عالمُ الطفولةِ مَحفوفٌ بالمفاجآت والتحدّيات!
آمال عوّاد رضوان
مداخلة العريفة فوز فرنسيس: مساؤُكم أضمومةٌ عطرةٌ مُفعمةٌ بضحكاتِ طفولةٍ بريئةٍ، تحُطّ رحالَها على شطآن المُغامرةِ والمعرفةِ معَ قليلٍ مِن الخوفِ والتردّدِ، مُنتظرةً مَن يُوصِلُها هذا المساء إلى برِّ اليقينِ والأمان. أبحرتُ كثيرًا ولا زلتُ أفعل كلَّ يومٍ، وفي هذا المساءِ سأعيدُ الكرَّةَ وأبحرُ مِن جديــدٍ على متنِ سفينةٍ، وسأدعوكم لتشاركوني رحلتي المسائيّةً، لنبحِرَ في عالمٍ ساحرٍ أخّـاذ، لكنّي لن أكونَ القبطانَ، لأنّي بصراحةٍ أبحرُ في هذا اليمِّ منذ سبعٍ وعشرينَ سنةً، ولا زلتُ أجهلُ خباياهُ وأسرارَهُ. سأستعينُ بأساتذتِنا وأدبائِنا ليكونوا لي عونـًا، فنوجـّهُ دفّةَ سفينتِنا، نغترفُ ما أمكنَـنـا مِن عالم الصّغار المَحفوفِ بالمفاجآت والتحدّيات، فنُعرّجُ على أدبِهم ونُحلّقُ في فضاءاتِهم وآفـاقِهم، فقد تُلامِسونَ مشاعرَهم وقد تتعثّرونَ بوجدانِهم. رفقًا بهم! تبسَّموا وتابعوا واقبلوا منّـي بعضَ نُـصحٍ قد يُفيد: لا تتدخّـلوا باُختيارهم، ولا تُكثروا الأسئلة. لا تُربِكوهم، ولا تُحدّدوا زمنَ لقائهم بأصدقائِهم وبقصصِهم المعروضةِ على الرّفوف. مِن حقّـهم أن يقرؤوا القصّةَ أكثرَ مِن مرّة، فأضلاعُ مثلّثِ النجاحِ هي: الصّغيرُ والكتابُ وأنا “أمينة المكتبة”. التّربة الصّـالحة تشتملُ على عناصرَ عِدّةٍ: الثقة، الإيمان بالعطاء، المَحبّة، زرع بذور حُبّ اللغةِ في نفوس الصّغار وتعهّـد ذلك. أن تواكبَ رحلة كلِّ صغيرٍ على حِدة قدرَ المستطاع، وتُشجّعُهُ وتُحفّزهُ على قراءةِ المزيد. أن تـرقبَ تحدّيات العصر والتّـكنولوجيا، وتعرف كيف تُواكبُ ذلك بحكمةٍ، وتدمجُ بينَ القصّةِ والفعاليّات المختلفة. أن تتبـنّـى مشروعًـا ما على الأقلّ، وتؤمن به وبأهميّـته في تذويتِ اللغةِ وجَمالِها، ومأسسةِ المُطالعةِ وتجذيرها في نفوسِ الطّلاب صِغارًا، لـتُعتِقَهم وأنت واثقٌ أنهم سيتابعونَ مستقبلًا حبّ القراءة وإن أهملوها حينًا. أن تُـبدِعَ وتبتكرَ وتخلِقَ المـحفّـزاتِ، لِتُـعيدَ مَن حاولَ الهربَ والعزوفَ عن القراءة. أن تـخرجَ معهم مِن العالم المَحصورِ في الكلماتِ والصّفحاتِ، إلــى لقاءٍ فعليٍّ مع الكاتبِ ومتعةٍ لا نهائيّةٍ، والقاعدةُ الـذهبيّـةُ والأهمُّ هي أن تـنسـى ذاتَك، وأن تقرأَ وتقرأَ لهم ولنفسكَ دون كللٍ أو مللٍ.
أثقلتُ عليكم وما زلنا على الشاطئ. شدّوا الوثاقَ معي ودَعـونا نبدأ أمسيتَنا. وأذكّرُكم أنّنـا سنعرّجُ هذا المساء على عالَـمِ مُبدِعٍ متألّقٍ بارعٍ، أخذَ على عاتقهِ أن يُحلّقَ في فضاءاتِ اللّغةِ والإبداع، لِيودعَ بينَ أيدي صغارنا أقراصَ شهدٍ يتذوّقون منها ويهنؤون.
مداخلة صالح أحمد كناعنة: أدبُ الأطفالِ عالمٌ واسعٌ كبيٌر مُهمٌّ وخطيرٌ في آن؛ واسعٌ لأنّهُ يَشملُ هذا عالمَ الطفولةِ الجميلَ الكبيرَ الذي هو عالمُ الإنسانيّةِ، فكلُّ جهودِ العالمِ وأحلامِ الخلائقِ مرتبطةٌ بهذا العالمِ الذي يَحملُ أحلامَنا وآمالَنا وتطلّعاتِنا، لذلك، فإنّ الكتابة للأطفالِ هي أخطرُ أنواع الكتابةِ، لأنّها مُوجّهةٌ لهذا العالم الجميلِ الّذي يحتضنُ آمالَ مُستقبلِنا.
الكتابةُ للأطفالِ تحتاجُ إضافةً إلى الموهبةِ- كشرطٍ أساسيّ- إلى الثّقافةِ العامّةِ؛ وخاصّةً بكلِّ ما يَتعلّقُ بعالمِ الطّفولةِ وما يُناسبُهم، وما أروعَ الكاتبةَ غادة السّمّان حين سُئلت: لماذا لا تكتبين للأطفال؟ أجابت: لأنّني لا أُتقنُ الكتابةَ للأطفال! هذهِ الصّراحةُ معَ النّفسِ أوّلًا ومعَ الآخرِ ثانيًا؛ هي المطلوبةُ مِن كلّ كاتبٍ للأطفال.
سهيل عيساوي قادمٌ مِن عالم الأطفال، هو أبٌ ومُرَبٍّ ومُديرُ مدرسةٍ ابتدائيّةٍ، على احتكاكٍ دائمٍ وفعّالٍ معَ عالمِ الأطفال، ومِن المُربّينَ الحريصينَ دائمًا على تطويرِ الجانب التّثقيفيِّ للأطفال، مِن خلالِ اهتمامِهِ الدّائمِ بالمطالعةِ وتشجيعِ القراءةِ لدى الطلّاب، وقد لمستُ ذلك عن كثب، مِن خلالِ مُشاركتي في العديدِ مِنَ الورشاتِ الأدبيّةِ والفعاليّاتِ الثقافيّةِ في مدرستِهِ، ولمستُ مدى اهتمامِهِ بثقافةِ الطّفلِ وبأدب الأطفالِ خاصّة، ومدى تفاعُلِ الأطفالِ في مدرستِهِ معَ الموضوع. إضافة إلى كوْنِهِ مثقفًا، وخاصّة في مَجالِ أدب الأطفال، فهو يَقرأ كلَّ ما يُكتبُ في هذا المَجالِ تقريبًا، وكتابُه الرّائعُ: “دراساتٌ في أدب الأطفال المَحلّيّ” دليلٌ على ثقافتِهِ في هذا المجال.
أدبُ الأطفالِ خطيرٌ لأنّهُ أدبٌ تنمويٌّ- إذا صحّ التّعبيرُ- مسؤولٌ عن تنميةِ الطّفل، شعوريًّا وفكريًّا وتربويًّا واجتماعيًّا وحضاريًّا وإنسانيًّا، لذلك ليسَ مِن السّهولةِ بمكانٍ الكتابة للطّفل، وما أروعَ الكاتبَ الروسيَّ “مكسيم جوركي” الذي اقتنعَ، بأنَّ الكتابةَ للطّفلِ يجبُ أنْ تنبعَ مِن رغبةِ الأطفالِ أنفسِهم، ومِن وحي أفكارِهم وعالمِهم الدّاخليِّ والحِسّيّ، لذلك عندما قرّرَ أنْ يَطرُقَ عالمَ الكتابةِ للطّفلِ، طافَ مدارسَ بلدِهِ الابتدائيّةَ، وطلبَ مِنَ الأطفالِ أنْ يُجيبوهُ على سؤالٍ واحدٍ: “ماذا تُحِبُّ أنْ تقرأ؟” وكم كانتْ دهشتُهُ كبيرة، عندما وَجدَ أنّ ألفَيْ رسالة كانت تحملُ نفس الإجابة: “أحِبُّ أنْ أقرأ كلَّ شيء”!
