99 //بقلم: ابتسام انطون //فلسطين
كمن يأخذ سمكًا من مسمكة ويوهِم الآخرين أنه اصطاده، يسطو بعض الكتاب على قصص قصيرة ومقالات ليشكلوا من هيكلها وعمودها الفقري المضامين الرئيسة لرواياتهم.. هي تلك القرصنة الرشيقة “المأنَّقة” تطالعنا بمنتهى الخبث والتذاكي. أما الحياء أو الخجل من فِعْلَتِهم فحدِّث ولا حرج!! بحيث يثابرون في الدفاع عن نصوصهم المقلَّدة وكأنها هي الأصل ويسقطون الأحكام وينهالون بالسُباب المتعالي الوقح على الأسماء النظيفة قصيرة الأيدي، كأن تجرأ إحداهن على القول عبر حسابها على تويتر تعقيبًا: “إن الإعلام بات يعطي قيمة لمن لا قيمة له”، وذلك على أثر إثارة موضوع “تناص روايتها” المشبوه والذي يرسم ألف علامة استفهام حوله، من حيث محاكاتها الفاضحة لنص آخر.
وهنا لا بدّ من التوقف عند هذه الحالة التي لفتت انتباهي، بحيث أنه، وعلى أبواب الجائزة العالمية للراوية العربية (البوكر) طالعنا مقال كتبته الصحافية والقصصية منال عبد الأحد بعنوان “عمارة روائية من 99 طابقًا أو طابقين مكدسين” ولم يحظَ بردّ علنيٍّ في المقابل سواءً من الروائية أو الجهات المعنيّة، رغم أن الاتهام الوارد في المقال طال إحدى المرشحات على القائمة القصيرة للجائزة وهي جنى فواز الحسن عن روايتها “طابق 99″.
كقارئة، عزوت ذلك في البداية إلى أن الموضوع متداول أصلًا إلى حدّ أنه بات مستهلكًا لا جديد في طيّاته، مسيحية يمينية تغرم بفلسطيني، يا الهي كم قرأت قصصًا كهذه. ولكن التعمّق في البنية التي استخدمتها منال وسخّرتها جنى في روايتها تطرح الكثير الكثير من التساؤلات، التي قد تجد الحسن نفسها أمام ضائقة إيجاد إجابات لها، لو، فقط لو، كان هناك من يسائل ويحاسب!!
بعد قراءة متعمّقة يستشف القارئ أن الحسن لم تحتَج حتى دخول المسمكة بل أخذت سمكتها مطهية وعلقتها على صنارتها لتبرز مهارتها في الصيد على حساب جهود الصيّاد الأصلي.
لمَ الإسراف بالجهد وصولًا إلى الطابق 99، ومصعد الثيمة كهربائي المنال؟!
آلمني حقًا – في مقالها المذكور – توصيف عبد الأحد لجرحها المالح حول أسس حكاية سُلِبت منها بإنسياب الماء دون رمشة عين … بحيث كانت قد كتبت حكايةً قصيرة بعنوان “بين ريتا وإياد قبلة أطلقت نارًا عليها طائفية” وبعد بضع سنوات اكتشفت أن ثيمة وحيثيات المقال تحوّلت إلى رواية لإحدى الكاتبات المرشحات للبوكر 2015… كيف للجنة البوكر أن تغض الطرف ولا تحقق، ولو متأخرة، بشرعية النص إذ سبق أن نشرت عبد الأحد مقالًا حول هذا الموضوع، كما أسلفنا .. كيف لروائية أن تحفظ مكانة لها في القائمة القصيرة للبوكر ومصعدها ثيمة مقال يحمل أساسات الرواية بأسماء أبطال آخرين؟!
ولعل الإرباك الأساسي الذي تعاني منه الرواية والذي يعرّي تفككها إلى شظايا نوفيلا هو في شخصية هيلدا ابنة العائلة الكتائبية الضليعة بالمجازر، التي على ما يبدو بعد محاولة مطّ شخصية ريتا لتنتحل صفة هيلدا على امتداد أحداث الرواية وقعت الروائية في فخ التناقضات الكثيرة، تأتي هيلدا لتكتشف أهلها، فيما هيلدا الطفلة تعرف ما ارتكبته يدا ولدها وعمها منطقيًا لأنها تعرف مكانتهما الحزبية، فكل تلك التناقضات تجعلنا نطرح التساؤل الأول: هل عندما حاولت الحسن توسيع دائرة شخصية ريتا بتفاصيل صغيرة لا تضيف ولا تنتقص إنما انغمست في الإرباك والتناقضات، كانت كمن يحاول تكبير صورة فيفقد من جودتها؟! سؤال برسم القارئ والروائية معًا.
