عبد الامير الركابي
«فصاحت / شهرزاد/ على الدادات والطواشية وقالت لهم هاتوا لي اولادي»
الف ليله وليله ـ الصفحة الأخيرة من الجزء الأخير.
عاش حسين القسام الشاعر الشعبي العراقي،عند بدايات القرن العشرين، ومرعلى الحياة الادبية والثقافية مرورا متناقضا مع محيطه، بدا الرجل في جميع الاحوال غير مفهوم، ومن الصعب تصنيفة، وفقا للسائد والمعتاد، وقد جهدت الذائقة الشعرية الشعبية في حينه وهي تصارعه قبل ان تضعه ضمن خانة ما، فقررت احيانا ان تعتبره شاعراً ساخراً وطريفا، او غامضا، لايشبه غيره من الشعراء، او عاملته كشاعر كبير، غير مصنّف او لايمكن تصنيفه. والشاعر كان يعيش ضمن اجواء لاتخلو من الغنى، فهو كوفي، من مدينة المتنبي، وقريب من النجف المركز الثقافي، ومسقط رأس الجواهري، الا ان القسام كشاعر شعبي، لم يحظ في حينه بالمكانة الخاصة، التي كان يتمتع بها وقتها، شاعر كبير مجايل له، عاش هو الاخر في اواخر القرن التاسع عشر، وامتدت حياته حتى بدايات القرن الفائت.
الشاعر المذكور، هو «الحاج زاير» متنبي الشعر الشعبي العراقي الحديث، وقمته الثانية، بعد الشاعرة فدعة، القمة الشعرية الشعبية العظيمة التي ظهرت في القرن الثامن عشر، وارست القواعد الاولى للحداثة الشعرية العراقية، بالارتكاز للعوامل المحلية الذاتية، قبل التأثر بالغرب. كان الفارق الزمني بين الحاج زاير وفدعة، يقرب من القرن، بينما لم يتعد الفارق بين الحاج زاير ومظفر النواب، نصف القرن. فأول قصائد مظفر الهامة «للريل وحمد»، ظهرت عام 1959، ووقتها كتب الشاعر الكبير سعدي يوسف يقول: بأنه يضع شعره كله تحت اقدام كاتب «للريل وحمد»، ولم يكن هذا الرأي في حينه سوى نبؤة ثاقبة، بدت مستغربة ومقبولة ضمنيا، مع تساؤل ملحّ تصعب الاجابة عليه، فمظفر شاعر شعبي يكتب بالعامية، رغم ذلك تبين لاحقا بأن تلك القصيدة كانت باكورة ولادة شاعر كبير، مثل نبض الوجدان الشعبي العراقي بعد ثورة 1958. واحتل بجدارة، مكان القمة الحداثية الثالثة، واخر القمم التي تسجل مراحل ومحطات فاصلة في تاريخ الشعر الشعبي العراقي الحديث. الا ان هذا التسلسل يقاس حسب مواضعات الثابت في البنية الثقافية والغالب فيها، الامر الذي وضع الحاج زاير (له ديوان مطبوع في النجف في الخمسينيات، غير محقق، وفيه برأينا غير قليل من الاشعار المقحمه والمنسوبة خطأ للشاعر، والديوان يستحق اعادة الطبع بعد التحقيق، الامر الذي نعمل عليه منذ سنوات) في مكانته تلك، محل القسام، الشاذ حسب تلك البنية ومقاييسها.
لايمكن ابدا اجراء مقارنة بين الحاج زاير، وحسين القسام مع انهما متعاصران تقريبا، فالمقاييس المتعارف عليها والمعتادة، لاتسمح بذلك، وهي لاتمنحنا الادوات اللازمة لاجراء مقارنة كهذه، وهذا السبب نفسه هو الذي منع دائما، ان يخطر لاحد وضع القسام في صف الشعراء الكبار، حيث المسألة، او الاشكالية التي تكررعلينا طرح مشكلة المنجز الشعري، او الثقافي عموما، مقروءا حسب الذائقة المتلقية، او التي تعيد صناعة الابداع. ولابد ان نأخذ هنا بالاعتبار قوة المقاييس والضرورات الخارجة عن ارادة الشاعر او المبدع عموما، غير ان الالتزام بتلك المقاييس المقرة، وتغييرها، او هزها من قبل العبقريات الشعرية والادبية، يخضع باستمرار وحتما لعلاقة عضوية تصارعية، والشاعر الكبير، هو الشاعر الذي يجدد ويحيي روح اللغة، ويوقظ الكامن في الجرس العام، في حين تفاجئنا بعض الحالات وكأنها «شذوذ» لاتفسير له.
