طبعة ثورة العشرين الثانية:سماتها؟/2
عبدالاميرالركابي
ترفع مدرسة الالتحاق بالغرب سلاحا حاسما يكاد يكون باترا، يرفض قطعا اي ميل الى مايسمى “الخصوصيات”، فلا نموذج يمكن او يقبل على الاطلاق، الا نموذج الغرب وما يؤول اليه وينتمي لعالمه، باعتباره “الممكن الوحيد” الذي لاممكن غيره، وهذا الحكم ينطبق على المعمورة برمتها، وينسحب على تاريخها بلا استثناء، ويخضعه له ولالياته، وكل هذا يمارس مشفوعا بدعوى العلم والعلمية، والحداثة والعصر ومعارفه وعلومه، باعتبارها علوم نهاية التاريخ والزمان، ومنتهى حدود العقل.
وبالامكان تخيل حالة متلقين لمثل هذه الموجة من الهيمنه النموذجية والتفكرية، وسطوة حالة كهذه على عقل واردة مجموعات، بالكاد عرفت الخروج من ربقة عالم من الانهيار والامية الشامله، وسط التردي الذاتي التاريخي، مع مايمكن تخيله لهذه الجهة من رغبة الخروج من مثل هذا الواقع، وان بالاستعاره والتوهم، وحتى استقدام الاخر واحلاله محل الذات المنتكسه المتردية منذ قرون، هذا ناهيك عن رغبة التخلص من سطوة نمط الأفكار والمفاهيم السائدة مجتمعيا، والمتحولة مع الانهيار، الى طبعات من نفس نمط وطبيعة حالة الانكسار، وانقلاب المسار الصعودي، وتحوله الى انقطاع تاريخي من نوع تلك الانقطاعات الملازمة لتاريخ ارض مابين النهرين.
لن يتوقع عند حال كهذه أي نوع من اشتغال الفكر او ابداعيته المتصلة باشتراطات واقعه، ومادام هذا محكوما لاحكام الانقطاع والتردي، فان مايتوقع وقتها فقط جانب وحيد من جوانب الاشتغال العقلي الاستيرادي الاتباعي، لدرجة المساهمه الفعلية في قتل الذات، والسعي باصرارللاجهاز عليها، باسم الحديث والعلموي، حتى ولو بما يضاد الحداثة، ويتصادم مع اشتراطات العقل والعلم تاريخيا ومجتمعيا,
لقد كتب للعراق في العصر الحديث، وفي حالة استثناء حتى عن الحالة التاريخيه التقليدية من هيمنه الأفكار الأحادية للتعذر الموضوعي التاريخي، ان يعيش تاريخه الراهن خلال دورته الثالثة، وماعرفه من تشكل وتمخضات خلال مايزيد على الاربعة قرون، على انه تاريخ احادي، منفي منه الازدواج الذي هو اهم ميزاته التاريخية، وبهذه المناسبة فاننا سنشهد حالة نموذجية من حالات الإلغاء الأحادي، للقوة او العنصر الاخر المجتمعي الحيوي، في مجتمع “الوحدة المجتمعية الازدواجية” ماسيكون في الوقت نفسه، دالة من أخطر دلالات قصور وتوقف العقل الغربي الحديث، ودرجة وحدود مقاربته الدنيا والاولية للظاهرة المجتمعية من ناحية، ودرجة توقف وسكونية العقل العراقي على وجه الخصوص، ومعه الشرق متوسطي ( العربي)بالاجمال، وماقد نتج عنهما من حال تغييب للواقع والمعاش، وطمس له لصالح توهمية متقابله، وفبركه للتاريخ والكيانية المجتمعية.
