زينب الخفاجي
هكذا وبدون سابق إنذار… سقطتُ على الأرض… أسمع بصعوبة صوت ابنتاي تصرخان… ماما … ماما…أحاولُ جاهدةً رفع يدي لأطمئنهم …. فيستوقفني عجزي … ويح قلبي كيف لا أستطيع احتضان أميرتي وأبعاد الحزن عنهما كما فعلت دوماً…. أحث يدي أصرخ بها تحركي ……ساعدني ياربي..
لم أحتمل يوماً شعورهما بالحزن والكآبة.. ماذا سأفعل الآن وكل دمعة تسقط على خديهما تحفر خندقاً عميقا في قلبي …. استنجد بجفني …أجثو أمام العينين … أرجوكِ أرمشي… أتوسل بيأس أطراف جسمي…ولكن يبدوا أن لا حياة لمن تنادي… وسلطتي على جسدي انعدمت تماما…
زاد الصراخ والبكاء من حولي… وأنا المستلقية على الأرض كجثة هامدة… ماذا جثة!!!… لا مازلت حية… أنه فقط جسدي دق بمسامير الكونكريت على أرض الغرفة… وحين أقترب زوجي مني ارتحت وتنفست الصعداء فلطالما أعطاني قربه الهدوء والسكينة والأمان…أنحنى علي … ونظر إلي بتفرس ..خيل لي أنني كلمته … ربما لم يسمعني … وربما … لا أعلم لماذا لم يجبني …. رفع يديه ووضعها على وجهي وأغمض عيني … متمتماً … لا إله إلا الله …. يا الله أدركني .. كيف أخبرهم أنني لم أرحل وأنني مازلت معهم …
لم يساعدني أحد على النهوض وتركوني مستلقية كما أنا على سجادة الصالة… يفتح الباب فجأة ليدخل زلزال بقوة 7 ريختر بيتنا ….نساء كثيرات من جيراننا وأخريات لم أعرفهن يوماً…. تحلقن حولي وبدأ اللطم والصراخ وشق الثياب… وقالت كبراهن (جينة لام البيت وماتلكتنا..أحو أحو) …وأخرى تعمدت أن يكون صوتها أعلى من سابقتها وضعت عبائتها تحت أبطيها ورفعت يدها قرب صدرها وهي تصفق وتقول على لحن حزين*(حطوا لأم هلة جفجيرها وياها…خافن بالدرب خطار يلفاها) كدت أقوم من مكاني واضرب تلك المرأة التي تنعاني وتطالب بحملي للجفجير حتى وأنا أغادر مهام أعمالي اليومية.. تعجبت كيف أستطيع مشاهدتهم بوضوح وأنا مغمضة العينين…ثم كيف استطعت أختراق حواجز ملابسهن والنظر الى أحشائهن الداخلية…ويا لهول ما رأيت…كان القليل منهن يحملن قلوباً بلون الثلج أما الباقيات الصالحات فحدث ولا حرج..كانت قلوبهن أسود من ملابس العزاء ….. آلمني منظري وأنا مستلقية على الأرض وهن متباهيات بصولاتهن وجولاتهن في ميدان الصالة،… ومن بين كل اللطامات لمحت جارتي المسعدة زكية… والتي لم تزرني طوال فترة تجاورنا غير مرة واحدة لتطلب معروفاً من زوجي… لم نكن على وفاق … بسبب صراخها وضربها المستمر لأطفالها واستعمالها لألفاظ بذيئة يندى لها الجبين… أتذكر كيف أنها عندما زارتنا أذهلتنا بنعومتها ورقتها وأدبها الجم … جلست تذرف الدموع كحورية سقطت فجأة من أسوار الجنة.. وبقدرة قادر تحولت من زكية المجنونة إلى (ليلى علوي)… دموعها فطرت قلب زوجي المسكين الذي لا يحتمل منظر امرأة تبكي … شرط أن لا تكون تلك المرأة زوجته… ومن يومها ونحن نسميها ليلى علوي…وعندما حاولت اختراق ملابسها دهشت كثيراً.. فقلبها لم يكن كقلوب باقي النساء …لقد كان مقلماً ..خط أبيض وآخر أسود …ولأنها لم تكن من النساء العشر الأكثر أناقة في العالم لتقدر جمال أختلاط الأبيض بالأسود… فهي واحدة من أثنتين أما أنها تشبه أحد الحيوانات المخططة بهذين اللونين أو هي قدرة فائقة تخفي بها سواد قلبها وماتضمر للغير…..