فحسين القسام وإن كان مشهورا لغرابته وطرافته، مع انه كان يتعامل مع نفس الادوات التي يتعامل بها الحاج زاير وغيره لغويا مع قدر من الاختلاف، فلقد كان في الحقيقة يحيل المستمع نحو جرس ومزاجية من نوع اخر، ليست مألوفة، حتى لو انها لا تصل حد الكسر الذي احدثته ارهاصات الدادائية الاوروبية كما جرى عام 1909 حين الف «الموسيقي النمساوي شونبرغ اول مقطوعة موسيقية وفق نظام موسيقى جديد يدعى بـ«النظام اللامقامي»، وكان ديبوسي وسترافنسكي قد جاءا بايقاعات جديدة قائمة على اساس من الاصوات المتنافرة، وفي 1911 ادخل الفنان المستقبلي الايطالي لويجيروسولو الضجيج في الموسيقى» وهذا مالا وجود له في العراق، فالتغيرات الحداثية الجنوبية في الغنا، اقتصرت وقتها على ابتداع «الاطوار» وهذه بالكاد كانت ملحوظة، وتركزت في الناصرية جنوبا، في حين سار تطور المقام البغدادي ببطء، ولم يكن للفن التشكيلي هنا من حضور بعد، مما يعني تحمل الشعر الشعبي لوحده، مهمة عسيرة وهو يحاول كسر ايقاع راسخ، ضمن مسارات التطور المعتاد والمتسلسل. هذا بينما كان الشعر الفصيح لايزال لم ينتقل الى ماعرف لاحقا بالحداثة. وربما نجد في الحفريات اصولا مبررة لظاهرة القسام كشاعر دادائي، وجد ايضا خلال وما بعد الحرب الاولى، وهو الحدث الذي يذكر كواحد من الاسباب التي كانت وراء الظاهرة وبواعثها في اوروبا، رغم ان بواكير ظهورها ابعد، (يراجع بهذا الخصوص كتاب علي الشوك الهام ـ الدادائية بين الامس واليوم ـ الصادر عن المؤسسة التجارية للطباعة والنشر، بمساعدة وزارة الثقافة والاعلام العراقية ـ بدون تاريخ ـ مع ترجيح صدوره في اوائل السبعينيات، وهو ما نعتمده في الاحالات الى النصوص والوقائع المتعلقة بالدادائية (هذا مع افتراض ان المقارنة تتوقف هنا لكي تنقلب، فالحرب الاولى بالنسبة للعراق، هي الحدث الذي جاء بالاحتلال الانكليزي 1914/1917. وعند هذا التاريخ عرف العراق تحولا كبيرا، فقد انحسر وقتها الحكم العثماني، فختمت مرحلة من التاريخ دامت لأربعة قرون، كان لها ايقاع شبه ثابت، كذلك عرف العراق والنجف بالذات، تطورات هامة، تمثلت في صعود وتركز قيادة أهم ظاهرة مرجعية في العراق الحديث، هو المرجع حسن الشيرازي، كما عرفت النجف في تلك الفترة انتفاضة 1916 المسلحة، واعدام قائدها كاظم صبي ورفاقه في مكان قرب الكوفة، وبالاجمال وبالنسبة لبلد لم يعرف التغلغل الغربي، الا على نطاق ضيق جدا من قبل، فإن مجيء الانكليز، مثل هو بالذات، لحظة الاختلال في الايقاع العام المعاش والمتناسل منذ قرون.