الإنسانُ العاديُّ يَفهمُ مِن هذا الجوابِ أنّ الطّفلَ لا يعرفُ ماذا يريدُ، ولا يستطيعُ أنْ يُقرّرَ لنفسِهِ، ولا يَملكُ القدرةَ على القرارِ، ولا يعرفُ أن يُعبّرَ عمّا يُريدُ، ولكنّ جوركي أدركَ بعقليّتِهِ المُنفتحةِ أنّ الطّفلَ باحثٌ بالفِطرة، فالذي يُحبُّ أنْ يقرأ كلَّ شيءٍ، هو مَن يَسكُنُهُ هاجسُ البحثِ عن كلِّ شيءٍ، والرّغبةِ بالكشفِ عن كلِّ شيءٍ، وأنّ الطّفلَ لا يبحثُ عن الثّقافةِ، أو عن الحدَثِ، ولا عن الفِكرِ العميقِ، ولا عن التّسليةِ والتّرفيهِ مِن خلال ما يقرأ، كما يظنُّ الكثيرون، ولكنّهُ يبحثُ عن عنصرِ الدّهشةِ. إنّهُ يَبحثُ عن لحظةٍ مُدهشةٍ وحُلمٍ مُدهشٍ في القصّةِ، وعن جُملةٍ تَعلَقُ في ذهنِهِ، وتُغيّرُ لونَ عالمِهِ، جُملةٍ يَحفظُها ويُكرّرُها حيثما ذهبَ، فقرّرَ أنْ يَكتبَ للطّفلِ ما يُدهِشُهُ.
المدرسة التّحليليّة في الأدب التي ترتكزُ إلى علم النفس التّحليليّ، ترى أنّ ما كانَ يُكتبُ للأطفالِ في الماضي لا يُلائمُ أحلامَهم ولا وعيَهم، فقد كانَ يُقدّمُ لهم وجباتٍ مِن مثاليّةٍ نابعةٍ عن عقدةِ النقصِ والخوفِ، والبحثِ عن طمأنةِ النّفس ولو بالوَهم، فكانتْ قصصُ الأطفال تَزخرُ بالأمثلةِ المثاليّةِ المُستمَدّةِ مِن فلسفةِ عدالةِ الأدب، فالمظلومُ يجبُ أن يجدَ مَن يَنصُرُهُ، والضّعيفُ يجبُ أن يجدَ مَن يُقوّيهِ، والمُستضعَفُ يجبُ أنْ يجدَ مَن يَنتصرُ لهُ، والقويُّ يجبُ أن يَنكسرَ أمامَ عدالةِ الفِكرِ والخيالِ، وهذهِ كلّها أمثلةٌ لا تُربّي سوى الاستسلاميّةِ والاتكاليّةِ في نفس الطّفل!
سهيل عيساوي وعى هذه المعضلةَ، وكسَرَ هذا الحاجز، ففي قصّةِ “يارا ترسُمُ حلمًا” خرجَ عن النّمطيّةِ، فكسَرَ صورةَ المُعلّمةِ النّمطيّةِ، ليَخلقَ نموذجًا لِمعلّمةٍ تفتحُ نوافذَ للحلمِ أمامَ الطّفل، فالحلمُ للطفولةِ بدايةُ الانطلاقِ للعملِ للإنجاز وللإنشاء.
وفي قصّة “ثابت والرّيح العاتية” مثلا، كسَرَ حاجزَ بساطِ الرّيح الخياليِّ الذي يَحملُنا إلى عالمٍ مثاليٍّ ورديٍّ، ليَجعلَ الطّفلَ ثابت يَستمدُّ معنى اسمِهِ “الثّبات”، ويَقفُ بوجهِ الرّيح يبتلعُها وتبتلعُهُ، يحملها وتحملُهُ، يَخدمُها وتخدمُهُ، ليكتشفَ في لحظةِ إبهارٍ أنّهُ لن يَحصلَ مِن الرّيحِ سوى على الألم والغبارِ والأذى!
وفي قصّةِ “توبة ثعلب” كسَرَ سهيل عيساوي النّمطيّةَ المِثاليّة، وجعلَ الثّعلبَ في لحظةِ إبهارٍ يَتحوّلُ إلى خروفٍ، ليحميَ نفسَهُ مِن بَطشِ الأسدِ، ويَقفُ عاجزًا ليستمعَ لنصيحةِ النّورس، ولكنّهُ يعودُ ليَخلعَ هذا الثّوبَ، وليَرجعَ إلى طبيعتِهِ حين استبدّتْ بهِ غريزتُهُ الأصليّة، ليعودَ إلى طبعِهِ الذي لا يُمكنُ أنْ يَتغيّرَ. وفي لحظةِ إبهارٍ أخرى، تكتشفُ الأغنامُ أنّها لن تنجُوَ مِن غدرِ الثعلبِ، إلّا بالحذرِ والهرَبِ في الوقتِ المُناسبِ مِن أمامِه.
وفي قصّة “بجانب أبي” يَعرضُ لنا سهيل قصّة الطّفلِ الذي يُصِرُّ على الحصول على ما يُريدُ، ويُحاربُ مِن أجلِ تَحقيقِ رغبتِهِ، ليَغرسَ في نفسِ الطّفلِ: “إنّكَ لن تحصلَ إلّا على ما تُصِرُّ عليهِ، وما تُحاربُ مِن أجلِ تَحقيقِهِ”. وختامًا، إنّنا أمامَ قامةً أدبيّةً راقيةً، تكتبُ للطّفلِ بوعي وعُمق، وتَكسرُ حواجزَ المثاليّةِ، لتضعَ الطّفلَ أمامَ واقعٍ نابعٍ مِن فِكرِهِ وحياتِهِ، ليفتحَ لهُ نوافذَ للتفكيرِ والحُلمِ والشّعورِ، ليُعلّمَهُ الحياةَ بوعي ونضوج.
مداخلةُ حاتم جوعية/ قصَّة “ثابت والرِّيح العاتية” للأديب سهيل عيساوي: الأديبُ والمؤرِّخ “سهيل إبراهيم عيساوي” من سكان قريةِ “كفر مندا”، يكتبُ في جميع المجالاتِ والأنماطِ الأدبيَّةِ: شعر، قصة ونقد، وقد أبدعَ فيها جميعا وصدرَ لهُ العديدُ من الأعمال الأدبيَّةِ والدواوين الشعريَّة والدراسات. وفي الفترةِ الأخيرةِ بدأ يُكثّفُ كتاباته في مجال أدبِ وقص الأطفال. صدرَ لهُ عدَّة مجموعاتٍ قصصيَّة: *يارا ترسمُ حلما. *اِحذرْ يا جدّي. *طاهر يتعثر بالشبكةِ العنكبوتيَّ. *بجانب أبي. *الأميرة ميار وحبَّات الخوخ. *الصيَّاد والفانوس السحري. والقصَّة التي بين أيدينا الآن بعنوان: “ثابت والريح العاتية” والتي حصلت على جائزةِ “ناجي نعمان”- اللبنانيَّة الدوليَّة- بفضل مستواها الراقي وأسلوبها المميَّز وأهدافها وأبعادها الفنيَّةِ والجماليَّةِ والإنسانيَّة .
تقعُ القصَّة في 24 صفحة من الحجم الكبير، مطبوعة طباعة أنيقة فاخرة، بورق سميكٍ لامع، على حساب الشَّاعر. لم يُذكر اسمُ المطبعةِ وأين طُبعت. تُحلِّي الكتابَ صورةٌ جميلةٌ على الغلافِ من الوجهين، وعدَّةُ صور في داخل الكتابِ، مُلوَّنةٌ ومُعبّرةٌ عن مواضيع وأحداثِ القصَّةِ، بريشةِ الفنانةِ التشكيليَّةِ “فيتا تنئيل”، وقد راجعَ الكتابَ/ القصَّة ودققهُ لغويًّا الأستاذ أحمد شدافنة.