فما تبقى من سيكولوجيا وخصوصيات الشخصية لا يختلف كثيرًا من الرواية إلى الحكاية، تخبر هيلدا بطلة طابق 99 حبيبها عندما تلقاه للمرة الأولى أنها كتائبية، وأنّها لم ترى فلسطينيًا في حياتها قط، فيما تجاهر ريتا بصليبها المشطوب في نص الحكاية، إذ تقول القاصة: “هو فلسطيني، والكل يعرف الإشكالات التي جمعت صليب الفتاة المشطوب وتعامل ميليشياته وحزبه مع القضية الفلسطينية. حيثيات لا تنكرها الفتاة، لكن لا ترى مأزقًا فيها، بحيث أن الحبيب وغيره من أصدقائها اللبنانيين والسوريين هنا، ليسوا برأيها من «ألحق بها وبوطنها الأذى»”.
وهنا تبرز بما لا يقبل الشك حتمية الوطن، فيما تنعكس شَرطيَّة الوطن في قول ريتا: “أن هذا ما كان ليحصل لها لو تربَّت في لبنان، حيث أنها كانت ستعيش في منطقتها ذات الطابع المسيحي، ولا شك أن أهلها كانوا ليرسلوها إلى جامعة ومدرسة من الفئة نفسها، في بلد تأخذ فيه «مجتمعاته» المتقوقعة طابع الكانتونات”، هي فعلًا الكنتونات نفسها التي خرجت منها كل من هيلدا إلى نيويورك، وريتا إلى أبوظبي حيث سبحتا عمدًا أم سهوًا عكس التيار؛ وفي هذه الجزئية بالذات تتجلى شَرطيَّة الوطن، تلك التي تتحدث عنها كاتبة طابق 99 على امتداد الرواية ممزوجة بحتميته لتجتمعا معًا في العبارة التي تفتح بها روايتها: “ربما ليس الوطن مكانًا ولكن شرطًا لا يمكن إنكاره” لـجيمس بالدوين؛ هما الحتمية والشرطية عينهما اللتان تتجليان أيضًا في مفهوم الهنا والهناك الواضح في الرواية نقلًا عما قالته ريتا أعلاه في الحكاية.
إنّها إذًا العقدة التي تفصل العملين عن غيرهما من منجزات إبداعية تناولت الموضوع نفسه بحيث أن الإشكالية الأبرز هنا هي: الصراع بين الحب القائم في المهجر والمستحيل في الوطن.
هذه الإشكالية تبرر التناقضات التي تعتري الفتاتين بحيث تقرّ كل منهما باستحالة هذا الحب حينًا وتدافع عنه أحيانًا، كأن تذهب هيلدا في طابق 99 إلى لبنان “كي لا تزعل العدرا منها”، وتقرر ريتا أن تضحي بحبها “فداءً لمسيح فداها على الصليب..”، هي إذًا الأزمة الدينية والسياسية التي تطرح نفسها في العملين. هذا دون أن نغفل السلبية التي تجمع كل من إياد حبيب ريتا ومجد في طابق 99، إياد جلّ ما يريده هو الزواج بريتا، ومجد رغم كل ما أصابه والإجرام الذي ارتكب بحقه وبحق عائلته وشعبه يفكر إن كان أهل هيلدا سيقبلون به أم لا.
أما الشخوص الآخرين فإن الفتاة العلمانية هبة في حكاية ريتا وإياد، تتجلّى مواقفها تارةً في موقف محسن صديق هيلدا الذي يرتدي صليبًا، وطورًا في موقف إيفا (إحدى شخصيات طابق 99) التي تدعو مجد إلى التحرر من الألم لكي يستسلم للسعادة، وهو ما تنصح به الفتاة العلمانية ريتا على امتداد الحكاية.
وفي الختام، تأتي نهاية العملين موجعة هنا، إذ لا نعرف مصير حب كل من ريتا وإياد أو هيلدا ومجد بطلي طابق 99، بل تعود بنا الكاتبتان إلى الإشكالية السياسية وذلك من خلال انتخاب والد هيلدا وزيرًا في وطن لم يتحرر من كنتوناته وتقسيماته، وتساؤلات هبة الفتاة العلمانية صديقة ريتا في الحكاية حول وهم العلمنة:
” تفكّر هبة في نفسها، هل تحولت العلمانية في لبنان إلى كانتـون آخر لم تستطع فيه أن تلتمس من قبل معاناة ريتا وأمثالها. ماذا لو كانت عائلتها كأهل ريتا، هل كانت لتتـرك كل شيء وراءها وتتــغاضى عنه وتمضي؟ ظنّت أنّها ستفعل، هي قلّما تهتمّ لنظرة المجتمع، ولكن مجرد التفكير بالانقطاع عن أهلها أفقدها صوابها. أبحرت هبة التي تعشق العوم بأفكارها بعيدًا، وخشيت للمرة الأولى الغرق بوهم التحرّر الذي مُنِح لها هبةً عائليةً”.
لم يكن القصد مما أسلفنا عزيزي القارئ هدم الطوابق الـ99 التي لا طائل لها بمحتوى الرواية، ولا إسقاط هيلدا ومجد ومعهما الروائية من علوهم… القصد هو إلقاء الضوء على ما قد يرتكز إليه العلو أحيانًا.. وأنتم خير العارفين.
: