أحد المفكربن الذين بحثوا في اللغة العربية وقدموا نتاجات كبيرة في الفلسفة والعلوم
في سنته الدراسية الأولى.. وصفه معلموه بالشرود وعدم القدرة على تعلم حتى الحروف الابجدية، لكن الطفل أظهر فيما بعد قدرة هائلة على الحفظ الشفهي وذاكرة متفوقة للغاية، جعلته يشق طريقه في دروب العلم بتفوق، فأوفد إلى باريس لمتابعة تحصيله وهناك درس علوم الفيزياء والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم الجمال، وفي ظروف بالغة التعقيد إبان الحرب العالمية الثانية واحتلال النازيين لباريس، حيث انقطع تواتر المراسلات مع الوطن الأم سورية، وبالتالي انقطعت الامدادات المالية عن الطالب، لكن هذه المعاناة زادت من عشقه لبلاده وجعلته حين وطأت قدماه أرض الوطن ينحني ليقبل ترابه المقدس. وُلد العلامة والمفكر والأديب الموسوعي عبدالكريم اليافي في مدينة حمص 1919. وكانت وفاته في دمشق عام 2008 عن عمر يناهز التسعين عاما.كان من اشد المدافعين عن اللغة العربية، وكان رئيس لتحرير مجلة التراث العربي. واليافي حسب تعبير د. طيب تيزني برزت لديه مميزات كثيرة، أهمها موسوعيته العلمية المستنيرة ومقدرته اللغوية وغوصه في محيطات التراث ومساهمته في متابعة المشروع النهضوي العربي والدعوة إلى العقلانية والحرية الفكرية مع وقوف صريح لا لبس فيه ضد تيار الظلامية.. هذا التيار الذي يقوم على ثنائية مفتعلة هي ثنائية المؤمن والكافر.. واليافي قرأ الماضي بصورة الراهن، وكما يقول تبزبني، تصدى بجرأة للذين يريدون تجاهل ايجابيات التاريخ العربي وابراز السلبي فيه فقط..وإذا كان بعض مفكري الغرب يريدون مسح ذاكرة الشعوب تحت لافتة الحداثة.. ثم تقريب القيم والضمائر بما اسموه ما بعد الحداثة، فهذا يعني الدوس على الحقيقة والتاريخ.. وهذا ما تصدى له اليافي بجرأة وشجاعة. يذكر بعض الباحثين، عرف د. اليافي بتواضعه العلمي المشهود به ومواقفه الإنسانية، قدم الإنتاج المعرفي الوفير للعلم ورواده، الرأس مال المعرفي والاجتماعي عنده كان من خلال كتبه ذات العلاقة بالثروة المعرفية الاجتماعية. ويرى أن علم الاجتماع علم حديث النشأة، والسبب الذي أخر نشوءه هو الانسياق بالحياة الاجتماعية التي تطغى في اتساعها وتتعدد وجوهها في حياة الإنسان الفردية والعضوية والنفسية من حيث احتجاب حياتنا الداخلية النفسية وراء شخصياتنا التي ضاعها المجتمع، أو قرار أن حياتنا النفسية هي نتاج تلك الحياة الاجتماعية التي تمارس دور المراقب، كما تحدث «فرويد» أو تدخلات المجتمع القوية والعميقة في الأمور النفسية الفردية كالإرادة. هذا ما خلص إليه رأي د. عدنان مسلم.
إنه أحد المفكربن الذين بحثوا في اللغة العربية وقدموا نتاجات كبيرة في الفلسفة والعلوم الطبيعية وعلم الاجتماع وفي الأدب والثقافة، فهو العالم في السكان وهو الشاعر والأديب والفيلسوف والمفكر وعالم التاريخ والرياضيات والعلوم الطبيعية والتراث العربي. يذكر الأكاديمي علي القيم، كانت له تجربة واسعة مع تعريب المصطلحات العلمية، ومصطلحات التنمية الاجتماعية والعلوم المتصلة بها، وتأصيل الثقافة العربية الذاتية ومشكلات الترجمة والتحقيق، وفي كل هذا وذاك كان يرى أن المعرفة لا حد لها ولا نهاية للغوص في أعماقها، أو التحليق في ٱفاقها، ويزيد أن العلوم كلها قد يرفد بعضها بعضا، ولو كانت متباينة الميادين، مختلفة الموضوعات، ويرى أن المعارف الإنسانية متضاربة، وجدير بالأديب المثقف أن يلم بجملتها إلماما ما كي يتاح له النظر السديد، والحكم الرشيد في قضايا الأدب الواسعة والمتباينة.في أبحاثه الجميلة والدقيقة يري اليافي أن الإنسانية كيان واحد، فقد نظر إلى الإنسانية نظرة عامة تشمل أحقاب الزمن البعيدة، حتى العصر الحاضر، ولا يساوره شك في أنها كيان واحد ينمو ويتقدم، وتسري فيه شريانات التكامل، مشتبكة على الرغم من الخلافات والإنحرافات المضللة، وليست الشعوب التي تحتويها الإنسانية منعزلًا بعضها عن بعض الانعزال كله، ولا منطويًا بعضها على نفسه اطواء مطبقًا، بل بينها دائما نصيب من الاتصال والارتباط ضئيل او جسيم. ألف د. اليافي العديد من الكتب والدراسات العلمية المهمة نذكر منها: تمهيد في علم الاجتماع، في علم السكان، الفيزياء الحديثة والفلسفة، دراسات فنية في الأدب العربي، الشموع والقناديل في الأدب العربي، المعجم الديمغرافي متعدد اللغات، جدلية أبي تمام، وغيرها من الدراسات الاجتماعية والنفسية.