استعراضُ القصَّةِ: تتحدَّثُ القصَّة عن طفلٍ صغيرٍ اسمُه “ثابت”، عُمرهُ 7 سنوات يعيشُ في قريةٍ هادئةٍ مُسالمةٍ، وفي ليلةٍ ظلماء هبَّت ريحٌ عاتية على القريةِ، فاقتلعتْ كلَّ شيءٍ وهدمَت المنازلَ والبيوتَ، وقضت على الأخضر واليابس، وأصبحت القرية بلقعًا وطللا دارسا. أمَّا الطفلُ ثابت فقد استيقظ من نومهِ العميق مذعورًا خائفا على صوتِ الضوضاءِ، وعصفِ الريح المخيفِ، وتحطُّم الأشياءِ وارتطامِهَا بالأرض الصَّلبةِ، فدَّبَّ الرُّعبُ في قلبهِ، وحاولَ الاختباءَ تحت السَّرير، لكنَّ الرِّيحَ طرقتْ بابَهُ بقوَّةٍ، فأسرعَ نحوَ النافذةِ وقفزَ منها، وبدأ يركضُ بسرعةٍ جنونيَّةٍ كالغزال، والرِّيحُ تتبعُ ظلَّهُ الصَّغير، ولم يجدْ مكانًا يلجأ إليهِ سوى مغارةٍ صغيرةٍ، بابُها ضيِّقٌ في أسفل الجبل الشَّامخ. وقفت الريحُ أمامَ بابِ المغارة، فنظرَ إليها ثابت وَتسَمَّرَ مكانهُ، وقد تجمَّدَ الدَّمُ في عروقهِ. سألتهُ الريحُ: ما اسمكَ؟ أجابها بصوتٍ مرتجفٍ مرَّتين “ثابت.. ثابت” فقالت لهُ الريحُ: لا نخفْ، لن أمَسَّك بسوءٍ. لكن ثابت لم يُصدِّقها وقالَ لها: كيفَ أصدِّقكِ وقريتي دُمِّرَت عن بكرةِ أبيها؟ كيفَ أثقُ بكِ مُجَدَّدًا؟ لكنّ الرِّيحَ طمأنتهُ وعرضت عليهِ طلبًا صغيرًا، وهو أن تبتلعَهُ ويبتلعهَا، أي أنَّ الريحَ تخافُ الشَّمسَ، إذا ظهرتْ وأشرقَ نورُها، حيثُ يَثقلُ جسدُها وتوهنُ قوَّتُها، لذلك، تريدُ مِن ثابت أن يَبتلعهَا في النهار ويُخفيها في بطنهِ، وفي الظلام هي تبتلعُهُ وتحميهِ مِن براثنِها وغضبِها وهيجانِها ومن وحوش البرِّيَّةِ، فمَصلحتُهما هي وهو مشتركة. وافقَ ثابت، وقد طمَّعتهُ وأغرتهُ الريحُ أنّها عندَ حلول الظلام تطيرُ بهِ حولَ العالم، ليُشاهدَ عجائبَ الدنيا السبع، وسور الصين العظيم، والأهرام في مصر، ومدينة البتراء، والبحر الميت، وكلّ بقعةٍ ومكان في أرجاءِ المعمورةِ. يحلمُ في الوصول إليهِ “ذكَرَ الكاتبُ أماكنَ ومُدنًا هامّةً يَحلمُ كلُّ شخصٍ أن يزورَها، فيظهرُ هنا عنصر الترغيب والتشويق للطفل”، فوافقَ بعدَ تفكيرٍ، وأقبلَ إليها صوبَ المغارةِ، فضمَّتهُ بذراعيْها، وتَوارى بداخلِها، وانطلقتِ الريحُ فرِحَةً تجوبُ البلادَ، وشاهدَ ثابت بأمِّ عينيهِ أروعَ وأجملَ المناطق والبحار والأنهار والغابات، وحطَّتْ بهِ في أروع البساتين والجنائن، وقد تذوَّقَ ألذَّ الأطعمةِ وأشهاها، حتّى أصبحَ ثقيلًا وسَمينًا، لكنّهُ لم يَهتمَّ لذلك. وتمرُّ الأيَّامُ كلمح البصر، وشَعرَ بأنَّ ملامحَهُ وشكلَهُ تغيَّروا كليًّا، وأصابعَهُ أصبحتْ خشنةً، وصوتَهُ تغيَّرَ، ووزنَهُ زادَ كثيرًا، وحركتَهُ ثَقُلَتْ، وإرادتَهُ تلاشتْ، واختفتِ الطفولةُ مِن عينيْهِ وملامحِ وجههِ البريء، وأمَّا الريحُ فقد اشتدَّ عودُها وتعاظمَ عصفُها وعنفوانُها وجبروتُها، ولم تعُدْ تخشى الشَّمسَ في وضح النهار، فأدركَ ثابت فيما بعدُ المصيبةَ والورطةَ التي وقعَ بها، وبدأ يُفكِّرُ في طريقةٍ وخطَّةٍ حكيمةٍ ومنطقيَّةٍ، للتخلُّصِ مِن الريح الانتهازيَّةِ الماكرةِ التي استغلتهُ أبشعَ استغلالٍ، فهو يَحنُّ ويَشتاقُ إلى أطلالِ قريتِهِ التي دمِّرتها الريحُ، ولرائحةِ ترابها المعطَّر بالزَّعتر والياسمين، ويشتاقُ بجُنونٍ لأترابهِ، ولِظلِّ شجرةِ الرّمّان، ولسريرهِ الدافئ، ولدفترِ الرّسم وأقلامِهِ المُزركشةِ، ولألعابهِ المُشاكِسة، وكم تمنّى في قرارةِ نفسِهِ أنهُ لم يُصاحبْ هذه الريح اللعينة، وقد أحسَّتْ ولمحتِ الرِّيحُ أفكارَ ثابت تجولُ وتتمرَّدُ في خاطرهِ المُتعَب الحزين، فأضمَرَتْ لهُ الشَّرَّ، لأنّها لم تعُدْ بحاجةٍ إليهِ كما كانتْ في السابق، فكفَّتْ عن الإختباءِ بداخلهِ عندما تَطلعُ الشمسُ، لأنّها جمعت ما يكفيها من قوَّةٍ وعزم وأحزمةٍ غليظةٍ من الشِّرِّ، أي أخذتْ منهُ ما تحتاجُ إليهِ من طاقةٍ ناقصةٍ، لتتغلبَ على ضوءِ وحرارةِ الشَّمس. بعدَ أن أظلمَ اللّيلُ، تدحرَجَ ثابت عميقًا في جوف الريح، فحملتهُ خلسةً إلى صحراءَ قاحلةٍ لا عُشبَ ولا زرعَ ولا ماءَ وحياة، ولا يَسكنُها مخلوقٌ ولا بشرٌ، وألقتْ بهِ على الرمال الحارقةِ. عندما لاحَ الفجرُ، استفاقَ ونظرَ بذهولٍ حولَهُ، فوجدَ نفسَهُ في صحراءَ قاحلةٍ لوحدِهِ، لا أنيسٌ ولا رفيقٌ ولا جليسٌ، فبدأ يصرخُ بأعلى صوتِهِ ويَرجعُ إليهِ الصَّدى. بحثَ عن الريح فلمْ يَجدْها بقربهِ، فأمسَكَ بيديْهِ حفنةً مِنَ الرمل ونثرَهَا في الهواءِ وقالَ بغضبٍ: الويلُ لكِ أيَّتها الرِّيحُ اللئيمة! وتنتهي القصَّةُ نهايةً مفتوحةً، أي لا توجدُ لها نهاية.
