[وماذا تنتظر من أصحاب المؤخرات الكبرى غير الضجيج؟!] هكذا أفتتحُ هذه المقالة بإحدى أبلغ تعبيرات فيلسوف الوجود والأخلاق “نيتشه”، بعدما كانت القرون الماضية قرونًا مهووسة بالدماغ وما ينتجه الدماغ؛ أضحى القرن الحالي يتمحور كلياً حول عضو آخر أكبر حجماً وأكثر إثارة. حيث تجاوز الوظيفة الطبيعية له والمتمثلة في إنتاج (الفضلات) ليصبح موظّفا إداريا شغله الشاغل إنتاج (الفرجة الغرائزية)؛ خصوصا في مجتمعات “تناغم المقدس والمدنس” والمجتمع الصحراوي هنا ليس حالة نشاز. مجتمع يرى المرأة بمقياس “شنبت جفتها؟”[1] عبر آليات متعددة، تتعدد بتعدد الوظائف المقدمة؛ على سبيل المثال لا الحصر: “آلية البلوح / التبلاح”[2] والتي كانت في الماضي القريب فعل قسري يمر عبر بنود تقليدية، لكن اليوم أضحى آلية رضائية تدخل ضمن حيز (صناعة الجسد الفرجوي)، حتى أصبح المجتمع الصحراوي مجتمع مؤخرات و أرداف ضاحكة بامتياز، في مشهد درامي جنائزي ودع على إثره العقل و ميكانيزماته بين ظهران تابوت رجعي محنط، كُتب على إحدى دفتيه [تشيء المرأة].
تكتسي هذه الأسطر شرعيتها من الملاحظة المباشرة الميدانية لظاهرة اجتماعية مدوية في المجتمع الصحراوي، ظاهرة اقترنت دائما بالطابوهات والمحرم والمسكوت عنه، لكن الضمير السوسيولوجي الحارق يقتضي منا تشريح ظلال هذا البعبع المخفي بهدف فهمه واستيعاب أخَمّصِ تفاصيله وفق ما تقتضيه “مهنة السوسيولوجي” على لسان بير بورديو [السوسيولوجي هو من يُفسد على الناس حفلاتهم التنكرية].أكيد، اننا لنقع في مصيدة المبالغة _إن قلنا_ أن الجسد هو سؤال الثقافة العربية برمتها، لأنه ظل دائماً و أبداً بمثابة ذلك الهامش اليقظ ضمن سجن مجتمعات “التدين الفلكلوري وأسلمت العادات”؛ بل هو بمثابة “شبكة من الجذور” بتعبير دولوز و غاتاري في كتابهما (مائة هضبة) [3]، هذه الشساعة المركبة التشابكية التي تخترق الممارسة الثقافية و الحياتية في شموليتها: من الشعر إلى الفلسفة، ومن الرياضة إلى البيولوجيا، ومن الأنثروبولوجيا إلى الفنون، ومن السيكولوجيا إلى الألم، ومن الديني إلى السيميائي والسوسيولوجي … إنه مركب يدعونا إلى تجاوز قوقعة المقاربات التقليدية الأحادية التي ورثناها، و الانفتاح على حيز أكثر أهمية لأجل فهم هذا المصطلح العنقودي. إذ اهتمت الإنسانية منذ الأزل اهتماما قل نظيره بدراسة هذا الزئبقي المسمى ب (الجسد) وبتجديد النظرة إليه؛ لا سواء في شق العلوم الحقة، ولا من جانب العلوم الإنسانية والاجتماعية (حيث الاستهلاك، الثقافة، الأخلاق، الهوية و ميكانيزم التفاعل …).
لن نرتكن لدارسة خوليو كاور باروخا [4]، ولن نستلهم من قول الشيخ محمد الإمام : “النساء عند عامة أهل القطر، كأنهن لم يخلقن إلا للتبجيل، و الإكراه، و التودد لهن”[5]، ولن نبقى حبيسي ثنائية الجندر و الجنسانية في تعاطينا لموضوع الجسد. خصوصاً في مجال الثقافة الحسانية _مجال البيضان_[6] حيث تضاريس الجسد بكل صفات التعبير الكوريغرافي الذي يستحيل على العلم تفكيك شفراته ولو استحضرانا معول الفينومينولوجيا، لأنه تجاوز بعده الأنثروبولوجي ليصبح جسداً للفرجة الكرنفالية؛ جسد يكون موضوع فرجة اتجاه جسد أخر (جسد المُتفرج). وهو بهذا يختزل لغته الخاصة التي تزيل الرداء عن المفاتن و التضاريس الباعثة على الإغراء و الانزواء للرغبات. أنا هنا لست _فارساً للأخلاق_ يوزع صكوك الأحكام كيف ما يشاء؛ بل دوري هو تسليط الضوء السوسيولوجي الحارق على “ظاهرة” تختزل عقلية المجتمع برمته بعدما أصبحت المؤخرة كوجيطو جديد، لسان حامليها يقول :
أنا أملكها، إذن أن موجودة؟!
إن النموذج الجمالي المثالي للفتاة الحسانية بصفة خاصة و البيضانية بصفة عامة، لا تكتمل تراتيل صورته إلا بوجود جسد مكتنز _كتلة هلامية من اللحم و الشحم_ يتدخل المجتمع بقرونه الرجعية لتشكيل أدق تفاصيله عبر أليات متعددة تصاحب طقس البلوح / التبلاح [7]، طقس في عمق جوهره العقلاني يرى المرأة من شعر رأسها إلى أخمّصِ قدميها لا تتجاوز بضاعة تُعرض بمضارب سوق عكاظ الجاهلي، جاعلةً أفراد المجتمع يتماثلون مع حالة الشاعر الفرنسي “بول فيرلان” عندما قال ( إنهم مراهقون تحت وطأة سلطة الأرداف، وخاضعون دائماً لها)؛ رغم أن هذا الطقس وقعت عليه الكثير من التغيرات Les Changements بفعل العوامل المقلوبة للحدثة و التحديث و انتقل بشكل انسيابي و سلس من ناصية القسرية إلى [الرضائية]؛ وهذا هو بيت القصيد!.
بيت التشيء، وسلاسل أسلمة العادات، وتيجان الجاهلية المُعَولمة، وقيد التقاليد، وهذيان القبيلة، وأنا الهوية الزائفة، وجبر التنافسية، ومباذل الهرمية الاجتماعية، واستعراض الأجساد، وسرطانية ثقافة الاستهلاك.
فعندما يغيب العقل تحضر السخرية.
[1] قول محلي حساني، معناه السؤال حول جسد المرأة.
[2] “البلوح”: عملية تسمين الفتيات في المجتمع الحساني، أنظر مقال العالية ماء العينين (أسئلة الجسد في المجتمع الحساني).
[3] Deleuze, Guattari, Mille palteaux, Seuil, 1976, P9
[4] أنظر دراسة الباحث الأنثروبولوجي الإسباني خوليو كارو باروخا الصادرة سنة 1955 حول المجتمع الصحراوي.
[5] المختار ولد حامد، حياة موريتانيا، الحياة الثقافية، الدار العربية للكتاب، تونس، الطبعة الأولى، 1990 ص 179
[6] مجال البيضان، يقصد به مجال الثقافة الحسانية الذي يمتد من وادي نون شمالا إلى حدود نهر السينغال جنوبا، ومن المحيط الأطلسي غربا إلى مالي شرقا.
[7] أنظر مقال العالية ماء العينين ( أسئلة الجسد في المجتمع الحساني).