ظاهرة فريدة
تبقى ظاهرة حسين القسام فريدة وعصية على التبرير، خاصة من حيث المقدمات، فالمستقبلية في اوروبا، كانت قد مهدت للدادائية التي اكلت من لحمها وعظامها كمايقول هانز ريختر، اما في عراق نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فان المدارس الفنية وأي من الظواهر غير التقليدية، لم تكن قد نشأت في حينه. وفي وضع تاريخي وحضاري متراجع، لا يزال يتململ متجها نحواليقظة. لانستطيع حتى احالة ظاهرة القسام للحالات الموصوفة بـ«خالف تعرف» ذلك ان وجودها سيثير لدينا تساؤلا بلا جواب. فالعراق لم يكن وقتها عراق ايام العباسيين، عندما كان تطور الحياة يسمح بنشوء مثل هذه الظواهر، ويذكر علي الشوك على سبيل المثال نقلا عن ادم متز نقلا عن كتاب /الديارات/ انه «كان في بعض البلاد في القرن الرابع الهجري شعراء يظهرون شذوذ الشعراء، كما كان في العصور المتقدمة، ويحكى عن احدهم انه دخل على بعض الولاة، وقد طين وجهه بطين احمر، ولبس في رجليه خفين احمرين/ الشوك ص ص 51ـ52 « لقد لعبت النجف بالذات في وقت لاحق في الستينيات من القرن الماضي، دورا محورا في بلورة تيار او حركة «جيل الستينيات»، حين صدرت من تلك المدينة مجلة «الكلمة»، حاملة الدفعة الثانية الهامة من التحديثية في تاريخ العراق ممثلة بجيل الستينيات، فكانت سابقة على مجلة «غاليري 78» المصرية والمعبرة عن الجيل نفسه في مصر، لكن مما يلفت، ان المجلة المذكورة لم تذهب ابدا الى احياء ظاهرة القسام، الذي كان اقرب الى مزاجها الابداعي، مع انه ظاهرة متقدمة واستثنائية زمنيا حتى بالنسبة لها. وهذا يبين الى اي حد كان القــسام خارج التقييم ومازال.
استعمل القسام كل ماهو نادر وغريب في اللهجة العراقية،مثل السعلوة والغولة واختار ماهو نادر في اللهجة المستعملة في الحياة اليومية… كما منح قصائده ايقاعا يسهل تداولها وقبولها، وقد حرص على طبع شعره في دواوين، وضع لها اسماء غريبة هي الاخرى، منها على سبيل المثال واشهرها «سنجاف الكلام «، و«قيطان الكلام «، والقيطان في اللهجة العراقية يعني رباط الحذاء، ولم يكن متوقعا بالطبع، باية حال أن ينسب القسام الى «الدادائية»، لأن مثل هذه النسبه لم يكن لها مايجعلها ممكنة على مستوى الاجواء السائدة، وبما انه ظاهرة لوحده فلقد ظل خارج التصنيف، مع انه لو كان ظاهرة اوسع، لما كان هنالك مايمنع من ان يطلق عليه وعليها هذا الاسم، فتسمية الدادائية في اوروبا مجهولة المصدراصلا، ولا اسباب قوية توجب تسميتها بما سميت به، ومع ان البعض نسبها الى تريستان تزارا كما يقول هانز ارب، الا ان تزارا نفسه يقول عن الدادائية «لقد ولدت كلمة، من دون ان يعرف احد كيف كان ذلك هذا بينما كلمة «دادا» موجودة في اللهجة العراقية واللهجات العربية، وهي واردة في الف ليلة وليلة، وتعني المربية، او الاخ والاخت، او العبدة بالتركية، والدادا هي الظئر اي المرضعة لوليد غيرها.
ما يعني ان الاسباب والاحتمالات اللغوية التي جعلت التسمية تظهر في الغرب، لم تكن غائبة او معدومة تماما في العراق. وهذه كلها اسباب اضافية، ساعدت في التعمية على شاعرية معاصرة فريدة واستثنائية، لعلها تومئ الى احتمال او امكانية مجهضة، لو تسنى لها ان تجد اصداء مشابهة، في اماكن اخرى عربية كما حدث مع جيل، او موجة الستينيات، لوسعت اطار ورؤيا الحداثة المعروفة في العالم العربي، الامر الذي يقلل من ثبوتية السردية الحداثية العربية، ومن سطوة روايتها الشائعة واحاديتها القدرية المتعارف عليها. ترى هل يمكن الغوص اكثر، في الظاهرة التي نتحدث عنها من زاوية الممكنات والاحتمالات، كما يعبر عنها الابداع العفوي، وهذا مجال لم يبدأ البحث فيه بعد.