صباح علي الشاهر
ليس الفاسد من يتقاضى الرشوة لتمشية معاملة ما، ولا الذي يأخذ من المواطن مبلغاً من المال لقاء تعينه في دائرة ما، ولا الذي يروّج المعاملات الفاسدة، ولا الذي يتقاضى عمولة عن مشروع غير مطابق للمواصفات، ولا الذي يشتري المنصب بمبلغ من المال، زاد أم قل ، حسب درجة المنصب، ولا الذي يشتري بأموال الشعب بضاعة منتهية الصلاحية، ولا الذي يخون الأمانة التي كلف بها، ولا الذي يزوّر ويختلس، ولا الذي يعقد الإتفاقات والمقاولات ويأخذ حصته من كل منها، ولا الذي يعين الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب، وليس الذي يتصرف في الدائرة التي تحت أمرته كتصرفه في ملك صرف خاص بـ (الخلفوه)، ليس الفاسد هؤلاء فقط بل الفاسد أيضاً من يتقاضى أكثر من إستحقاقه، وهو عارف أنه أكثر من إستحقاقه، والذي يتقاضى أجراً من غير إداء عمل ما مقابله، والذي يرتضي أن يأخد أكثر من راتب من عدة جهات دونما مسوغ، ومن يشرّع المنافع لنفسه، كتشريع البرلمان أكرامية الإعياد لأعضائه، وكأنهم صبية صغار ينتظرون العيدية من الكبار ليفرحوا بها، لا يلومني أحد أن جزمت بأن كل برلماني لا يعيد هذه الإكراميات لخزينة الدولة هو لص، ودنيء النفس إضافة على هذا.
ولعل أخطر من هؤلاء جميعاً أولئك الذين يساهمون عن قصد في إهدار المال العام، ومن يساهمون في هذا الإهدار، ومن يسكتون عنه، ومن لا يواجهونه ويفضحونه، أي كانت مواقعهم ومناصبهم، ويتساوى في هذا الناس العاديين، ورجال الدين، وقادة الأحزاب، ومنظمات المجتمع المدني، وأصحاب الرأي، وشغيلة الفكر.
من بعض طرق الإهدار الإجرامي للمال العام، قضية الإيفادات بلا معنى ولا مبرر، فإذا أرادت زوجة موظف متنفذ التسوق من دولة ما عُمل لها وصويحباتها أيفاد لدولة مناسبة، وإذا أراد مسؤول لأي سبب ما السفر، سواء تلبية لدعوة من الغير أو تلبية لدعوة يقررها هو ذاته، صحب معه أقاربه ومعارفة، بحيث تنتقل الأسرة، الزوجة والأبناء والبنات، والأخوة، وباقي الأحبة، وعلى نفقة الدولة التي لا تبخل عليهم بشيء، لا يحسبن أحد أننا نتجنى على المقامات العالية، فما نقوله يعرفه الجميع، ويزاوله كل المتنفذين في الدولة المنخورة الخربة، وبلا إستثناء، أما قضية تأثيث وصيانة وتجديد بيوت ومقرات ودوائر القادة الحكوميين وغير الحكومين من الحزبيين، ممثلي الطوائف والكتل، ودفع تكاليف حماياتهم فقضية لا مثيل لها، تُرى هل يعقل أن تدفع الدولة رواتب مئات الأشخاص الذين هم حماية لشخص ليس له أي منصب حكومي، وهل توجد مثل هذه الظاهرة في أي بلد في العالم سوى العراق؟!
سألني أحد الأصدقاء مستغرباً: هل يعقل أن كل المسؤولين، وزراء ونواب، ومراتب عليا، كل هؤلاء ( هوملس) ، أو كانوا يسكنون بالإيجار بحيث يمنح كل منهم بيت حكومي ، أو يدفع لهم مبالغ خرافية لإيجار دور مناسبة، خل عنك تحديثها وتأثيثها، أليس فيهم من يملك داره الخاصة؟!!
في كل الدول التي تحترم نفسها ، والتي لا تحترم، يحرّم على متبوء منصب هام ، أن يعين أي من أقاربه في فترة إشغاله المنصب ، إلا عندنا فتبوء المرء لمنصب ما فرصة للإتيان بالأبناء والبنات وأبناء الأخ والأخت، والنسباء وأبناء العشيرة، وما فاض فللعلاقات العامة، وتبادل المصالح.
كلنا يعرف أن منصب رئيس الجمهورية، منصب بروتوكولي، وأن الرئيس رمز لوحدة الدولة، والرمزية هي الصفة الأساسية لرئيس دولة العراق، ولا سلطة تنفيذية له بالمطلق، ومعنى هذا أن ليس ثمة مُغامر يفكر بإنقلاب من خلال إسقط الرئيس، فأسقاط الرئيس لا يعني إسقاط الحكومة والدولة، والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا إذن تكون حماية الرئيس ثمانية أفواج، ما يناهز الستة آلاف عسكري، بضباطهم ومراتبهم، ومقراتهم وعتادهم وأسلحتهم، وأرزاقهم، يكلفون خزينة الدولة عشرات ترليونات الدنانير العراقية؟ ثم ماذا يفعل هؤلاء، يتريضون ويؤدون التحية؟!
وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل الرئيس يعين العشرات وربما المئات وفق تقارير دقيقة من المستشارين، والخبراء، الذين يتقاضون رواتب عالية، ترى مستشارين بماذا، وخبراء بماذا؟ الرجل لا يحكم ، ولا يقرر، فلماذا جيش المستشارين والخبراء العاطلين هذا؟ ثم كيف يسوغ هؤلاء السادة المستشارين والخبراء على الورق إستلام الأموال الطائلة دونما عمل، أليس هذا لون من ألوان فساد الذمة؟!
ثم نأتي لمكتب السيد الرئيس ، وما أدراك ما مكتب السيد الرئيس؟
ثم ننتقل بعد هذا إلى نواب رئيس الجمهورية البروتوكولي، ونحسب عدد العاملين في مكاتبهم، وحماياتهم، ومستشاريهم، وخبرائهم، ونحسب الأمور جمعاً دون طرح، إذا لا إيرادات في حسابنا، ولا حتى ضرائب، فتكون أمامنا حصيلة مخيفة لنوع من الهدر الذي لا مثيل له، ولو قارنا ما ينفق على رئيس الجمهورية ونوابه، وما ينفق على رئيس جمهورية الهند ونائبه، لاحظوا أن ليس لرئيس جمهورية الهند سوى نائب واحد، وهو رئيس بروتوكولي أيضاُ، والهند كما هو معروف دولة عظمى يتجاوز عدد نفوسها المليار، فإننا سنكون بعد المقارنة إزاء فضيحة لا ينفع معها حتى الخجل، لأنها العار عارياً ، وبلا رتوش ..
تُرى هل جانب الصواب الصحفي العربي الكبير، عندما وصف حال العراق اليوم، بأنه ( بنك إستولى عليه مجموعة من اللصوص)!