زهير اتباتو
بينما تشير دواليب الزمان إلى ساعة الأصيل، تقدم ببلغته الحمراءَ وطربوشه المخملِيِّ المعتاد، مُدثرا في عباءته السوداء، الحاج لسان الدين بن الخطيب المعروف وسط أهل بلده بالرجل الفصيح الأمين، وكذا بالداهية الحكيم، والشاعر الفطحل العظيم، كان قاضيا بين الناس، وإماما في مسجدهم الأعظم، وعالما وشاعرا ومفكرا..
بخطواته البسيطة وبقامته الممشوقة يمشي على مهل صوب البلاط الملكي بقرطبة، طامعا في رؤية أمير المكان وسلطان الزمان، الأمير سليمان. يمشي على مهل كأن الزمان الوحيد زمانه هو، يلقي التحية على كل من التقاه بصدر رحب وروح عالية، لا تفارق يداه سُبحة، أحجارها من زمرد ومرجان، تتلألأ كأنها البلور المكنون..
سمع من على عتبات الباب نغمات أندلسية من صنع زرياب، أطربت سمعه فاختلط النغم بتسبيحه لله، فأضحى كملاك يحوم حول روض من رياض الجنة، وبينما هو تائه بين جمال المكان وروعة لألحان سمع مناد ينادي قائلا: تقدم يا سيدي القاضي فالسلطان في انتظارك منذ زمن، كأن الوقت حبات جمر يقذف بها من بعبد.
لما سمع قول المنادي، حرك الجسد بسرعة وخفة ونشاط فانتقل من سن الهرم إلى روح الشباب.
أقبل على السلطان مقدما أطيب أنواع التحايا بأدب مبالغ وبقول رفيع وحكمة لامتناهية…لكن السلطان تأمله وعيناه اغرورقتا كبركة من ماء زلال، بها دمع خافت يكاد ينفجر سلسبيلا لولا حكمة المقام، فقام الحاج بن الخطيب مسائلا السلطان في استحياء:
-ما بالكم يا سيدي قد اعتلى البلور كؤوس العيون الحسان؟؟!!!
أعاد الأمير جمع أنفاسه على مهل كأنما سيطلق رمحا من بوح كتم فطال الكتمان، فانفجر كبركان قائلا:
-يا أيها الحكيم، وما أروع أن أجد بين أمتي وحاشيتي حكيما أستشيره أثناء الطرب وساعة الكرب، فهل تكتم سري وتنصحني وتعطيني من لدنك رشدا أحتذي به؟؟؟
تأمله الحاج بن الخطيب بتعجب مبالغ هذا البلاغ، فما عهد يوما أن رأى الملك والسلطان والحاكم سليمان في الحال التي هو عليه، وذلك أن أغلب لقاءاته به كانت إما كانت تطبع بسمات الجدية أو كانت ليال سمر وغناء ورقص ومرح…أما حالته الآن فهي حالة استثناء لا يقاص عليها في العادة، ما جعل الحاج يستجيب لطلبه بسرعة متناهية:
-أمرك يا مولاي، كلامك أمر يطاع، وصوتك حكمة أنتشي منها معاني الحياة، فبح بأمرك/سِّرك لعلك تجد في قولي بلسما لجراحك، أو ترياقا يشفي العلة التي جعلت فؤادك يترجم آهاته عبر ماء البلور في عينيك.
فانطلق الأمير في قول سلس مرن، كأنه طفل صغير بين أحضان أمه:
-أيها الحكيم، أنت تعلم جيدا أن الحكم يحتاج لقلب شجاع ولبسالة محارب ولرباطة جأش مقاتل لا يخاف ولا يهاب الصعاب، وكما لا يخفى على عقلك الرصين، فما اختارني والدي خليفة له في الحكم إلا بعدما تيقن أن تلك الصفات هي جوهر تكويني، فلم أعهد يوما بفؤادي أن رق لحال عدو، أو طاب له شخص فاستوطن عرشه أكثر من اللازم لكن…..
فصمت قليلا، وبدأ الحاج المكي يتأمل حركات الأمير وسط البلاط الفارغ بعدما أخرج الجميع حينما التقى ابن الخطيب، وبينما أعين الحكيم تراقب، وقف السلطان وقفةً ارتعش جسده على إثرها، محاولا إكمال الكلام على مضض، حتى ساعده الحكيم قائلا: وماذا بعد يا سيدي؟؟؟ فأجابه سليمان كأنما كان يحتاج لمن يدفعه للبوح فباح:
-أيها الحكيم، لقد لقبتني أمي بسليمان لأنني أمتلك القدرة على التحكم في الإنس الذين يقعون تحت إمرتي، أسوة بالنبي سليمان الذي حكم الجان، لكن ما نفع كل هذه السلطة والقوة ما دمت غير قادر على السيطرة على فؤاد من أحببت، وأنا الذي لطالما كنت مقتنعا بأن الحب كلمة لا معنى لها.
