طاقة التخيل واللغة المقاربة في تكوين الجملة الشعرية
مجموعة (وجعٌ أشيبٌ… وكفٌّ عذراء ) للشاعر كريم عبد الله
أن أتساع التخيل لدى الشاعر يحول نصوصه الى حالة من الرؤيا التي تجعل اللغة تخرج من رتابتها، لتولد الصور الشعرية والاستعارات والمجازات، لكي يتم التأويل المقارب الى مساحات التخيل تلك، وهذا ما يتطلب من الشاعر ملاحقة اللغة التي تحقق كل هذه الأستعارات من أجل أن يخلق التوزان ما بين هذا التخيل واللغة التي تمتزج معه. لأن قدرة الشاعر تتمحورعلى مسك اللغة التي تقارب الفهم الأدراكي في التصور الذهني، ضمن المنطقة التي تحدد المسافة ما بين الواقع والخيال، لكي لا يتحول التخيل الشعري الى طوبائي الفكرة بعيدأ عن حضورية الإنسان و وجوديته في الحياة،بل تبقى الأشكال الرمزية أشكالا تأملية في جوهرية الرؤيا والمشاعر لأننا لا يمكن أن نحدد الخيال إلا أنه رحلة الدالة والتغير في مسلمات الواقع لكي نعيد صياغتها وفق طاقتنا الإنسانية والمنفتحة على احلامنا التي نريد أن نراها في تغير الواقع حولنا، ونجد الشاعر كريم عبد الله بهذه المجموعة (وجعٌ أشيبٌ… وكفٌّ عذراء) قد أخذ رموز الواقع وأطعمها روح التأمل الأدراكي لكي لا يخرج بعيداعن حتمية حدوث الأشياء والمرئيات التي تتحرك بأسرارها حولنا لكي لا يخلق صورة معتمة و طوبائية فارغة من المعاني التي لا تعطي الدفق الشعوري الوجودي في روحية الإنسان، والمتناظرة مع الأشكال الرؤيوية القادرة على الأتيان بما هو واضح من الصور في كل أشكالها المضمونية والـتأملية الحقيقية،حيث ندرك أن الرمز لدى الشاعر يتحول الى حالة توافقية من الأستعارة العاطفية الوجدانية، وليس حالة ذهنية مجردة من التوهيم الأدراكي الخالي من ملامسة الروح في جوهريتها الإنسانية التأملية ….
ص 4 نص تأتأت شقوق اللمس (في تجاعيدِ المسافاتِ المنهوكة ـــ طيفٌ يضيءُ أهدابَ القصائد /و ……….. / مرآةُ جثّةُ الحلمِ ../ تلتحفُ خطوطَ الظلّ ِنكهةُ الجسدِ وعاء النزفِ ـــ تفيضُ الينابيعُ في نسغِ الخطوةِالرموزُ مساميرٌ تدكُّ لغةَ الصمتِ ـــ تتدحرجُ على مفاتيحِ الشهوةِ حشدٌ منَ الأشواقِ ../ تغصُّ بالأشواكِ ../ تحرسُ مجامرَ الشقاءِركامُ المرآيا ../ تصالحُ تواريخ الصورِ ../ وأجراسُ السنين تلبسُ ثوبَ العفّةِ )
من اجل تحريك الواقع من جموده، وابعاد التراكم اللافهمي واللامبالاة الذي يحول هذا الواقع الى حالة راكدة، يتطلب هذا أن نرتقي بهذا الواقع الى مستوى الرمز وفق نسقه الأستعاري، والرمز يكون هو التوصيف الذهني الأدراكي لكل حالات هذا الواقع، لأن الرمز الفعال هو نقل كل مسلمات الأشياء وأنعكاساتها في حركة المرئيات الى القيمة العليا من الأشتباك بين هذه المسلمات وحركتها الرمزية، التي تعطيها أبعادا حياتية جديدة تجعلها حالة جمالية عميقة ذاتية الشعور برموز دلالاتها الأشارية، وهذا ما يولد منها حالة أنفعالية قريبة من أنفعالية اللغة ورموزها الحية. ونجد هنا الشاعر كريم قد حمل حالته الأنفعالية رموزا تعطية حرية حركة الحياة بين الحب وفقدانه، وبين الموت والحياة، أي كل ما يعيشه الإنسان من مصير، حيث نجده أستفاد من الوقع ليعطيه دفقا شعوريا صوريا في الرؤية الشعرية ،وطبعا هذا جاء من طاقة الخيال التي يمتلكها من خلال رمز الموجودات حسب أشارتها الحية ضمن جملته الشعرية (في تجاعيدِ المسافاتِ المنهوكة ـــ طيفٌ يضيءُ أهدابَ القصائد /و ……….. / مرآةُ جثّةُ الحلمِ ../ تلتحفُ خطوطَ الظلّ ِنكهةُ الجسدِ وعاء النزفِ ـــ تفيضُ الينابيعُ في نسغِ الخطوةِالرموزُ مساميرٌ تدكُّ لغةَ الصمتِ ) فجعل من المسافة التي تتماوج حين تكون الذات منهكة و تراها تجاعيد منهوكة كوجع الروح في كتابة القصيدة ، وهذا ما يجعلها كمرآة جثة الحلم، لأنه يرى الواقع الذي حوله ميت حين يريد أن يعبر عنه في القصيدة، لهذا يأخذ من الرموز الراكده(ِنكهةُ الجسدِ وعاء النزفِ ـــ تفيضُ الينابيعُ في نسغِ الخطوةِالرموزُ مساميرٌ تدكُّ لغةَ الصمتِ) ويجعلها نسقا متحركا داخل أسلوبية شعره، بدل رموزها الصامته، التي لا تعطي مساحة متسعة في معنى اللغة المعبره عن مكنونه الذاتي الداخلي، الذي يسبب أنفعاله الشعوري المعنوي في كتابة القصيدة (تتدحرجُ على مفاتيحِ الشهوةِ حشدٌ منَ الأشواقِ ../ تغصُّ بالأشواكِ ../ تحرسُ مجامرَ الشقاءِركامُ المرآيا ../ تصالحُ تواريخ الصورِ ../ وأجراسُ السنين تلبسُ ثوبَ العفّةِ )
والشاعر هنا يعيد صياغة كل هذه الأشياء ومسميا تها التي لا تستطيع أن تستوعب كل هذه الأشواق المنفلته أتجاه كل ما يرى، ضمن صورة حياته التي يريد أن يصل بها الى ما يتمناه. فهي لم تعد سوى مجامر شقاء لركام المرآيا، أي أن هذا الواقع المعاش ما هو إلا أنعكاس للفجوة الموجودة داخلة أتجاه الأشياء الخارجية،فهي مجرد أجراس لسنين تحاول أن تظهر بثوب العفة، ولكن ليست هذه حقيقتها، لهذا يريد أن يجدد صورتها لكي لا يفقد الأنتماء لها، لأنها ما تمثل له الحياة . لهذا يريد أن يحدث فيها التغيير لتعود كما هو يتمنى وفق دفق مشاعره الرؤيوية التي تحتم عليه أن يكتبها ضمن نصوصه . أي أن الشاعر بعد أن يعري الأشياء عن حقيقتها الراكدة ليبث فيها المعنى والحياة لكي يتم صياغتها وفق المنطق الجديد الذي يريد أن يعيشه ضمن معناه ….
ص 12 نص (سلالُ البحرِ تشكو الظمأ)(مملكتي مفاتنُ خلجانكِ ../ تعمّدني وصائفُ الينابيع ../ وسماؤكِ تنثُّ عناقيدَ العنب أحملُ صوتكَ الرقراقَ فوقَ صدري ـــ وشماً بشدوهِ أرشقُ غبارَ السنابل تقتفي محاراتكِ رمالَ قافلتي ../ تحتاطُ منْ هوسِ الأمواج ../ تمدُّ جذورها جسوراً ../ وعلى نوافذِ الحلم ترتّقُ السواقي كلّما ترفُّ النداءات ../ يصهلُ صوتكِ ../ يمتطي أوتاري ../ فرساً يعفّرُ عرفهُ بناصيتي )
الشاعر أستطاع أن يخلق صورا مركبة من تداعي الأشياء داخله من أجل أن يحدث فيها المقاربة المعنوية و اللغوية، كي يتم أعادتها الى الصور التي يريد أن يراها هو، لأنه يشعر أن الواقع الذي حوله لا يلبي كل ما يريد من رموز ترتقي بالواقع المبثوث حوله الى واقع التمني.لهذا نجده هنا يحاول أن يمد كل هذه الرموز الى حد أن يجد فيها مسالك التعبير المعنوي في تداركية اللغة . أي أن الشاعر يحاول مرة أن يعيد صياغة الأشياء ومرة يحاول أن يعطي لرموز الواقع طاقة جديدة يستطيع من خلالها أن يصل الى المعنى الذي يريد . فهو يحاول أن يجعل الرموز دلالية أشارية توحي له برموزه،ونجده هنا يحاول أن يحرك الأشياء وفق قبليتها الصوتية اللسانية،فما بين (الخلجان،الينابيع،الغبار ،الأمواج . الصوت الفرس )هذا كلها مسميات متحركة تعطية القدرة على أن يبث فيها كل ما هو حي مرمز بالحياة و بهذا يجعل من شعره شعرا تصويريا بدل من الكلمات المجردة الخالية من الحياة وأحساسها الإنساني.