثبت الوثيقة ولايمكن استجماعها في العقل، بالمقابل فان المنطقة لاتسير من دون محركات ودوافع، يحسها نفر من الاحياء، ويملكون القدرة على التعبير عنها، وهؤلاء هم الانبياء الذين يظلون يناضلون من اجل نشر الرؤى الكبرى، لهذا سادت خلال عشرات القرون بيننا، الثقافة والمفاهيم النبوية الالهامية.
فلنأت من هنا الى مسالة “المهدي”، ولنر اذا كانت تتفق مع القوانين والحقائق الخاصة بهذه المنطقة، اي منطقة التوحيدية التاريخية، ونابعة من قلبها، وتنتمي لايقاعها وخصائصها، ام انها فبركة نجمت عن مازق تاريخي، تعرض له احد التيارات، وبالتجاوز على مسالة الوجود الجسدي للامام المهدي، لنسال الاستاذ احمد عن مصدرهذه الفكرة، وكيف وجدت، ومن اين جاءت وانبثقت، ثم لنساله اذا كان يعتقد مثلا انها فكرة او ابتداع عبقري او لا، ومارأيه بثباتها على مدى قرون، واستمرارها حية باقية الى اليوم، ومن ثم هل يعتقد ان هذه الفكرة اعلى قيمة بكل المقاييس، من فكرته عن الامام المهدي، ام ان فكرته هي الارقى والاكثر فعالية وقيمة.
لنجر مقارنة بين هذه الفكرة، وبين اليهودية او المسيحية، وماراي الاستاذ احمد، اذا جاء اليوم من يضع كتابا يقول / هذه الكتابات موجودة فعلا / بان المسيح لاوجود له، او ان موسى هو اسطورة عراقية، كتبت عن شخصية واقعية، وضعها عزرا في التوراة متاخرا في بابل. فهل هذا القول او الراي، حتى لو اثبت بالوثائق، سيغير من الحقيقة شيئا، وهل سيجعل اليهود يتراجعون عن دينهم، او المسيحيين يتركون مايؤمنون به، ويهدمون كنائسهم. لن نقول بسطحية الدوافع المحركة للاستاذ احمد، ولن نجادل بشان جدوى ماقاله بخصوص الامام المهدي، ذلك لاننا نعلم علم اليقين، بان ماقاله لن يغير قيد انمله في قناعات من يقتنعون بفكرة المهدي، وان الاستاذ احمد الكاتب، وعشرات غيره من الكتاب، وان جاءوا بالدلائل التي يرونها، على عدم وجود شخص في التاريخ اسمه محمد بن الحسن العسكري، فلن يغيروا في الامر شيئا على الاطلاق. وهذا قد يعتبره الاستاذ احمد، او اي عقلاني مادي دليل تخلف، ونتاج عقلية متاخرة، الا ان مثل هذا الحكم ايضا، لاقيمة له، لانه حكم تعسفي وناقص، ولاينظر بعقلانية حقه الى التاريخ وحقائقه المعاشه وسيروراته الفاعله.
ماذا نسمي المسيحية او اليهودية او التشيع المهدوي، اليست هذه ابداعات تاريخية كبرى في التاريخ الانساني، وتيارات هي الارسخ والافعل في الوجدان الجمعي، الا تدلنا هذه على علم وعلى نمط ممارسة فكرية وروحية، ماتزال هي الاوسع انتشارا وتاثيرا في الوجدان الانساني، وكيف ياترى حدث لهذه التيارات ان تحققت، ومن اعطاها هذا الزخم وقوة البقاء والديمومة والصمود لعوادي الزمن ؟ لاشك بان مانراه امامنا ومانلمسه ونعيشه من حضور لهذه التيارات، يفرض علينا ان نقر بان هنالك علم هو علم الغيب، وان هذا العلم له قوانين، وان هذه الحركات الكبرى والتيارات، هي نتاج عمل خلاق ومبدع لاشخاص، في ظروف بعينها كانت مؤاتية، وساعدت على خلق اسس قدسية للنص وللرموز، وهذا كله لا يشترط حتما ثبوتية الوقائع والاشياء والشخصيات، وعليه فان اولئك الذي صنعوا فكرة المهدي، سواء كانوا يعلمون بعدم وجود شخص اسمه المهدي، او انه كان موجودا بالفعل، فانما اوجدوا حركة ثبتت للتاريخ، وعاشت وتعيش الى اليوم، بناء على عوامل لاعلاقة لها، لابل هي تتعدى وجود الاشخاص المادي وتعيش به، فالفكرة التي تشيع وتتحول الى تيار حي وباق، هي فكرة نابعه من ضرورة. وتلبي حاجة موجودة لدى الناس، وعبقرية من يلبي تلك الضرورة ويجسدها، لاتحتاج قطعا الى وسائل مادية فقط، كما ان البشر عموما، المهيئين للايمان بالفكرة، يصنعون رمزها، بينما يتحول هذا الى حقيقة بحسب الحاجه والمقتضيات التاريخية، وبالمقارنة فان محمد بن الحسن العسكري، حي وموجود اكثر مني ومن الاستاذ احمد، الذي ينفي وجوده، فماهي قيمة وجود المهدي المادي، او عدم وجوده، اذا كانت الفكرة حاضرة وحية، وفاعلة وثابتة على مدى قرون ؟. ثم ماهو الواقعي والوهمي بمقياس المتحقق او عدم المتحقق، وكم من احياء موجودين، ذهب وجودهم ادراج الرياح، بينما ثبت وجود اخرين في وجدان الملاييين لقرون، بينما هم يمكن التشكيك بوجودهم الجسدي.