ثمة مسالة ملفته في المقاربات الحداثية العراقية لثورة العشرين، دالة بسطوع على مستوى الاعتباط والنكوص العقلي نجدها في اعتماد هؤلاء لمفهوم “الثورة الوطنية التحررية” بالمعنى البرجوازي التحرري ، والنص السابق الذي انتزعناه من مقاربة زكي خيري، ترد فيه عبارة كانها وضعت لكي تمر مابين السطور، من دون ان تلفت الانتباه، او تستوجب التوقف، فهو يقول : ” فكانت ثورة وطنيه، عامه، وكان هدفها المباشر التحرر من الاحتلال البريطاني والحكم الكولونيالي” والكلمتان الاخيرتان لافتتان، وتستدعيان التساؤل عن أي “حكم” يتحدث الكاتب، الاحتلال الإنكليزي لم يتحقق ويبلغ بغداد الا عام 1917، والثورة حدثت في 1920، بالمقابل كانت مصر قد مر عليها 37 عاما منذ احتلت، قبل ان تعرف هبة 1919 التي لاتقارن حتى من بعد بحدث ثورة العشرين، علما بان مانتحدث عنه وقع في مكان كان تحت الاحتلال العثماني، الذي لم يغادر سوى منذ ثلاث سنوات، وعلى يد الاحتلال الإنكليزي،مع كل مايستوجبه ذلك من مترتبات، ومن إعادة اصطفافات بعد أربعة قرون من حضور قوة طامحه لممارسة الهيمنه الإمبراطورية، وان الشكلية كما كان عليه الحال في العراق، الامر الذي يستحيل معه تصور إمكانية تفاعلية صدام متبلور مع الاحتلال وضده، بمثل هذا الزمن القصير، بحيث ينتج مثل هذا النوع من المقاومة شبه الشاملة والوجودية، اذا قيس الامر بموضع النهوض في ارض السواد، أي في العراق الأسفل، الامر الذي قد يجوزتطبيقه وان بتحفظ على ثورة تموز 1958 ونسبتها العامة على اعتبارها من نوع الثورات الأقرب الى الوطنية التحررية المعروفة، مع انها ليست كذلك في الطبيعة والجوهر،هي الأخرى(1).
ان ماحدث وقتها في 1920هو صدام بين كيانيتين ونمطبن مجتمعيين، احتلالي أحادي غربي حديث، بوجه استعماري، ومجتمع لادولة ازدواجي وصل لحظة بعينها من التشكل السابقة على التبلور الامبراطوري، ولم يكن على الاطلاق عملية آنية، بقدر ماهو لحظة صدام نمطين متباينين تاريخيين، ومفتتح مواجهة كبرى بدات يومها واستمرت عابرة محطات، وتدبيرات، وردود أفعال من الطرفين، بحسب اللحظة، متبادلة، وتبلورات لاشكال مختلفة من الظواهر بحسب ما اقتضاه نوع الصدام المستمر.
والحديث متجه هنا، مع لزوم تجاوز وطاة المنظور الأحادي، الى وضع مجتمع ازدواجي عائد للتشكل في دورة جديدة، هي الثالثة من دورات صعوده التاريخي، وحضور قوة الغرب الأحادي الأعلى تركيبا من بين امثاله من نمطه، منشطر “طبقيا” بصفته، وعلى اعتباره اخر وارفع التجليات الأحادية التي كان التاريخ ينتظره،ا قبل ان يتخلص العقل البشري من وطاة الأحادية وهيمنتها، ومايترتب عليها من قصور عقلي، بإزاء الظاهرة المجتمعية ومنطوياتها وما هي مهياة لبلوغه، هذا يعني عمليا وواقعا ان الغرب الذي ابتدا مع النصف الثاني من الالفية دخول لحظة “التفارقية الرباعية” على مستوى المعمورة، وصار على مشارف الانقلاب الالي البرجوازي، كان يقابله وسبقه على الطرف المتوسطي الاخر”الانشطاري المجتمعي” وضمن اشتراطات اللحظة المذكورة، انبعاث وتجدد لعملية الازدواج المجتمعي، فكان مانذهب اليه قد وضع العالم امام عملية متوازية من الطرفين الانشطاريين الازدواجيين، الطبقي والمجتمعي، قيض لهما موضوعيا ان يتلاقيا ويعرفا حالة من التفاعل التصادمي، المفضية الى بلوغ عملية الصعود والحداثة الازدواجية الطبقية، حدودها، ونهاية ممكناتها، ليحل مكانها ويعم العالم، زمن الانتقال الكبير الى “التحولية”، والى مابعد مجتمعية، بحسب ماكان مقررا للمجتمعية ان تبلغه وتذهب اليه، ابتداء، ومع ابتنائها الأول الأصل، وكينونتها.