تحليلُ القصَّة: هذه القصَّة كُتِبَتْ وَنُسِجَت فصولُها وأحداثُها بلغةٍ أدبيَّةٍ جميلةٍ راقيةٍ سلسةٍ عذبةٍ شاعريَّةٍ، فيها الكثيرُ مِنَ الكلماتِ المُنمَّقة، حافلة بالتوظيقاتِ الراقيةِ المُبتكرَة ومنها التقليديَّة، فهيَ خياليَّةٌ فانتازيَّة بحتة، فيها الكثيرُ من المعاني والأهدافِ المُبَطَّنةِ، ترمزُ وتُشيرُ إلى قضايا وأمورٍ عديدةٍ هامَّةٍ في حياتِنا العامَّةِ كعربٍ فلسطينيِّين، وترمزُ لأبعادٍ إنسانيَّةٍ وفلسفيَّةٍ وأمَمِيِّةٍ شاملةٍ، تُذكّرُنا بالقصصِ العالميَّةِ المُترجَمةِ لكبارِ الكُتّابِ العالميِّين. الأستاذ سهيل عيساوي دونَ شكٍّ، قبل أن يكونَ كاتبًا وشاعرًا وأديبًا قديرًا مُبدِعًا، هو قارئٌ جيّدٌ واسعُ الاطّلاعِ والآفاق، لهُ ثقافةٌ واسعةٌ، ومُطّلعٌ على مُعظم الكتبِ والرّواياتِ الأدبيَّة العربيَّة والعالميَّةِ بلغةِ الأمِّ أو المُترجَمة، لهُ خبرةٌ واسعةٌ وتجربةٌ طويلةٌ ثريَّةٌ في عالمِ الأدبِ والإبداع، خاصَّة في مجالِ الرِّوايةِ والقصَّةِ وكيفيَّةِ نسْجِ وبناءِ القصَّة، وبالذاتِ في مجالِ قصصِ الأطفال، وبصِفتِهِ مُدرِّسًا ومُديرَ مَدرسةٍ قريبًا مِنْ عالمِ الأطفال، فهو يَعرفُ حاجاتِ الطّفلِ وخصوصيّاتِهِ ومُتطلّباتِهِ النفسيَّةِ والعقليَّةِ والذوقيَّة.
القصَّةُ مُستواها عالٍ جدًّا مِن جميع النّواحي؛ الفنيَّةِ والأدبيَّةِ، الفكريَّةِ والموضوعيَّةِ، وهي مُميَّزةٌ في أبعادِها الإنسانيَّةِ والفلسفيَّةِ والوطنيّةِ والتربويَّة إلخ.. أي أنّها قصَّة ٌشاملةٌ تحوي في داخلِها كلَّ شيءٍ، ولها قيمتُها وأهميَّتُها في كلِّ المجالاتِ والأمورِ والمواضيعِ، تَحملُ في طيَّاتِها رسالةً ساميةً مُثْلى للأطفالِ قاطبةً. وحسب رأيي، القصّةُ لجيل الطفولةِ المتقدَّم النّاضج بعدَ جيل 10 سنوات وما فوق، لأطفالٍ مستوى ذكائِهِم عالٍ جدًّا، لهُم خيالٌ واسعٌ مُجَنحٌ، ولجيلِ الطفولةِ المُتقدّم، ولأشخاصٍ بالغينَ وكبار بعدَ مَرحلةِ الطفولة، لأنَّ الطفلَ العاديَّ والصّغيرَ في مرحلةِ الطفولةِ المُبكّرةِ، بمستوى ذكائِهِ وعقلِهِ وطاقاتِهِ وقدرةِ استيعابِهِ وفهْمِهِ وإدراكِهِ الطبيعيّ، يستعصي عليهِ فهْمُ أبعادِ وأهدافِ القصّةِ ومعانيها المُبطّنةِ المُستترةِ وراءَ السّطورِ والأحرف، وهنالكَ كثيرٌ مِن الكلماتِ الفصحى المُنمَّقةِ الصّعبةِ، فالشخص الكبير سِنِّا قد لا يَفهمُها، فكيفَ بطفلٍ صغيرٍ في بدايةِ نضوجهِ العقليّ والحسّيّ والجسديّ، وتكوينِ وبلورة شخصيَّتهِ؟
مِن النّاحيةِ اللغويَّةِ القصَّةُ زاخرةٌ وحافلةٌ بالكثير مِن الكلماتِ الفصحى الجميلةِ المُموسَقةِ والصَّعبةِ على الفهم أحيانًا مثل: تزمجرُ، ضوضاء، ارتطام، هَمَت أي سقطت وهطلت، أنقضَّ، براثن، أرجاء المعمورة. وهنالكَ كثيرٌ مِن المُصطلحاتِ اللّغويَّةِ، والاستعاراتِ البلاغيَّةِ الجميلةِ الرَّاقية، وقد لا تحتملُها قصَّةٌ بسيطةٌ كُتبتْ للأطفال، مثل التشبيهات الشَّاعريَّةِ التالية: “مذعورًا، صوت الضوضاء ص7″، و”عصف الريح المخيف ص7″، و”أرخى الليلُ سدولهُ ص21″، و”أحزمة غليظة من الشَّر ص21″، و”أترابه ص19.. أي أصدقاؤُه الذين في مثل سنِّهِ”، “وإن بزغت ثقل جسدي وَوَهَنت قوَّتي ص10”. هذهِ المصطلحاتُ تبدو طبيعيَّةً ومفهومةً للكبير، لكنّ الطفلَ الصغيرَ لا يعرفُ مَعانيها وأبعادَها البلاغيَّة، ومثلُ هذهِ العباراتِ والجُملِ الشَّاعريَّةِ هي كبيرةٌ وثقيلةٌ على عقليَّةِ الطفل الصّغير، “تفرَّقتْ فراخُها أيدي سبأ.. ومشَّطتْ أسرابُ العصافيرِ السَّماءَ ص5″. و”والقمر كئيب حزين، يُراقبُ الأحداثَ عن كثب بصمتٍ مُطبَقٍ، يَعضُّ على شفتيهِ بشدَّةٍ حتّى همَتْ دموعُهُ على خدَّيهِ ص7″، و””فقد جمَعَتْ ما يَكفيها مِن قوَّةٍ وعزم وأحزمةٍ غليضةٍ من الشَّرِّ ص21”. هذا بالنسبةِ للغةِ القصَّةِ من الناحيِةِ الشكليَّةِ والذوقيّةِ، وكلماتِها الفصحى الصَّعبةِ، وللتشبيهاتِ والاستعاراتِ البلاغيَّةِ، وللغةِ الشَّاعريَّةِ المُموْسقةِ الجميلةِ المُنمَّقةِ السَّاحرة، قد تكونُ صعبةً ثقيلةَ الوطْءِ على الطفل الصَّغيرِ، ومستوى ذكائِهِ وقدراتهِ الذهنيَّة، ومدَى استيعابهِ للأشياء نظرًا لجيلهِ. لكنّها قد لا تستعصي على الطفل البالغ والناضج بيولوجيًّا وعقليًّا، فهي لجيل الطفولةِ المتقدَّم وللكبار، وليست لجيلِ الطفولةِ مِن ثلاثِ سنواتٍ إلى عشر سنوات.
جوانبُ أخرى يَتطرَّقُ إليها الكاتبُ ويُعالجُهَا في القصَّةِ هي:
1*الجانبُ التّعليميُّ والإنسانيُّ للكبارِ وللصّغار: الدَّرسُ التعليميُّ الهامُّ مَفادُهُ وفحواهُ، أنّهُ يَجبُ علينا التّريُّثُ والحذرُ وعدمُ التّسرُّعِ في قراراتِنا، وعلى كلِّ طفلٍ صغيرٍ لا توجدُ عندَهُ التجربةُ الكافيةُ في الأمور والمشاكلِ الحياتيَّةِ المتعدِّدَة، ولم يختبرْ تقلّباتِ الدَّهر ونوائبَهُ، ألَّا يَثقَ بكلِّ شخصٍ ويُسلِّمُهُ عُنقَهُ، لأنَّ هنالكَ العديدَ مِن السّلبيِّينَ والأشرارِ، يُظهِرونَ الوَداعةَ والسّكينةَ والنوايا الطيِّبةَ زيفًا، لأجلِ تحقيقِ مَصالحِهم ومآربِهم الشّخصيَّةِ الدّنيئةِ الشرِّيرة، وعندما يَنالون أهدافَهم ومآربَهم، يُديرونَ ظهورَهم، وقد يَتحوَّلونَ إلى عقاربَ وأفاعٍ سامَّة، فيَلسعونَ ويُؤذونَ كما حَدثَ مع الطفل “ثابت” في هذه القصَّة.
