نبيل ياسين
1- تاريخ صحفي مقتضب
في ربيع عام 1968 ذهبت أنا والزميل الصحفي رياض قاسم إلى نقابة الصحفيين العراقيين لأسجل فيها بعد أكثر من سنة ونصف من عملي الصحفي. كان مبنى النقابة بين نخيل كرادة مريم قريبا من مبنى المجلس الوطني وكان عبارة عن بيت صغير. كان نقيب الصحفيين آنذاك صحفيا محترفا هو المرحوم عبد العزيز بركات، الذي سيعتقل ويقتل، بعد مجيء البعث في تموز من ذلك العام، دون أن يبقى أي اثر لبركات الذي أشيع بعدها انه عذب وصفي بالتيزاب.
كان عدد الصحفيين لا يتجاوز مائتي صحفي. في عام 1975 أصبحت عضوا في الهيئة الإدارية مع الزملاء فخري كريم، الذي أصبح نائبا للنقيب سعد قاسم حمودي وفائق بطي وشمران الياسري (ابو كاطع) ممثلين للشيوعيين رغم كوني مستقلا، إلا أني كنت اقرب إلى الحزب الشيوعي فكريا ومزاجيا. كانت مشاكلي مع سعد قاسم حمودي لا تعد ولا تحصى حين كنت اعمل في مؤسسة دار الجماهير المؤممة والتي تصدر عنها جريدة الجمهورية ومجلة ألف باء الأسبوعية وجريدة بغداد اوبزرفر التي كانت تصدر بالانجليزية.
في عام 1974 منعت وزارة الثقافة والإعلام نشر ديواني (الشعراء يهجون الملوك)، فالرقابة الحكومية كانت تغتال حرية التعبير بسهولة فائقة. وكانت الاحتجاجات والاعتراضات تمر بقنوات ضيقة وتتوقف دون أن تصل إلى نتيجة.
في ربيع عم 1976 حدثت مشكلة نشر سلسلة من التحقيقات الصحفية بمناسبة عام المرأة أجريتها عبر أسابيع وكان منها تحقيق صحفي موسع عن الطلاق في العراق مدعوما بإحصائيات من المحاكم الشرعية وأثيرت فيه مشكلة المرأة الناشز حيث التقيت نساء (معلقات) وبعده نشرت تحقيقا موسعا عن فلسفة الحب ولقاءات مع نساء وفتيات عراقيات. ربما كانت المواضيع المثارة بمناسبة عام المرأة تحقيقات جريئة، الأمر الذي لم يتحمله خير الله طلفاح، مدفوعا باحتجاجات خطباء جوامع فنقل موضوع التحقيقات إلى ابن اخته صدام حسين الذي كان نائبا آنذاك لرئيس مجلس قيادة الثورة ونائبا لامين سر القيادة القطرية احمد حسن البكر. زاد في الطين بلة كما يقال أن وزير الثقافة والإعلام آنذاك طارق عزيز كان يكرهني كرها شديدا منذ عام 1969 بسبب مشادات بيني وبينه منها أنني قابلته باحتجاجي الصارم حين قال أن هذا الوطن وطنهم، اي البعثيين، ومن حقهم طرد أي عراقي لا يلتزم بفكر البعث منه. وقد تدخل شفيق الكمالي ذات مرة واصدر أمرا وزاريا بإعادتي إلى العمل الصحفي عام 1971 بعد أن تعسف سعد قاسم حمودي رئيس تحرير الجمهورية وكريم المطيري رئيس المؤسسة ورئيس مجلس إدارتها الذي سجنه صدام بعد ذلك لأسباب نسائية ولكنها كانت سياسية، وكان يهددني دائما بأخيه حسن المطيري مساعد مدير الأمن العام ناظم كزار، الذي اعدم معه بعد حركة حزيران 1973. تلقيت تلفونا من برزان التكريتي، الذي كان مديرا لمكتب صدام وقال لي آمرا: لا