اقتربت مني وبحلقت في وجهي مبتسمة محاولة التأكد من رحيلي وخلاصها نهائياً من (جهرتي) ثم ابتعدت محتضنة ابنتاي… وتوجهت لزوجي الجالس في آخر الصالة… وأنحت عليه وهمست بأذنه.. ترى ماذا قالت له هذه الملعونة…( آخ لو بس أكدر أكوملها)… بهرت هذه المخلوقة المقلمة برقتها ودفيء صوتها كل من في الصالة وسحرت كعادتها دوماً كل الرجال… ثم وضعت يدها على ظهره وربتت بحنية …كيف تلمسه هذه( المستورة أم العباية) التي طالما أنتقدت عدم لبسي لعبائة … لكن ليس غريبا عليها فلقد كانت تفتح الباب لزوجي … وتتحول الى ليلى علوي بشعر أصفر منثور ودشداشة كودري نص ردان… يلة تحت شعار ( من دخل دار أبو سفيان فهو مِحرِم)…
حملت زكية المستورة شرشفاً وغطتني به ثم صاحت يبووووووووووو( سودة بوجهك تصيحين علية.. الله ياخذج) … تمنيت لو يأتي أحد ويرفع الشرشف عني ويساعدني على النهوض بعد أن عجزت عن مساعدة نفسي …حتى أريها كيف تغطيني وتصرخ علي… ثم تحولت تلك الحرباء الى ليلى علوي وقالت بهمس (خطية أجوا أمها وخواتها) وهنا تنفست الصعداء وصرخت( ماما الحكيلي عبالهم متت آني دا أسمعكم)… لكن لا أمي ولا أخواتي أجابوا ندائي… يبدو أنني فعلاً مت …. (ويبوووووووو علية وعزة العزاج زكية).
أشفق على أمي كيف فقدت أولا أبنها الوحيد مصطافي ثم زوجها وبعده أختها وصديقتها(فخاتي حبيبة قلبي) .. وبعدها أبنتها البكر(أنا طبعاً)…
يا إلهي ها هم يحملونني ويضعونني في الصندوق… (عزة بعيني صارت صدك وراح يدفنوني)..لكن كيف أرحل وأترك الجو صافياً لزوجي وزكية المسعدة أم الخبز….حاولت تحريك يدي لأبعد الغطاء عن وجهي ولكنني لا أقوى على شيء … فجأة ظهر أمامي أبي حبيبي رضاوي… فسألته بابا هل مت فعلاً… أبتسم لي ومد يده وقال … أسرعي حبيبتي أخرجي معي.. أعرف أن هذا الصندوق يكتم انفاسك…ولأنه طالما قرأ دواخل نفسي قبل البوح بها… كان يدرك حتماً كم ترعبني فكرة الموت والوداع والأبتعاد عمن أحب …. أخذ بيدي وطرنا محلقين بدون جناح وجلسنا على المروحة السقفية وصرنا نراقب كل ما يحصل في الأسفل… تعجبت كيف تحول الألم والخوف بداخلي الى أبتسامة وهدوء وسكينة…وكيف لا وأنا أمسك بيد أول من أمسك بيدي وأنا أخطو في الحياة أولى خطواتي…توسلته أن نبقى ولو قليلاً لأرى ماذا سيحدث في مأتمي…ولأنه لم يرفض لي طلباً يوماً وافق وهو مبتسم كعادته.
كانت قريبتنا أم دلال تعدل من ملابس أبنتها …. وتحثها للأقتراب من زوجي والأهتمام به … قبحك الله … (أنتظري شوية)…وسبحان الذي حول جل من أحبهم الى خاطبات أما لهن أو لبناتهن العوانس…
وآه من زكية( ليش هية تكعد راحة)…قامت وكأن الحزن يثقل كاهلها بألاف الأطنان وخرجت من الصالة …وأقتربت من زوجي المسكين وهي تذرف الدموع ثم وضعت يدها على كتفه ومدت الأخرى لتصافحه…رفع رأسه … تقطع قلبي لمنظره توقعت أن أرى علامات البؤس والشقاء على وجهه… ولكن لا شيء… حتى عندما مت لم أعرف أن كان قد أحبني يوماً…ظللت مشتتة البال.. ساعة انتبه لزوجي وأخرى أسمع ماتقوله المعزيات… وفجأة أنتابتني نوبة سعال شديدة … حتى كاد صدري يتقطع… السعال يشتد ويد تضرب على ظهري بقوة ودموع تتساقط من عيني …أتنفس وأشهق..وأدعي على زكية(الشلت حالي)…سمعت صوت يقول..خذي أشربي هذا الماء… فتحت عيني فوجدت زوجي يجلس قربي على سريرنا حاملا لكأس ماء..ومتضايق جداً من أيقاظي له بسعالي… تلفت يمنة ويسرة محاولة البحث عن أبي وهل مازال موجوداً ليأخذني…ولكن لا أعلم أين ذهب؟…طوال فترة رحيله عنا وأنا أتوسل الله أن أراه ولو بالحلم…ولكن أن يأتي ليأخذني…(لا الروح عزيزة) ولأنني كنت سعيدة جداً بعودتي لزوجي… وأدراكي أن ما مر لم يكن إلا كابوساً كريهاً… قررت أن لا تدخل بعد اليوم أمرأة غير متزوجة بيتي… والوقاية يا أحبابي خير من العلاج.
· وهي مقوله تقال للعزاء في أم البيت أذا توفت ومعناها ضعوا (لأم هلة) وهي التي ترحب بكل زائر لبيتها(جفجيرها) وهي ملعقة كبيرة لغرف الطعام…فربما سيزورها شخص ما في طريقها الى المدفن ومعناه أنها حتى في موتها ستقوم وتغرف الطعام للضيف … وهي صيغة مدح لأم البيت مبالغ بها كثيراً.