يقول “قانون التشكل الازدواجي المجتمعي” ان الكيان العراقي الرافديني المابين نهريني، يتشكل من الأسف رضوخا لطبيعته: في الدورة الأولى من سومر، ثم لكش وبابل. وفي الثانية من الكوفة والبصرة. أي ان العراق هو بداية “عراق السواد”، قبل ان يحضر “عراق الجزيرة”، سواء من داخلها، او من دفق السلالات التي تظل في حالة انصباب على البقعة الأشد خصبا، الامر الذي يتجلى بوجهين، كياني وطني ازدواجي، مندمج بالعملية المجتمعية كاحد طرفي الازدواج، ينتهي الى تكريس نمط من “وحدة الازدواج”، بدل “وحدة الأحادية”، واخر قهري احادوي، يأتي عادة ابان الازمات الكبرى التي تحل بالبنية الازدواجية الإمبراطوية ، ويشتغل كعنصر، وكقوة مساعدة ومسرعة للانهيار الشامل، وعلى الدخول في “الانقطاع التاريخي”، الذي هو من خاصيات البنية الإمبراطورية الازدواجية(2)، الامر الذي حصل لمرتين، على يد كورش 539 قبل الميلاد والامبراطورية الفارسية، وعلى يد هولاكوفي 1258، ماقد اسلم الكيانية العراقيه لطورين انقطاعيين، اعقبا سقوط بابل وبغداد كمدينتين امبراطوريتين ازدواجيتين.
ولااجد نفسي مجازفا اذا ذهبت الى تعديل، لابل قلب السردية التاريخية المعتمدة اليوم على مستوى المعمورة، بالقول بان ماحدث في النصف الثاني من الالفية الثانية في اوربا ومقابلها ارض الرافدين العالم، هو عملية واحدة مترابطة، تبدا بعودة الاليات التاريخيىة العراقية بالانبعاث في دورة ثالثة، ويتبعها انتقال اوربا الانشطارية الطبقية الضروري الى الالة والثورة المصنعية البرجوازية، مع مايترتب عليه من نهوض شامل واستعمار، ثم بانتهاء تلك الموجة وحلول نموذج مجتمعية/ الفكرة، والامبراطورية المفقسة خارج رحم التاريخ، مع الانبثاق التكنولوجي الانتاجوي، حين يدخل العالم زمن انتفاء الفعالية المجتمعية الأحادية، وتوقف دينامياتها، أي انتهاء عمرها المقرر، وصلاحيتها للحياة، ناهيك عن الاستمرار.
ـ يتبع ـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ارتكز الاحتلال مجتمعيا/ طبقيا، على قلب ملكية الأرض في مجتمع مشاعي بان سعى الى تغيير طبيعتها عن طريق قانون التسوية لسنة 32 والذي كان قاعدة فبركة واصطناع طبقة غريبة اطلق عليها اسم “شبه الاقطاع”، أي ان مواجهة الاحتلال مجتمعيا لم تبدا وتصير لها محركات واقعية حياتية الا بعد 11 عاما على إقامة الدولة المركبة من خارج النصاب المجتمعي، وبالضد من مقتضيات التشكل التاريخي، وهو مايفترض ان يستغرق وقتا او بضعة سنوات على الأقل قبل ان يصير محسوسا ويستوجب ردة الفعل عليه، هذا إضافة الى إقامة الدولة سالفة الذكر عام 1921 مع كل وطاتها وشكل حضورها، وهذا وغيره لم يستغرق اكثر من 25 عاما حين وقعت ثورة تموز 1958 التي اكل العراقيون بموجبها الحكم ورموزه في الشوارع، في مشهد ربما لم يعرف مايشابهه او يذكر به في التاريخ، وان من بعيد، سوى في الثورة الفرنسية التي وقعت هي الأخرى في 14 تموز، بينما استمرت مصرمحكومة من قبل الإنكليز ل 70 عاما، لتشهد أخيرا انقلابا عسكريا قيل بعض توصيفاته انه ” انقلاب تحول الى ثورة” وهو حدث لاحضور يذكر للمصريين كمجتمع بفعالية مستقله فيه.