اي يجعل منها أيحاءات أنفعالية عاطفية تستوعب كل مداركه في فعلها الحي، لهذا نجده يتسع بحقله الدلالي وفق تجليات الذات التعبيرية اللسانية، أي يحرك الأشياء وفق قدرته الخيالية التي تصوغ كل الأشياء وفق قابليتها على تحريك المعنى في النص وإذا لم تمتلك هذه القدرة يحاول أن يعيد صياغتها من جديد لكي تعطيه الرموز التي يريد …
ص 79 نص (في نرجسيّةِ العشقِ .. ينمو الجسد )(سأدحرجُ حزني في ضبابِ القلقِ ../ وأطلي وجهَ وحشةِ الليلِ بعطركِ ../ وأزيّنُ الآتي منِ العناقِ زخّات قرنفل اهنّدسُ ثقوبَ مائدةِ الايامِ ../ حمائمُ الأمنياتِ على صدركِ تبني أعشاشها ../ والأحلامُ تبيضُ بأواني الأشتهاء
جرّبي أنْ تعتقي صرخاتَ الوجعِ ــــ تتفتّتُ كأمواجٍ يضاجعها الخجل) بعد أن أخذ أنفعاله العاطفي يحرك الأشياء داخله، من أجل أعادة صياغتها وفق منهجها تخيلي في رمزيتها ومقاربتها من النسق الرمزي داخله،جعلها مركز الحس الوجداني الخارج من مكنونه الذاتي حيث نلاحظ هنا كل الأفعال الذاتيه وكأنها خارجية من المعنى االمستقر داخله ( سأدحرج، أطلي، أزين،أهندس ) ولا يعطي الأخر سوى محاولة التجريب ( جربي ) لكي يعرف تأثير كل هذه الأفعال عليه لأنه يعيش حالة اليقين بحركته الأشارية اللسانية الى الأخر، أي أنه يحاكي الصدى المترادف مع صوته الداخلي لكي يصل الى النتيجة التي يتوقعها من خلال فعله الذاتي التجريبي الذي يحدد مساحته، والتي يتحرك ضمنها كأفعال أشارية، وكعلاقة بين الأنطباع الداخلي الذهني والتحسس الخارجي، لكي يعرف حالة التطابق أو التقارب بينهما . لأننا نشعر أن فعله الذهني في تحرك الأشياء وفق منطقها الفعلي، فهو يعطي كل هذا الأفعال المتغيرة والكثيرة ولا يريد من الأخر إلا التجريب لكي يعرف أنعكاس ذاتيه الحدث عنده. وطبعا هذا يعتمد على طاقة الأشارة التي تشير الى ردة فعل الأخر ضمن المساحات المشتركة بينهما.والشاعر لا يأمر الأخر بل يعطيه هذه الأشارة لكي يعرف حركته الأخيرة من الترتيب النهائي لكل ما فعل أتجاهه (جرّبي أنْ تعتقي صرخاتَ الوجعِ ــــ تتفتّتُ كأمواجٍ يضاجعها الخجل ) حتى أنه يحدد السمة النهائية إذا لم يستجب لكل أفعاله الأختيارية وفق تجريب الأخر.فهو يريد أن يسمع صوته ويعتقه من حالة الصمت الذي يعيشه، لأن كل ما قدمه له سيحرك صرخات الوجع التي تفتت أمواجها الخجل ببوحه الذي يريد.أن طاقة التحرك عنده أصبحت كالأمواج التي تنتزع حالة الخجل لدى الأخر.والشاعر يبني صوته الشعري على لسانية صوتيه من خلال تحريك التخيل، من أجل معرفة مقدار الفعل الداخلي للأخر أتجاهه . لأنه يعطية مساحة واسعة للأختيار ولا يريد منه إلا أن يسمع صوته لكي يعرف مقدار تطابقه مع المعنى الذي يسعى إليه من خلاله،فقد حدد رؤيوية الفكرةالفعليه من أجل تثبيت ترميزها كفعل دلالي يوحي بكل ما يعيشه في الداخل أتجاه الأخر ….