عدا ذلك لنناقش ركنا اساسيا من اركان نظرية الكاتب، ونقصد ركن الازمة، او المازق الذي وقع فيه تيار التشيع الامامي، ودعاه الى اختلاق موضوع ” المهدي “. وفي الكتاب لانجد غير هذا الدافع يقدمه لنا الاستاذ احمد، ليبرر به نظريته عن ” اختلاق ” المهدي، او الامام الثاني عشر. الا اننا حين نقرا الكتاب، نجد ان المهدي لم يختلق في حينه، وان الصاق صفة المهدي بالائمة وابناء علي، قد يكون عمرها مايقارب القرنين، فلقد الصق الشيعة الفكرة بمحمد بن الحنفية بن على بن ابي طالب، وسموا الامام جعفر الصادق بالمهدي، وعادوا والصقوها بغيرهما تباعا، فما هذا التناقض الفاضح؟ كيف تكون مسالة المهدي، قد اختلقت نتيجه وبدافع مازق انقطاع الامامة جسديا. بينما هي موجودة ومتواصلة مع توالي الائمة مع تتابع نفهيم لها عن انفسهم ؟. هذه حجة او مبرر غير سليم، ويجب اسقاطه من الحساب كليا اذن. اما المنطق الذي يمكن ان يقبله العقل، وهو قريب لحكمه، فهو ان مسالة المهدي كانت موجودة، وتمت محاولات للتعرف على ممثلها مراراولم يتحقق ذلك، الى ان تحققت في الامام الثاني عشر، وفي مثل هذه الحالة، علينا ان نبحث عن الاسباب التي جعلتها لاتتحقق في المرات السابقة الاولى ، بينما تحققت في الامام الاخير الثاني عشر، وهذا سياق منطقي ويتفق مع مجرى الوقائع، كما يقدمها الاستاذ احمد الكاتب في كتابه نفسه.
هنا ناتي الى الجانب ” التاريخي التوثيقي”، لنسال هل ان الاستاذ احمد الكاتب مؤرخ مشهود له، وهل هو مارس عمل التاريخ في هذه الحادثة، من موقع المؤرخ المتجرد المحايد، ام من موقع السياسي صاحب الغرض المسبق،” الكتاب اسمه ” تطور الفكر السياسي الشيعي “، وهو يبني عليه ويمارس الان، بناء نظرية في التشيع اقامها على تهديم، ليس حقيقة وثبوتية او عدم حقيقة وجود الامام الثاني عشر، بل على نفي وجود “المهدي” كمهدوية باقية، وكفكرة مجسدة في شخص. واذن فهو لايتمتع بمواصفات المؤرخ المتجرد، بل هو صاحب غرض، وسياسي يحمل هدفا وفكرة مسبقة، يريد اثباتها بالوثيقة احيانا ان وقع عليها، وبالاختلاق والهوى احيانا. علما بان مايتناوله امر لايمكن اثباته قطعيا، وهو لم يات باية ادلة نهائية تقطع فيه. وهكذا فان الحكم على عمل الاستاذ احمد الكاتب، هو حكمنا او يجب ان يكون من نوع حكمنا على كاتب سياسي، يريد استخدام التاريخ لغرض سياسي وايديلوجي، الامر الذي يجعلنا غير ميالين الى تصديق مااورده وتناوله.