3*البُعدُ الإنساني والاجتماعيّ. 4*البُعدُ الفلسفيّ. 5*البُعدُ الجماليّ والذوقيّ والفنّيّ.
6*البُعدُ الوطنيّ والقوميّ: لقد وظّفَ الكاتبُ الرّيحَ كرمزٍ تشيرُ إلى الأعداءِ الأشرارِ المُحتلِّين، الذين اجتاحوا البلادَ وعاثوا فسادًا وخرابًا فيها، ونشروا الرُّعبَ واحتلُّوها وَهَجَّرُوا سكّانَها، وقريةُ الطفل ثابت التي هاجمتها الريحُ، ترمزُ إلى الأرضِ والوطنِ والقضيَّةِ الفلسطينيَّة، وإلى القرى التي دُمِّرَت وشُرِّدَ سُكّانُها وأصبحتْ أطلالا. وجاءَ على لسانِ ثابت حنينُهُ وشوقُهُ إلى أطلال قريتهِ ورائحةِ تربتِها المُعطّرةِ بالزَّعتر، والزَّعترُ والزيتونُ رمزانِ للبقاء، ومِن الطّعامِ الفلسطينيّ الشَّعبيّ المُحَبَّذ، ورمزانِ لكلِّ قريةٍ فلسيطينيَّةٍ في جَميع أنحاء فلسطين وقراها، ولشَجرِ الرُّمان الذي كانتْ مُعظمُ القرى الفلسطينيَّةِ تَزرعُهُ، ومِن القرى الفلسطينيَّةِ التي اشتهرتْ حقولُها وحواكيرُهَا ومُسَطّحُهَا والأراضي المحيطة بها بالزَّعتر قرية ميعار، والتي دُمِّرتْ عام 1948 وَشُرِّدَ أهلُها الفلسطينيُّون، وسكنوا في المَنافي وفي عدَّةِ قرى أخرى مُجاورةٍ بَعدَ عام النكبةِ، وهناكَ تلُّ الزعتر المَشهورُ في قريةِ ميعار المُهجَّرة، ونحنُ نجدُ تمازجَ الجوانبِ وتلاحمَ واختلاطَ المفاهيمِ الوطنيَّةِ، معَ الجانب الاجتماعيّ والإنسانيّ والذاتيّ في تلكَ اللّوحةِ الشّاعريَّةِ التي يَعرضُها الكاتبُ، على لسانِ الطفل تامر وحنينِهِ لقريتهِ المُدَّمرة، حيثُ يقولُ ص19: “وأخذ يُفكِّرُ في طريقةٍ حكيمةٍ، للتخلُّصِ مِن الريح الانتهازيَّةِ، فهو يَحِنُّ لأطلالِ قريتِهِ ورائحةِ تربتِها المُعَطَّرةِ بالزَّعتر والياسمين، ويَشتاقُ بجنونٍ لأترابهِ، لظلِّ شجرةِ الرمان، لسريرهِ الدَّافئ “شيء ذاتيّ وطفوليّ”، لدفترِ الرّسمِ وأقلامِهِ المزركشةِ “خاص بالطفل وللتعليم”، ولألعابهِ المُشاكِسة..”.
إنَّ البُعدَ الإنسانيَّ والاجتماعيَّ والذاتيَّ والوطنيَّ نَلمَسُهُ بوضوحٍ في هذهِ اللّوحةِ الفنّيَّةِ الشّاعريَّة، ونجدُ أيضًا الجانبَ اللّاهوتيَّ وعنصرَ الإيمان، وترمزُ الرّيحُ إلى الشّيطانِ وقُوى الشَّرّ ولكلِّ مصدرٍ وشخصٍ شرّير، وإلى كلِّ جهةٍ مُشعوذةٍ كافرةٍ تخدعُ الآخرين، وتوهِمُهم وتزيِّنُ لهم الأمورَ، وتجعلُ مِن البحرِ مَقاثي بطيخ، وتبني قصورًا في الهواء والأحلامِ والخيال، وفي النهايةِ تترُكُهم مُعلَّقينَ بينَ الفضاءِ والأرض دونَ نجاةٍ مِن مُصيبَتِهم، كما حدَثَ معَ الطفل ثابت الّذي أغرَتْهُ الرّيحُ وخدَعَتْهُ، ثمّ ألقتْ بهِ في صحراءَ قاحلةٍ، وتركَتْهُ معَ مَصيرهِ المأساويِّ لوحدِهِ، والشّيطانُ في مَفهومِ كلِّ الدّياناتِ السّماويَّةِ مَصدرُ وأساسُ كلِّ شرٍّ، فهو عدُوٌّ للإنسان، يُغريهِ لِيُوقِعَهُ في المعاصي، وليَسيرَ في الباطل والضّلال، وليُدَمِّرَهُ جَسديًّا وروحيًّا، ويَخرجُ لا دينا ولا دُنيا. كلمة شيطان تعني أيضًا كلَّ شخصٍ شرّيرٍ، يعملُ بحسب مآربه الشيطان وأهدافِهِ، ويُحاولُ أنْ يَخدعَ كلَّ إنسانٍ خيِّر ونظيفٍ، فيعدُهُ بالنّجاحِ والجَاهِ والمَجدِ والمال، وبَعدَ أنْ يَسيرَ معهُ في طريقهِ ودروبهِ المُضلّلة، سرعانَ ما يَتركُهُ مُعلّقًا بين السماءِ والأرض وفي أسوأ ظرفٍ ومصير، دون مُعينٍ أو أملٍ أو عزاء، ولا يكونُ لهُ رجاءٌ في الخروج مِن مأزقهِ.
الجانبُ السَّرديُّ والترفيهيُّ “التّسلية”: القصَّةُ جميلةٌ جدًّا، خياليَّةٌ وفانتازيَّةٌ، يَستمتعُ كلُّ شخصٍ في قراءتِهَا كبيرًا وصغيرًا، فهيَ مُسلّيةٌ وترفيهيَّةٌ، يذكُرُ فيها أسماءَ بعضِ المُدنِ، والفواكهِ وطعمِها اللّذيذِ لفتحِ الشّهيَّةِ لدى الطفل.
الجانبُ الفنِّيُّ: القصَّةُ على مُستوًى عالٍ، تُضاهي قصصًا عالميَّةً كُتبتْ للأطفالِ مِن قِبلِ كِبارِ الكُتّابِ، وقد حصلَتْ على جائزةِ “ناجي نعمان اللبنانيَّة” الدّوليَّة. القصَّةُ نهايتُها مفتوحةٌ، حيثُ بقيَ الطفلُ وحيدًا في الصحراء، ولم يَستمرَّ الكاتبُ في كتابةِ مَشاهِدَ وفصولٍ أخرى للقصَّةِ، ولم يُدخِلْ شخصيَّةً وعاملًا ما يأتي ليُنقذَ هذا الطفلَ البريء، ويُخرجَهُ مِن جحيمِ الصّحراءِ المُلتهبة، مثلَ كثيرٍ مِن القصصِ العالميَّةِ للكبار والصغارِ. في الآونةِ الأخيرةِ ومنذ أربعين وخمسين سنة تقريبًا، بدأ كُتّابُ القصصِ والرّواياتِ على أنواعها من العرب، يَصوغونَ ويَنسجونَ الكثيرَ مِن قِصصِهم على هذا المنوال، أي تنتهي نهايةً مفتوحةً، وكانتِ القِصصُ سابقًا مُعظمُها تنتهي بزواجِ البطل والبطلة، أو بنهايةٍ سعيدةٍ أخرى، وقليلٌ منها كان يَنتهي نهايةً مأساويّةً تراجيديَّة.