تتحرك من منضدتك فسيأتي حرس خاص لاصطحابك إلى السيد النائب. في نهاية الأمر أمر صدام بمنعي من العمل الصحفي ومن السفر ومن النشر. أثرت القضية في نقابة الصحفيين (هذا هو سبب هذه المقدمة التاريخية) إذ لا يجوز في قانون النقابة، شكليا، إخراج صحفي من عمله خاصة إذا كان صحفيا بدرجة صحفي عامل وليس متمرنا أو مشاركا، فكيف بإخراج عضو هيئة إدارية (منتخب)-طبعا كانت انتخابات متفق على نتائجها بقائمة موحدة من خلال تحالف الحزبين. كما أثرت الأمر في اتحاد الأدباء كوني عضوا أساسيا وشاركت في جلسات تأسيسه في نهاية عام 1968 وتبنى الشاعر الجواهري الأمر وأوصله إلى رئيس الجمهورية احمد حسن البكر دون جدوى لان (أمر السيد النائب) أقوى من أمر( السيد الرئيس). لكن سعد قاسم حمودي دعم موقفي وتضامن معي معنويا رغم انه قال لي (انه من الصعب إلغاء أمر السيد النائب).هذا يعني أن تدخل الحكومة في حرية التعبير هو دكتاتورية واضحة.
في الخارج واصلت العمل الصحفي والنشر ضد النظام على مدى ثلاث وعشرين سنة. ولا اعتقد أن سياسيا في المعارضة لم يقرأ مقالات في الحياة اللندنية على مدى سنوات حتى بعد سقوط صدام حسين. ذلك دفع عدي صدام حسين، بعد أن أصبح نقيبا للصحفيين إلى ترقين قيدي في نقابة الصحفيين وإحراق ملفي. وبعض الذين قاموا بحرق ملفي يقودون نقابة الصحفيين اليوم ويرفعون ضد الحكومة شعار (الدفاع) عن حقوق الصحفيين ونجحوا في سلب كثير من الامتيازات من الحكومة لصالح أعضاء النقابة الذين يؤيدون قيادتها.
2- بيع حرية التعبير مقابل مليون دينار
مناسبة كل سيرة خنق حرية التعبير هذه، هو الخبر التالي: أعلن وكيل وزارة الثقافة رئيس لجنة المكافآت التشجيعية عن شمول نحو 19 ألف و 220 من الصحفيين والفنانين والأدباء بالمنحة المالية لعام 2012 وبأثر رجعي اعتبارا من الشهر الأول من العام الحالي. وقال في مؤتمر صحفي « انه بمقتضى الاتفاق الذي جرى مع رؤساء النقابات والاتحادات المعنية فان مبلغ المنحة المالية سيكون مليون ومئتي ألف دينار لكل مستفيد».
وأشار إلى «أن اللجنة كانت تأمل في زيادة مبلغ المنحة للمستفيدين من الفئات المشمولة لكنها اصطدمت بمحدودية التخصيصات وكذلك الأعداد الكبيرة المقدمة من قبل النقابات والاتحادات».
وقال وكيل وزارة الثقافة أن «نقابة الصحفيين اقترحت على اللجنة زيادة إضافية لأعداد الصحفيين المشمولين بالمكافآت مع تحديد مبلغ المنحة بمليون دينار للصحفيين التابعين للنقابة, مبينا أن اللجنة وافقت على مقترح النقابة رغم أنها كانت تأمل في الإبقاء على المبلغ السابق وهو مليون ومئتي ألف دينار».
يشار إلى أن هذه السنة الثانية التي توزع فيها وزارة الثقافة المكافآت التشجيعية على الصحفيين والأدباء والفنانين بعد أن كانت قد وزعت في عام 2010 لنحو 14 ألف من الصحفيين والأدباء والفنانين.
