عبلين تحتفي بـ “يافا رسائل في ظلال النّكبة!”
آمال عوّاد رضوان
أمسية أدبيّة أقامتها جمعية السلام الخيرية/ عبلين، وجمعية جفرا للدبكة والفنون الشعبية/ عبلين، للاحتفاء بكتاب “يافا، رسائل في ظلال النكبة”، للكاتب عبد القادر سطل، وذلك بتاريخ 27.11.2021، في قاعة جمعية السلام في عبلين، ووسط حضور من المثقفين والمهتمين بالشأن الثقافي وتاريخ يافا وفلسطين، وقد تولى عرافة الأمسية السيد يوسف حيدر، وقدم د. سمير فوزي حاج مداخلة حول تاريخ يافا الحضاريّ، والاقتصاديّ، والثقافيّ، والسّياحيّ عبر التاريخ وما قبل النكبة وما بعدها، ثمّ تلتها فقرة تمثيلية لمونودراما يافا والنكبة، قدّمها الأستاذ غابي عابد رئيس الرابطة لرعاية شؤون عرب يافا، ثمّ تحدّث الكاتب عبد القادر سطل عن دمج تجربته ما بين السرد الصحافي والتعبير الوجداني في توجيه رسائله للقارئ، بهدف الوصول إلى قلب ووجدان كل عربيّ وفلسطينيّ في يافا أو خارجها، وشكر الحضور والمنظمين والمتحدثين، وتمّ التقاط الصور التذكارية!
جاء في مداخلة د. سمير فوزي حاجّ:
الحديث عن يافا شاعريّ، لكن فيه الكثير من الحسرة والمرارة والألم، يافا الألق الشّاعريّ، يافا عروس الشّعر. لم يبقَ شاعر عربيّ وفلسطينيّ بشكلٍ خاصّ إلّا وكتب يافا. حين نتحدّث عن يافا، نتحدّث عن النّكبة، النّكبة الّتي شطرت برتقالة يافا إلى شطرين، ونحن نختزلها بقصيدة الحبّ والجيتو لراشد حسين، حيث تحوّلت من مدينة تصدّر البرتقال، إلى مدينة تصدّر اللّاجئين: يافا – لمن يجهلها- كانت مدينة/ مهنتها تصدير برتقال/ وذات يوم هدمت.. وحوّلوا/ مهنتها.. تصدير لاجئين
ليافا في التّشكيل الشّعريّ صورتان نقيضتان، واحدة قبل النّكبة تتمثّل بفسيفساء جميلة مركّبة من “برج السّاعة”، و”الميناء”، وأحياء”المنشية”، و”النّزهة”، و”البصّة”، وشوارع “العجميّ”، وإسكندر عوض، وجمال باشا، والملك جورج، و”الفنار”، وقناطر بيوت حجر، وقرميد، وبيّارات برتقال وفلّاحين، وشاطئ جميل، وميناء، وأمواج، ونوارس، وقوارب وسفن، وبحّارة، وصيّادين، وأصداف، ورمال، وسماء، ونجوم، وأعراس، وسهرات، وكواعب، وأزهار فوّاحة الشّذى”، وهذا ما سمّيته “يافا الجميلة”، لأنّها مُلهمة الشّعراء ومتيّمتهم، ومُسْكرة حواسّهم.
وصورة ثانية بعد النّكبة، تُصوَّر فيها يافا مكانًا مفقودًا ومسلوبًا من أهله، مسكونًا بالهدم والخراب، ومسفوعًا بالفجيعة وأسراب السّنونو، من خلال مزامير مترعة بالحسرة والمرارة الكاوية، ومُحبّرة بالدّموع وعصير الشّوق، فتصبح مدينةً مشتهاة، ترحل إليها العيون والقلوب، من الشّتات والمنفى القسريّ، بينما تبقى الأجساد تنوب حولها عبثًا، في دروب الضّياع.
الكتابة داخل المكان: وفق الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار: “المكان هو العلاقة الرّوحيّة، ومَن لم يعش المكان لا يستطيع الكتابة عنه”.
إميل حبيبي قال في آخر مقابلة معه حول رواية (عائد إلى حيفا) لغسان كنفاني: “أنا مانعة صواعق”، بما معناه؛ مشيت مع اتّجاهات الأماكن الموسومة في الرّواية، بدل النّزول إلى البحر أخذتني إلى أعالي الكرمل، ومَن لم يَعِش المكان يجب ألّا يكتبَ عنه.
معظم اليافيين في المنفى لديهم عطشٌ ظامئ لزيارة يافا، هشام شرابي زار يافا، وهارون هاشم رشيد أتى يافا، وزار بيت زوجته مروة جبر، وإبراهيم أبو لغد كانت أمنيته “أن يصبح رئيسًا لبلديّة يافا يومًا واحدًا، أو يسهر ليلةً في شاطئ يافا، “لكنّهُ أتى يافا الّتي كانت له “سدرةَ المُنتهى “في توصيف محمود درويش، ودُفن في يافا. وشفيق الحوت كتب “من يافا بدأ المشوار”. ومحمود سيف الدّين الإيراني سمّى خسارتها (الخروج من الجنّة).
محمود درويش في أعماله الأولى الّتي كتبها في البلاد قبل أن يغادر الوطن، قال عن يافا:
أحجّ إليك يا يافا/ معي أعراس بيّارة/ فناديها عن الميناء/ عن الميناء ناديها/ وشدّيني وشدّيها/ إلى أوتار قيثارة/ لنحيي سهرة الحارة/ وشوق الحبّ للحناء.
أمّا الشّاعر الفلسطينيّ ابن غزة هارون هاشم رشيد شيخ الشّعراء سنّا، كتب شعرًا غنائيًّا مُموسقا عن يافا، وغنّت له السّيدة فيروز قصيدته المشهورة “ليل الغرباء” الّتي يقول فيها:
أبي… قل لي بحقّ اللّه/ هل نأتي إلى “يافا”؟/ فإنّ خيالها المحبوب/ في عينيّ قد طافا/ أندخلها أعزّاء/ برغم الدّهر..أشرافا ؟
أبي… لو أنّ لي كالطّير/ أجنحة، لتحملني/ لطرت بلهفة رعناء/ من شوق.. إلى وطني/ ولكنّي من الأرض/ تظلّ الأرض تجذبني
في العام 2008 التقيت الشّاعر هارون هاشم رشيد في بيته في القاهرة، وسألته عن هذه القصيدة الّتي غنّتها السّيدة فيروز، وعن “ليلى اليافيّة” إن كانت حقيقيّة أم تخييليّة، فأجاب إنّها حقيقيّة، استوحاها عام 1948 حين كان مع بقيّة الشّباب الغزيّين يبنون الخيام للاجئين الفلسطينيّين المطرودين من بيوتهم، والهاربين إلى غزة، حين سمع طفلة يافيّة تقول لوالدها: “بابا، وينتا بدنا نرجع ليافا”.
يافا تختزل وطنًا كاملًا، والنّكبة الّتي طردت ثلاثة أرباع مليون فلسطيني من وطنه، وهُدمت 418 (أربعُمائةِ وثمانِ عشرَةَ قرية)، شرخت يافا المنكوبة بشرًا وحجَرًا،لأنّ يافا تُشكّل ذاكرةً، وتاريخًا، وبوصلةً، وأرشيفًا، ووجدانًا لكامل الشّعب الفلسطينيّ، فقد طوّحت النّكبة بأكثر من 70 ألفًا من سكّانها، وبقي قلّة ينحصرون بأربعة آلاف. كما سلبت البيّارة والدّار من أهلها، وطُرد اليافيّون من مدينتهم إلى فيافي الشّتات، وحوّلت يافا إلى جيتو، وهُدم وقُوّض المكان، وغُيّرت أسماؤُه، ومُحيت هُويّته، وشُوّه تاريخُه وإرثُه، وما زالت إسقاطات النّكبة ورياحها السّوافي تلفح الفلسطينيّ هنا وهناك، وها هي “رسائل في ظلال النّكبة” للكاتب اليافيّ
عبد القادر سطل تصل بعد 70 عامًا من النّكبة.
“يافا رسائل في ظلال النّكبة” سرديّةٌ بنكهة يافيّة، تحكي بحسرة كاوية يافا الحاضر الّتي حُوّلت من عروس فلسطين وبانوراما الإشعاع الثّقافيّ، إلى جيتو ومخيّم لاجئين، ومن ناحية أخرى تتماهى مع صمود أهل يافا الباقين الّذين لعقوا جرح النّكبة وشمخوا. هذه السرديّة متنوّعة الأجناس من كتابة عن الذّات، ورسائل شفويّة، وشهادات، ومذكّرات، ورواية شخصيّة، وبورتريه، وأوراق مُحاكة بتنويعةٍ من الضّمائر الطّاغي فيها ضمير الذّات، مزجت بين اللّغة الشّاعريّة المنثالة بعفويّة واللّغة الصّحفية، ممسوحة بالحزن حينًا، والتّباهي بالبقاء واللّا تلاشي في الواقع المفروض على الباقين في وطنهم، وتتموضع في سرديّات ترميم الذّاكرة، وتوعية الأجيال اليافية على تاريخها وحضارتها وهُويّتها.
كُتبت سرديّات كثيرة ومؤلمة عن النّكبة ببؤر فلسطينيّة مختلفة هنا وهناك، معظمها شهادات شفويّة لمن احترقوا بنيرانها، حفاظًا على الذّاكرة وخوفًا من الضّياع، لكن قليلة هي السرديّات
النّكبوية المكتوبة من قبل الفلسطينيّين الباقين في وطنهم.
“يافا رسائل في ظلال النّكبة” أشبه بسمفونيّة موسيقيّة بتنويعاتها وأصواتها المتعدّدة، تتّبع الكتابة غير المبرمجة، باتّكائها على التّراجيديّ، والكوميديّ، والنّثريّ، والشّاعريّ، والصّحفيّ، والتّاريخيّ، والقانونيّ، والشّهادات الشّفويّة في تصوير نهش وهدم وتهميش يافا، من قِبل المؤسّسات الإسرائيليّة مثل بلديّة تل أبيب وعميدار..
هذه السّرديّة مُطعّمةٌ بالمحاكاة السّاخرة من سالب المكان ومُشتّت أصحابه وأهله، وهي لا تتوانى في لسع المتعاون مع السّلطة أمثال سعيد في متشائل إميل حبيبي، لكنّها تحتفي بالابتهاج والفرح بأهل يافا الباقين في مدينتهم، والّذين هم أشبه بالفينيق الّذي ضمّد جراحاته وتشبّث في مدينته يافا، وقام بزرع الأزاهير وشتلات البرتقال يبن الرّكام والحطام، كما تحتفي بتلامذة مدارس يافا الزّاحفين نحو العلم والشّموخ. إنّها سرديّة بنكهة يافية تحكي بحسرة كاوية رحلة البحث عن يافا الماضي بعيون جيل ما بعد النّكبة،تنوب وتصوّر وراء السّياج المكان المسلوب المعبرنة أسماؤه.
هذه السرديّة رغم محمولها التّاريخي الثّقيل من عبق وألق يافا الماضي الجميل من أسماء شوارع، ومساجد، وكنائس، ومدارس، وصحائف، ودور سينما، ومقاهٍ محفورة في الذّاكرة، وأسماء فنّانين وشعراء ومعلّمين، فهي
تحتفي بالإنسان اليافيّ الّذي ترك بصمات عميقة في حاضر يافا، أمثال طيّبي الذّكر خالد جدي (حكيم يافا)، ويوسف الدّيك والحاج فتح اللّه سطل، كما تشيد بالمؤسّسات اليافيّة الوطنيّة الفاعلة داخل المجتمع اليافيّ، أمثال الرّابطة لرعاية شؤون عرب يافا.
لا تتّبع هذه السّرديّة التّراتبيّة والتّسلسل، وكأنّها هي الأخرى من إسقاطات النّكبة، فهي أشبه بكتابات تيّار الشّعور أو تيّار الوعي. كما أنّها لا تتموضع ضمن الكتابة عن الذّات أو جانر “أدب السّيرة الذّاتية”، وفق تعريف الباحث فيليب لوجون الّذي يرى به «حكي استرجاعيّ نثريّ، يقوم به شخصٌ حقيقيّ عن وجود الخاص»، فالخطاب السّيرذاتيّ وكذلك السّيرواية (دمج جانر الرّواية (التّخييليّ) والسّيرة (الواقعيّ)، بعيدان توصيفًا عن هذه السّرديّة اليافيّة المترعة بالحسرة والمرارة الحارقة، لِما آلت إليه يافا، والمتماهية مع شعر”المهزلة العربيّة” لمحمود الحوت حيث يقول:
يافا، لقد جفّ دمعي فانتحبت دما/ متى أراك؟ وهل في العمر من أمد ؟/ أمسي، وأصبح، والذّكرى مجدّدة/ محمولة في طوايا النّفس للأبد.
لكنّها في شطرها الثّاني تستشرف الفرح، والرّفض، والصّمود اللّافح والمنبعث من قصيدة الشّاعر السّوري أدونيس (علي أحمد سعيد أسبر): “مقدّمة لتاريخ ملوك الطّوائف” الّتي ترسم يافا ثنائيّة من اليوتوبيا – اللّامكان ونقيضه المكان. كما تأخذ يافا الأدونيسيّة معنًى كونيًّا ورمزًا ومدلولًا شموليًّا، فهي رمز للدمّ النّازف من خاصرة العالم، وهي رمز لكلّ إنسان مَنفيّ ومُشرّد عن بيته وبيّارته، وهي رمز للرّفض:
“غير أنّ النّهر المذبوح يجري/ كلّ ماء وجه يافا/ كلّ جرح وجه يافا/ والملايين الّتي تصرخ: كلا، وجه يافا.”