القصَّةُ صغيرةٌ حجمًا ومسافةً، لكنّها عريضةٌ في قيمتِها وفحواها وأبعادِها وأهدافِها، تمتازُ بجُملِها السَّلسةِ المُعَبِّرة، ويَستعملُ الكاتبُ الكثيرَ مِنَ الفواصلِ في نفسِ الجُملةِ لتَتابُعِ الأحداثِ، ونجدُ الطابعَ والنفسَ السَّرديَّ على لسانِ أبطالِ القصَّةِ، وفيها عنصرُ الحوارِ “ديالوج”، حيثُ يَتركُ أبطالَ القصَّةِ يَتحدَّثونَ معَ بعضِهم “حوار بين ثابت والريح” مثال:
“قالتِ الرِّيحُ ما اسمُكَ يا صبيُّ؟/ قال ثابتٌ “بصوتٍ مرتجفٍ”: ثابت.. ثابت. “ووضعَ الكاتبُ بين قوسين بصوتٍ مرتجفٍ، ليُؤكّدَ على خوف ورعب الطفل، وردَّدَ اسمَهُ مرَّتين مع نقطتين.. بين ترديد الاسم للتأكيد أكثر وأكثر في إظهار خوفه ورعبه/ قالتِ الرِّيحُ: لا تخَفْ، لن أمَسَّكَ بسوءٍ./ قالَ ثابتٌ: كيفَ أصَدِّقُكِ، وقريتي دُمِّرَتْ عَن بكرةِ أبيها؟/ كيفَ أثقُ بكِ مُجَدَّدًا؟! هنا يَظهرُ ويبرزُ بوضوح الجانبُ الوطنيُّ والقوميُّ والمُنطلقُ السياسيّ، ورّبَّما في معظم القصص المَحليَّة إن لم يكن جميعها التي كتبت للأطفال، لا نجدُ هذه النبرةَ وهذا الموضوع والفكرَ والتوجُّهَ الوطنيّ، وبهذهِ اللغةِ والأسلوب “قريتي دُمِّرَت عن بكرة أبيها؟ كيفَ أثِقُ بكِ مُجَدَّدًا”.
إنَّ معظمَ قصصِ الأطفالِ لكُتّابِنا المحلِّيِّنَ تتحدَّثُ عن الطابةِ واللعبِ والنظافةِ والصَّابون والكلبِ والعوّ والقِطّ والواوا وهكذا، ولا يوجدُ فيها عمقٌ وفلسفة ٌ للحياةِ، وتحليلٌ للأمورِ والقضايا المصيريَّةِ جميعها والأمميَّة، وهي بعيدةٌ عن الجوانبِ والقضايا السّياسيَّةِ والوطنيَّةِ والقوميَّةِ والإنسانيَّة شاملة. القصَّةُ تتحدَّثُ بلسانِ بطلِها ثابت عن كلِّ إنسانٍ مظلومٍ ومُضطهَدٍ وَمُشَرَّدٍ خارجَ وطنِهِ، أو بقيَ في وطنِهِ مُحاصَرًا ومُلاحَقًا، وعن كلِّ قريةٍ وبلدةٍ دُمِّرَتْ وَمُحِيتْ ودُرسِتْ آثارُها، وشُرِّدَ سُكّانُها في هذه المعمورةِ، أي فيها الطابعُ والجانبُ الإنسانيُّ والأمَميُّ قبلَ كلِّ شيءٍ، وليسَ فقط الطابعُ والجانبُ الإقليميُّ والمحلِّيُّ وللمحيطِ الضيِّق، فيها القضايا والأمورُ التي تهمُّ وتعني كلَّ إنسان ومخلوق في جميع بقاع العالم، وليسَ على الصَّعيدِ المَحلّيّ والقُطريّ “الفلسطيني والعربي فقط”. بهذا استطاعَ الكاتبُ أن يَرقى ويُحلِّقَ إلى المصافِ والمستوى العالميّ في إبداعِهِ، وليسَ على المستوى المحلِّي الضَّيِّق. القصَّةُ بالفعلِ هي قصَّةٌ عالميَّةٌ في مستواها وفحواها وتوجُّهها ولغتِها وأسلوبها، وأبعادِها الفلسفيَّةِ والفنيَّةِ والتعليميَّةِ والجَماليَّة. ويُوظّفُ عيساوي فيها ظواهرَ وعناصرَ الطبيعةِ للوصول إلى الأهداف والمواضيع والأبعاد التي يريدُها، وبشكلٍ وبأسلوبٍ تقنيٍّ سلسٍ جميلٍ، وبلغةٍ أدبيّةٍ راقيةٍ مُنمّقةٍ، وهو قريبٌ مِن جبران خليل جبران في روائعِهِ الخالدةِ التي يُوظّفُ فيها عناصرَ الطبيعةِ وسِحرَها وأسرارِها، خاصّة في المَواضيع الإنسانيَّةِ والفلسفيَّةِ والميتافيزيكيَّةِ، وهناك كثيرٌ مِن كتاباتِ جبران لم تُفهَم وتُفسَّر حتى الآن.
أخيرًا: أهنِّئ الكاتبَ المبدع الصديقَ الأستاذ سهيل إبراهيم عيساوي على هذا الإصدار الرَّائع، وأهنّئهُ أيضًا على نيلهِ جائزة ناجي نعمان اللبنانيَّة العالميَّة” لهذه القصَّة.. فمبروك وإلى الامام دائمًا، وعقبال إصدارات أخرى إبداعيَّة وجوائز دوليَّة.
مداخلة الأستاذ علي قدح/ صورة المُعلم في أدب الأطفالِ المَحلّيّ: كما صوّرَها الأديبُ سهيل عيساوي في كتابهِ الأخير “دراساتٌ في أدب الأطفال المَحلّيّ”، فالكتابُ قَيّمٌ يُعطي نظرةً شاملةً عن أدب الأطفال المَحلّيّ، إذ اعتمدَ المؤلفُ على أسلوب قراءةٍ نقديّةٍ تحليليّةٍ، وتقسيم أدب الأطفال بشكلٍ عامّ إلى مواضيعَ فرعيّةٍ مِحوريّةٍ، يَتناولُ كلُّ محورٍ جانبًا موضوعيًّا خاصًّا، وتطرّقَ مِن خلال هذهِ المَحاورِ إلى كتاباتٍ وإبداعاتٍ وإصداراتٍ لأدباءَ بارزينَ يكتبون عن أدب الأطفال بشكلٍ مُقتضَبٍ مع قراءةٍ تحليليّةٍ، مِن خلال بحثٍ كَيفيٍّ تحليليٍّ “تحليل مضامين”، وهذه تجربةٌ فريدةٌ مِن نوعِها، تحوّلَ بها الأديبُ سهيل عيساوي إلى باحثٍ في الأدب، وسوفَ أتناولُ مِن خلالِ هذهِ المُداخلةِ المُتواضعةِ مِحورَ صورةِ المُعلّم في أدب الأطفالِ المَحَلّيّ:
1* صَوّرَ الأديبُ سهيل العيساوي دوْرَ المُعلّم بأنّهُ مَركزيٌّ في قصّتِهِ الرائعة “يارا تَرسُمُ حُلمًا”، وأشارَ الكاتبُ إلى أهمّيّةِ التّمسُّكِ بحُلمِ الطفلِ، لأنّهُ الجسرُ المَتينُ الذي يَعبُرُ بهِ لمستقبلٍ زاهرٍ، إذ إنّهُ البذرةُ التي يجبُ الاعتناء بها جيدًا حتى تكبرَ وتكبر، لأنّ الأحلامَ إذا تجاهلناها تموتُ. يارا حققتْ حُلمَها وهي في الصفّ الثالث، وهي اليوم مُعلمةٌ ناجحة كنهايةٍ إيجابيّةٍ للقصّة، بمثابةِ وسيلةٍ توضيحيّةٍ للمُربّي والمستشارِ التّربويّ في جميع الصّفوفِ، خاصّة الإعداديّة والثانويّة.
2* “ما قصّة هشام والعمّة هيام”، تأليفُ نزهة أبو غوش، إصدارُ مركز الأطفالِ العربيِّ في إسرائيل عام 2000: المُعلّمة سهاد مُربّية الصفّ لم تلحظ أنّ أحدَ طلّابِها يُعاني مِن الفقرِ المُدقع، ومنذ سنتيْن لم يُشاركْ في أيّة رحلةٍ ترفيهيّةٍ، بسبب وضعِهِ الاقتصاديِّ الصّعب، وهذا يدلُّ على الجفاءِ العاطفي بينَها وبين طلّابها! المعلمة أخذتْ دوْرَ المُحققةِ، واتّهمتْ طالبًا رغم براءتِهِ ولم تعتذرْ لهُ، وانحازتْ لطالب اَخر.
3* في قصّة “مُعلّمتي تنتظرُ موْلودًا”، تأليف حنان جبيلي عابد، إصدار دار الهدى كريم، دونَ تاريخ إصدار: صورةُ المُعلمة أنّها أصبحتْ سمينةً أسمنَ مِن الدبدوب الموجود في زاويةِ المنزل، فهل هذه السّمنة مِن كثرةِ الأكل أم لأنّها حامل؟ المعلمة نفّذتْ وعدَها للتلاميذ، وحضرَتْ إلى الصفّ معَ المولودِ الجديدِ، وهنا المعلمة “؟” تحترمُ تلاميذها، وحين حضرت المعلمة البديلة ربّما تشوّشَ عالمُ الطفل، ولكن هذا أمرٌ طبيعيٌّ وبديهيٌّ وشرعيٌّ، ومِن سُنّةِ الحياةِ المُبارَكة.
4* قصّة “احتفالُ الأشجارِ بعيدِها”، تأليفُ محمّد علي فقرا، إصدار دار الهدى للطباعة والنشر كريم، بدون تاريخ نشر. القصة تصِفُ صورة المعلّم مُحِبّ للطبيعة، يُحبّهُ الطلابُ وما زالوا يتذكّرونَ ما علّمَهم عن أنواع الأشجار رغمَ مرورِ الزمن. يُشركُ الطلاب بالحوار، لا يُقاطِعُهم، يُقسِمُ عليهم المَهام. تُظهرُ لنا القصّة الصورة الخطيّة التقليديّة للمعلم الذي يُحبّهُ الطلاب ويحترمونه، ويُصغون إليه خوفًا واحترامًا.
5* قصّة “رسالةٌ مِن طائرٍ مجهول”، تأليف رحاب زريق، إصدار مركز الكتاب والمكتبات في إسرائيل 2013. تتحدّث القصّة عن الطالب الذي يُعاني مِن عُسرٍ تعليميّ، ولا أحدَ يَفهمُهُ مِن المُعلّمينَ والطلاب. الكاتبة تُعالجُ المشكلة على شكلِ رسالةٍ يَكتبُها “البلبل”، وهو طالبٌ في المدرسة يُواجهُ صعوباتٍ تعليميّة جمّة، ويُرسلها إلى مدير المدرسة “الهدهد”. تستعرضُ القصّة ثلاثة أصنافٍ مِن المُعلمين: المعلّمُ الأوّلُ لا يَفهمُ الطالبَ الذي يُعاني مِن عُسرٍ تعليميّ، ويَسخرُ منه الطلابُ، مع أنّه كانَ يَحفظ المادّةَ عن ظهرِ قلب. والمعلّمُ الثاني مُختصٌّ، يُوجّهُ عنايتَهُ وطاقتَهُ للحدِّ مِن المصاعب التي يُعاني منها الطلاب، ويَضعُ الحلولَ المناسبة، وهو المعلم الذي وعد بهِ المدير. والمعلمُ الثالث هو مديرُ المدرسة “الهدهد”، ومِن صِفاتِهِ أنّهُ ذكيٌّ وقائدٌ مُبادِر، وفي نهايةِ القصّةِ يَنجحُ المُعلّمُ المُختصُّ في مساعدة البلبل.
الكاتبة تعرضُ مشكلة العُسرِ التعليميّ، وفشلَ مُعظم المُدرّسين في التعاملِ معهم، وتضعُ جهاز التربيةِ والتعليم في قفصِ الاتّهام، وتقلقها ظاهرةُ عدم مِهنيةِ البعض، وتسَلّقِهم على مهنةِ التدريس، ورغمَ أنّ القصّة جاءتْ على لسان الطيور، فهي قصّة رمزيّة، لكنّها مُباشرة، كثرَ فيها الخطابة والوعظ والإرشاد.
6* قصّة “تفاحة جلال”، تأليف ميسون أسدي، إصدار دار الهدى بإدارة عبد زحالقة، الكاتبة تطرحُ فكرةً عن المُعلّم الذي يَفشلُ في التعامل مع الطالب الذكيّ، إذ تعتقدُ أنّ الطالبَ جلال ذكيٌّ يَسخرُ منها، وهي تريدُ إخراجَهُ مِن الصّفّ والمدرسة، فلم تقرأ ذكاءَهُ ولم تُقدّرْ تفكيرَهُ، والحلّ عندَها هو إخراجُ الطالب كلّيًّا مِن المدرسة. مديرُ المدرسةِ للأسف، أخفقَ في فهْمِ المشكلةِ، وانحاز كلّيًّا لرواية المعلمة. صورة المعلمة ظالمة، ضيّقة الأفق، متسرّعة، لا تفهمُ كلّ الطلاب.
7* قصّة “غفران وعاصي” تأليف زهير دعيم 2007، يَصفُ الكاتبُ شخصيّة معلمة الفنون، ويطرحُ صورة المعلم المِثاليّ الذي يهتمّ بطلابه، وعلى استعدادٍ لحلِّ مَشاكلِهم حتى في بيوتِهم، فهو قريبٌ مِن قلوب الطلاب، يُشركُهم في الحلول، ولا يُؤجّلُ عمل اليوم إلى الغد.
ملاحظات الأديب سهيل عيساوي حول صورة المعلم في أدب الأطفال المحليّ: أشار إلى انحدارِ مكانةِ المعلم في المجتمع والتطاول عليهِ، كما في قصّة “تفاحة جلال”، و “معلمتي تنتظرُ مولودًا”، وقصّة “رسالة مِن طائر مجهول”، ونعتِ المعلّم بأبشع الصّورِ، وتحميلِهِ وزر كلّ الجرائم التربويّة، فبعضُ المعلمين أخفقوا في فهم الطلاب والتقرب منهم، كما في قصّة “تفاحة جلال” وقصّة “رسالة من طائر مجهول”. أمّا المعلم المِثاليّ فظهرَ في قصّة “يارا ترسُم حُلمًا” وقصّة “عاصي وغفران”، وأمّا المُعلم التقليديُّ فيظهرُ في قصّة “الأشجارُ تحتفل بعيدِها”. أمّا في قصّةِ “حكاية هشام والعمّة هيام”، فنلاحظ تقزيمًا لدوْر المعلم.
وعن أحداثِ القصص فمعظمُها تتناولُ شخصيّةَ المعلمة، إشارة واضحة إلى تأنيثِ جهازِ التربية، ممّا يَزيدُ في دوْر المرأة بعدَ أن زادت ثقافتها، وقامت بالتعليم في المدارس والجامعات، وانخرطتْ في العمل إلى جانب الرجل، وساهمتْ في تحمّل الأعباء الاقتصاديّة وبناء الأسرة، إضافة إلى تربيةِ الأطفال، وأصبحت تُشغلُ وظائفَ إداريّة أيضًا. بعدَما اطّلعتُ على هذا البحثِ المُستفيض، أضافتْ هذه القراءةُ نافذة بحثٍ في مواضيع جديدة في الأدب المحليّ للأدباء والنقاد، كي يتمّ مسحٌ وتقييمٌ لكلّ ما كُتبَ في هذا المجال، ممّا سيفتح اُفاقًا جديدة لولادةِ إبداعاتٍ قيّمةٍ مستقبلًا.