ما قاله اليافي عن نفسه: كتب في أحد مقالاته أن لي ذكريات كثيرة تتعلق بالحرب العالمية الثانية، كنت ساكنًا في الحي اللاتيني حي الطلاب قرب السربون، وشهدت زمن الحرب على الأرض الفرنسية، وكنت أتفرج أنا وزملائي كيف كان الإنجليزية يضربون مواقع الألمان الذين احتلوا مواقع قريبة من سكننا الجامعي، عايشنا أثناء دراستنا سنوات الحرب لحظة بلحظة فهي سيئة للغالب والمغلوب أما ذكرياتها القاسية فتحتاج الكثير من الأحاديث للإحاطة بتلك السنوات الصعبة ومعاناتها. عشنا حكايا وحكايا في تلك الفترة، وكم من طالب أصيب بالمرض نتيجة التغذية السيئة، ذقنا مرارة الفقر، كانت ثيابنا تهترئ ويصعب علينا شراء بديلها، حتى أنني في إحدى المرات وأنا جالس على مقعد في حديقة المدينة الجامعية، شعرت بالبرودة تسري في جسدي فأخذت أبحث عن السبب، وقد وصل الاهتراء إلى بنطالي، فما كان مني إلا الذهاب إلى عند الخياط لرثيه مكان الاهتراء، حيث لم يكن مستغربًا هذا الفعل بين اوساط الطلبة الذين عاشوا الفقر والحرمان وتحملوا من أجل العلم، حوصرنا ولم نستطع العودة إلى أوطاننا، ومن جهتي لم أتوقف وتابعت دراستي بعد العلوم في الٱداب، ثم الفلسفة والتي أتذكر بداياتها عندما طلب البروفسور أن ننجز رسالة عن الفيلسوف كانط، وعندما قابل الطلاب بدأ بالتأنيب والتهكم وإطلاق الأحكام، وبينما هو يتحدث كنت أواسي نفسي بأنني جديدة على هذه الدراسة وأول مرة أدخل هذا الميدان وهكذا أخاطب نفسي حتى أبعد عن خاطري مرارة الفشل، وبعد أن أنهى البروفسور حديثه قال: ماعدا رسالة كريم اليافي فقد عرف كيف يعالج الموضوع فانتبه الطلاب إلي بنظرات إعجاب وتعجب، وتابعت بعدها النجاح وكنت الأول في علم الجمال.
في حوار اجرته «مجلة العربي الكويتية» معه عام 1992، تحدث اليافي عن اللغة والتحديث، كان يرى أن كل لغة رهينة التطور، وكذلك اللغة العربية. فلا مجال لإنكار التطور، وهو موجود فعلاً أيًا كانت مواقف اللغويين منه.ولكل لغة خصائص ومزايا يمكن أن تقسم إلى قسمين: ذاتية تتعلق بطبيعة اللغة نفسها، وخارجية زمنية- بيئية تتعلق بتقدم المجتمع والعلوم وتنوع البيئات المكانية. ففي الخصائص الذاتية يرى أن العربية لا تجارى في دقتها وطواعيتها وسعتها وغنى تراثها، وما فيها من إمكانات التوالد الاشتقاقي والتعير الدلالي والنقل المجازي. أما في الخصائص الخارجية فالأمور لا تمس اللغة نفسها لسبب يرجع اليها، بل لسبب يتصل بالعوامل الاجتماعية والتاريخية واليئية. وهذا هو ما جرى للعربية في العصور المتأخرة، إذ توارت عن العلوم وغابت عن ميدان الاستعمال لتقهقر أبنائها وضعف ثقافتهم وتخلفهم عن مسيرة الحضارة. فلا حيف على العربية حقًا ما دام ابناؤها عاملين في خدمتها. ولنا في تجاربنا المعاصرة أدلة كثيرة على ذلك: فالناظر في حال العربية منذ مطلع هذا القرن حتى الٱن يجدها قد قطعت أشواطًا بعيدة في التحديث، إذ غدت من جديد لغة التدريس والتأليف والصحافة والإعلام. ولا يعني هذا أننا راضون عن حالة العربية بين أهلها وعلى ألسنة أبنائها، بل نحن نشير إلى أمر غدا معروفًا، وهو تطور اللغة في هذا العصر وتحديثها إلى درجة استطاعت بها أن تستأنف مسيرتها من جديد. أما الرضا عن جهودنا تجاهها فلن يكون إلا بعد أن نرسخ وجودها في سائر المجالات العلمية والاجتماعية، لتكون اللغة المكتوبة المنطوقة في ديار العرب كلها دون حاجز من لهجة او تعقيد.