ص 90 نص (كمْ عذّبَ الأنتظار إرتعاشة القناديل)(ماذا دهاهُ يغرقُ في ماءِ العيون ../ عريَ كحلِ الليل يُربكهُ ../ أيّ موجٍ يداعبُ وشوشةَ قواربَ الحنين .. !
هجعتْ حسرة رقراقة ما بينَ الوسنِ ../ شهوةٌ هيّجتها في سريرِ اللقاء
ما الذي فاحَ بعطرِ الذكرياتِ ../ نِثارٌ في وشالةِ الكاسِ ../ أم لظى يتركُ فيهِ الزمهرير .. ؟ !
نبضَ ذاكَ الحلم فزّزَ سكونَ مآذنهِ ــــ بإبرِ الشوقِ تحكُّ أنينِ غبارَالجسد )
الشاعر أعتمد هنا على الصوت المتناغم مع دلالالته الموحية بالأسئلة التي يريد أن يجد لها جواب من خلال التحسس الخارجي، وتطابقها المعنوي مع داخله،وهو يدخل هنا بالتوصيف الأدراكي الصوتي الذي يبنى أستعارته على مقدار القدرة على أيجاد الصوت الذي يفهمه الأخر. أي أنه يحدد الأسئلة الأختياريه الى الأخر، ويبين اليه لماذا فكر بكل هذه الأسئلة (كم عذب ، ماذا دهاه ، أي الأمواج ) وبعدها يعطي الحالة المعنوية الأشارية لكل هذه الأسئلة، وماذا يتنج فعلها لو لم يجد صداها عنده ( هجعت حسرة،شهوة هيجتها ،نثار ، أم لظى ، نبض، بأبر الشوق ) أي يبين الفعل الأرتدادي المتكون من الأيحاء الدلالالي الذي يريد أن يفضحه عند الأخر، لكي يعرف الترادف الصوتي ومقدار حجم المعنى الموجود فيه،لهذا حدد كل ردة فعل لتعطي الدلالة المعنوية في مكنون الأخر، فهو يسعى من أجل التطابق معه. الشاعر جعل من النص – صوته المعبر عما في داخله من خلال مناشدة الأخر، فهو يريد أن يحدد الحياة الداخلية لدية ضمن أطار حواري مع الموضوع الأخر، من خلال الرموز المتخيلة مع ذاته ، والتي تتوهج عند حالة الحس التصاعدي في أنفعالية الفكرة التي تحدد أشتراط الرؤيا، كصوت لساني يزيد من الصورة المضاءة في داخله كفعل أنعكاسي لكل حالات الجمال الذي يبثها بموسقة اللغة، التي تقارب أنفعاله الحسي الوجداني لكي يكشف الأشياء والمرئيات ومقدار تقاربها من وجوده الإنساني الذي يسعى لتأطير الحياة، كرمز متخيل ينضج الجمال من خلال البؤرة المتحركة ضمن النص،حيث نلاحظ أن اللغة لدى الشاعر ما هي إلا حالة التعبير المتقارب كليا مع الدلالات الرؤيوية التي تعطي لفكرة هو رحلة داخليه أتجاه العالم والأخر الذي يعيش ضمنه، لأنه دائما يأتي برموز من وحي الحياة وأطرها الجمالية (المسافاتِ ـــ طيفٌ – مرآةُ -خطوطَ الظلّ -جسدِ -الينابيعُ -مساميرٌ – مفاتيحِ -الأشواكِ -المرآيا الصورِ ..- وأجراسُ -الينابيع ..- عناقيدَ العنب -غبارَ -رمالَ -الأمواج -جسوراً – الحلم – القناديل – غبارَالجسد ) فهو يمتلك مساحة واسعة من المتخيل الجمالي الذي بيبن الأبعاد الجمالية في الحياة من خلال الأخر،لهذا تكون اللغة لديه بعدا إنسانيا قادرا على صناعة جمالية الفكرة التي توضح الأشتراط الإنساني، الذي يعيش في وسط قد لا يتطابق كليا مع داخله الحسي المتركب من صياغة أو أعادة صياغته المرئيات بكل حضورها الوجودي،كي تستوعب كل الدلالات الإنسانية التي تعطي الى الإنسان الأختيار الأكثر حرية في العيش، وفق نسق أختياري يدرك الجمال وفعله في الحياة لأنه في كل نصوصه لا يلقي أفعالة على الأخر بل هو من يفعلها ويجيب عنها وفق ردة فعلها وقربها من فعله التداركي الصوري في جمالية الحياة .