مداخلة الأديبُ سهيل عيساوي المحتفى به: أشكرُ حضورَكم البهيَّ شامةً على خدِّ حيفا عروس البحر، التي تلبسُ الليلةُ ثوب الأدبِ المُزركشِ بحُبّ اللغةِ العربيّةِ، وعِشقِ الأدبِ الجادِّ والأطفال، نُثمّنُ غاليًا الجهودَ التي يَبذلُها أعضاءُ المجلسِ المِليِّ الأرثوذكسيِّ الوطنيّ وأعضاءُ نادي حيفا الثقافيّ، للاحتفاءِ بالأدباءِ والكتبِ، وهذهِ رسالةٌ بليغةٌ، علينا الالتفافُ جميعًا حولَ هذا الصّرحِ الثقافيِّ الطلائعيّ الذي يَسعى إلى إحداثِ حَراكٍ ثقافيٍّ هامٍّ، فالاحتفاءُ بصدورِ كتابي “دراساتٌ في أدب الأطفالِ المَحلّيِّ” شرفٌ كبيرٌ لي، وإشارةٌ إلى الاهتمامِ بأدبِ الطفلِ، وليسَ سِرًّا أنَّ المُجتمعَ العربيَّ في البلادِ تأخّرَ وتلكّأ في الاهتمامِ بهذا اللّونِ الأدبيِّ المميّزِ، والهامِّ لبناءِ وصقلِ شخصيّةِ الطفلِ والكشفِ عن مواهبِهِ، بسببِ ظروفٍ سياسيّةٍ، وعُزوفِ ونفورِ الكُتّابِ عن تناولِ وطرْقِ هذا البابِ الواسعِ، لكنّنا اليومَ نُشاهدُ أنّ عالمَ الطفلِ مُستباحٌ مِن قِبَلِ الكُتّابِ ودورِ النّشرِ ومُؤسّساتٍ تُعنى بهذا الأدبِ، بلا رقابةٍ ومراجعةٍ، ودونَ تقييمٍ وتقويمٍ، حتّى اختلطَ الحابلُ بالنّابلِ. جاءَ هذا الكتابُ بمُساهمةٍ متواضعةٍ، ليُسلّطَ قليلًا مِنَ الضّوءِ على الإصداراتِ المَحلّيّةِ والمَواضيعِ الهامّةِ، وموقفِ الكُتّاب منها وكيفَ تُقدَّمُ لأطفالِنا، مثلَ دوْرِ المرأةِ ومكانةِ الجدِّ والجدّةِ، والتّحرّشِ الجنسيِّ، والخيالِ العلميِّ الخاصرة الرّخوةِ، ومَكانةِ المُعلّمِ، وتَشجيعِ المُطالعةِ، وصورةِ الذئبِ والثعلبِ، ومُحاولةِ كسرِ الصّورةِ النّمطيّةِ، وأشرْنا إلى أنّ بعضَ القصصِ جاءتْ فجّةً، ولا تَليقُ بأطفالِنا، ولا بأدبِ الطّفلِ، فبعضُ المواضيعِ فيها تكرارٌ واجترارٌ واقتباسٌ، بحاجةٍ إلى غربلة، وإلى ضرورةِ احترامِ مَشاعرِ الطّفلِ وعقلِهِ، واعتبارِهِ يُفكّرُ ويَبحثُ ويتطلّعُ إلى مستقبلٍ أفضلَ، بعيدًا عن سَحقِ قدراتِهِ وأحلامِهِ الورديّة.
إنّ توجيهَ النّقدِ البنّاءِ يَهدفُ إلى التّصويبِ والتقويمِ لتقديمِ الأفضلِ لأطفالِنا، لأنّ للقصّةِ الأثرَ الكبيرَ في نفوسِ الأطفالِ، فعلينا أن نُقدّمَ لهم أروعَ القِصصِ وملاءمتها مِن حيث اللغةِ والأفكارِ والأهدافِ التّربويّةِ والمُتعة، تحترمُ الطفلَ وأحاسيسَهُ، وتشجّعُ القراءةَ في الصّغرِ، لأنّ هنالِكَ علاقةٌ وثيقة بينَ قراءةِ القصصِ في الصّغرِ، وبينَ تطوُّرِ الذكاءِ لدى الطفل وتنمنيةِ قدراتِهِ العاطفيّةِ، وتمكُّنِهِ مِن سِحرِ وعذوبةِ اللغةِ ورسْمِ مستقبلٍ مُشرقٍ، فأدبُ الأطفالِ رسالةٌ وأمانةٌ.
كما أشكرُ جميعَ الأدباءِ الذين تناولوا قِصصي بشكلٍ مُعمّقٍ، تعلّمتُ مِن ملاحظاتِهم، أخصُّ بالذّكرِ الناقدَ المَغربيَّ محمّد داني، وصالح أحمد كناعنة، وعلي قدح، وحاتم جوعية، وغسّان حاج يحيى، ويوسف سعيد، ومحمّد علي سعيد، ومحمود سمحات، وكذلك المدارس العربيّة التي تبنّتْ قصصي، وقامتْ ببناءِ وحداتٍ تعليميّةٍ حولَها، حيث تشتركُ القصصُ في مشاريعَ تحثّ على المُطالعة، مثل مشروع “مسيرة الكتاب”. وافرُ الشّكرِ للأدباءِ الذين أتحفونا بمداخلاتِهم القيّمةِ، صالح أحمد كناعنة، والمحامي المبدع حسن عبادي، والشاعر المخضرم حنّا أبو حنا، ووافرُ الشّكرِ لعريفةِ الحفلِ الشاعرة فوز فرنسيس، كما أشكر المحامي فؤاد نقارة والأستاذ حسن عبادي على جهودهما في تنظيم هذا الاحتفال، وشكري لكلّ مَن دَعمَني في مسيرتي الأدبيّةِ مِن أفرادِ عائلتي وأصدقائي.
القصيدة/ سهيل عيساوي: تَلهو مع الحَسُّون/ تنزَلِقُ على ضفائِرِ الشَّمْسِ الذَّهَبِيَّةِ/ تنبِضُ في رحمِ الوجَع/ تتدفَّقُ في شرايينِ الإنسان/ تربِضُ في حُنْجَرَةِ شاعِر/ يغنّي لِمَرايا الأمل/ لزيتونةٍ تؤرّخُ تعثُّر الأيّام
أغنية للقدس/ سهيل عيساوي: بأيِّ الأسماءِ أناديكِ/ يا حَبيبَتي/ أور سالِم، مدينةَ السَّلام، يَبوس، الياء/ أورشليمَ، بيتَ المَقْدِس، القُدْس/ أسْماءٌ وَفيرةٌ/ يتلذَّذُ.. يتحبَّبُ التّاريخُ/ بِعطرٍ يعبَقُ من عَتبةِ دارٍ عتيقة/ وبابٌ في السُّوقِ/ يُحصي مَنْ تسوَّقَ وتردَّدَ/ مساجدُ وكنائسُ وكُنُسُ/ تحاوِرُ انفلاتَ التّاريخ/ وتقزيمَ روحِ الدِّينِ في قارورةٍ سوداءَ/ تَسكنُني الرَّهْبَةُ في حَضْرَتِكِ/ يصمُتُ القَلبُ طَويلاً/ ليَصْغي إلى عزفِ وِديانِكِ وقصبةِ نايٍ حَزين/ أطأُ الثرَّى رُوَيْداً رُويْدا/ في طريقِ الآلامِ/ خوفاً أن تَنْمَحي خُطْوَةٌ لِلْمَسيح/ بَعْدَ العَشاء الأَخير/ أبْوُاب القُدسِ لا زالَتْ تُحَدِّقُ بالفاروقِ/ تكادُ تَفِرُّ مِنْ مَكانِها لاحتضانِهِ/ يَتَرَجَّلُ والخادِمُ يَمْتَطي البرْذونَ/ وَتُشْرِقُ العهدةُ العُمَرِيَّةُ مِنْ بَيْنِ أصابِعِهِ/ أخْفِتُ صَوْتي.. خوفاً أنْ يَعلو/ جَلْجَلَةَ النَّصْرِ للفاتِحِ صَلاحِ الدِّين/ لا أزالُ اسْمَعُ شَدْوَهُ يَتَرَنَّحُ طَرَبًا في حطِّين/ القُدْسُ يا أجملَ لحنٍ للوجود/ ويا ثوبَ التاريخ المزركش/ بفرح البدايات/ وطهرِ العرائس