-وقف الحكيم مندهشا من قول الملك، وقال له وعلى محياه ابتسامة رقيقة: الآن أصبحت أعلم ما تريد قوله، فأنت تقع الآن في ولع شديد، وحيرة الغرام أدخلتك سراديب التتبل والغرام، لا الإنس يعلم فحواها ولا الجان، وهذا ما حدث لكل العشاق من قبلك وفي طليعتهم قيس عاشق ليلى العامرية حيث نظم فيها شعرا طويل بكول عدد سنين الحب الذي غرق فيه تجاهها، ومنه:
فؤادي بين أضلاعي غريب يُنادي مَن يُحبُّ فلا يُجيبُ
أحاط به البلاء فكل يوم تقارعه الصّبابة والنّحيب
لقد جَلبَ البَلاءَ عليّ قلبي فقلبي مذ علمت له جلوب
فإنْ تَكنِ القُلوبُ مثالَ قلبي فلا كانَتْ إذاً تِلكَ القُلوبُ
هكذا هي حال كل العشاق، فنطق سليمان مقاطعا الحكيم: لكن يا لسان الدين بن الخطيب أنت لا تدري سبب حرقتي وألمي، فليس البعد ولا الفراق علتي، إنما لمحبوبة لا تريد لي وصالا ولا تطلب مني ودا، ولا رغبة لها في ربط حبال الأمل أو بناء جسور الرغبة.
ابتسم ابن الخطيب ابتسامة خادعة تعجب لها السلطان، وبدأ يتمتم بصوت خافت فهم منه الأمير أنها أبيات باخت بها قريحة بثينة الشعرية حينما سمعت خبر وفاة جميل بن معمر، الذي مات هياما في ودها..إذ أنشدته:
وإنَّ سلوي عن جميلٍ لساعة من الدهر ما حانت ولا حان حينها
سواء علينا يا جميل بن معمر إذا متَّ بأساء الحياة ولينها.
وهنا أردف الحكيم قائلا: يا أيها السلطان العظيم، وحاكم كل فج عميق، أعتقد أنك داهية حربٍ، وفارس تحتار له الأعداءُ، وقائد يرفع همم الأمم والجيوش، لكنك غير خبير في الحب، أما تدري أن بثينة معشوقة الشاعر العظيم جميل بن معمر كانت تذوب في هواه، لكنها كانت تقابله بالصد والحرمان، وهذا لأن الأنثى تعشق من يكافح لوصلها وتموت هياما في الفارس الذي لا يتراجع داخل ساحة الوغى على قلب محبوبة كيفما كان نوعها.
ولهذا فترياقك سهل، خذ مني حكمة انتفع بها: إن الأنثى رِيمٌ تتنقبل بين الأفئدة كتنقل الضبي بين البانِ والعلمِ، والخبير في صيدها ليس السريع المندفع، إنما يغنمها الداهية المتمهل، يتقرب، ويؤمن سرها، ثم يخطف لبها بسهم لا مكان لإخفاق رميه، وأنت بالمثل، خذ وقتك في التقرب من محبوبتك، تارة بكلمة، وتارة أخرى بنصف حرف على استحياء، ومرة ببيت غزل عذب إذا القي على صخرة خرت خجلا، ومرة أخرى بصد وهجران يضعان المعشوقة في حيرة ما يجعل سلاسلها تنفك واحدة تلو الأخرى، وتمائمها تنفتح تباعا، إلى أن تجد مفتاح قصر فؤادها فتدخل إليه من أبوابه السبعة كما دخل قرطبة أبوك الشجاع.
ما أن انتهى الحكيم من القول البليغ، حتى باغث القاعة بابتسامة عليلة، كأنه زنبقة مائية فتحت لبها لطيب النسيم، وأبدى عن رضا منقطع النظير، رافعا رأسه للسماء داعيا في سره لشيء لا يعلمه إلا علام الغيوب، وتراجع للخلف محاولا إمساك صرة من الذهب، ومقبلا للحكيم، مجازيا قوله وفعله، لكن الحكيم ابن الخطيب باغثه، فقال، يا سيدي الحاكم أنا سلطان في الغرام وقاضٍ بين العشاق، فجزائي لَّمُ الأفئدة، وإسعاد الألباب، ألم تسمع نظمي الذي فيه أقول:
جَاءَتْ مُعَذِّبَتِي فِي غَيْهَبِ الغَسَقِ كَأنَّهَا الكَوْكَبُ الدُرِيُّ فِي الأُفُقِ
فَقُلْتُ نَوَّرْتِنِي يَا خَيْرَ زَائِرَةٍ أمَا خَشِيتِ مِنَ الحُرَّاسِ فِي الطُّرُقِ
فَجَاوَبَتْنِي وَ دَمْعُ العَيْنِ يَسْبِقُهَا مَنْ يَرْكَبِ البَحْرَ لا يَخْشَى مِنَ الغَرَقِ
فقمت ولهانَ من وجدي أقبلهازحتُ اللثام، رأيتُ البدر معتنقِ
قبلتها، قبلتني، وهي قائلةقبلت فاي، فلا تبخل على عنقي
قلت العناق حرامٌ في شريعتناقالت أيا سيدي واجعلهُ في عنقي.