يذكر أن المنحة المالية أقرت من قبل رئيس الوزراء نوري المالكي, وجرى تكليف وزارة الثقافة بتحديد المستحقين لتعزيز الوضع المعيشي والمالي لشرائح الصحفيين والأدباء والفنانين وتمكينهم من أداء مهماتهم وتثمينا لجهودهم وعطائهم.
طيات الخبر مقلقة: قرابة 20 ألف شخص.. نقابة الصحفيين اقترحت زيادة أعداد الصحفيين..اتفاق مع رؤساء النقابات والاتحادات…. تحديد المستحقين، إلى آخره من (طيات) تشير إلى (تورط) جهات متعددة بانتهاك الدستور والسعي لمصادرة حق التعبير وخرق المادة 38 من الدستور العراقي والمادة 19 الشهيرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
باختصار، ومنذ البداية، انه ارتزاق معاد للقانون والديمقراطية وحرية الرأي والتعبير. وباختصار إن زمن ( المكرمات) مستمر للالتفاف على زمن الحقوق.
وأقول: أولا: لا اعتقد أن كل صحفيينا وفنانينا وأدبائنا فقراء. فهم أفضل حالا مالية من الزمن السابق رغم أن أكثرهم ينوحون على عهد صدام. فقد كان الصحفي واقعا تحت إرهاب الحكومة، وكان يعمل في صحيفة أو وسيلة إعلام واحدة ولا يستطيع أن يكون مراسلا دون أن يرتبط بجهاز المخابرات أو يحصل منه على (تزكية) وأنا متأكد من ذلك من خلال عملي الصحفي في الخارج ومعرفتي بوضع (المراسلين) للصحف العربية في لندن وتساؤلات رؤساء تحرير تلك الصحف عن مشاكل وضع المراسلين مع أجهزة مخابرات صدام. بينما الآن من النادر أن تجد صحفيا لا يعمل في أكثر من وسيلة إعلام غير(الرشاوى) السياسية التي يدفعها السياسيون وأنا على معرفة أكيدة بالأسماء والصحف والفضائيات التي تقبض ويقبض بعض العاملين فيها وقد امتنع بعض الصحفيين عن نقل خبر مؤتمر تيار العدالة والحرية الذي عقدناه في أيلول 2009 بعد أن رفضنا أن ندفع لهم بعد أن طلبوا هم ذلك. ومعنى ذلك أن هذه المكرمات التشجيعية هي مساهمة في الرشاوى التي تخرق حرية التعبير وتصادر حق حصول المواطنين على المعلومات والحقائق عبر الصحافة. فضلا عن الأعداد الغفيرة جدا ( قرابة 20 ألف) والتي سنجد بينهم، بعد التدقيق ، مصوري حفلات (كيولية) لقادة منظمات البعث آنذاك، وسواق سيارات، وحاملي حقائب مدراء عامين ومشخصين لثوار الانتفاضة في طريق البصرة-العمارة عام 1991 ولابسي (زيتوني) ومسدسات لإطلاق رصاصها على أفواه الصحفيين الأحرار، وحارقي ملفاتنا في نقابة الصحفيين، وكاتبي تقارير أمنية ضدنا (وبعضهم يعمل الآن في جرائد أحزاب دينية وحاكمة وبرلمانية، ومصوري شارع، وعسكريين سابقين وغيرهم، فهل يخبرني احد ما الذي يحدث في العراق حقا؟ هل نحن في نظام ديمقراطي يحترم استقلالية وسائل الإعلام باعتبارها وجه الديمقراطية وسلطتها الرابعة ويحافظ على هذه الوسائل باعتبارها صوت الشعب وتعبير المواطنين؟
وأقول ثانيا: إن هذا الإجراء خرق واضح وانتهاك مؤكد للدستور العراقي والمادة 38 منه التي تنص على :
تكفل الدولة، بما لا يخل بالنظام العام والآداب:
اولاً:ـ حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل.
ثانياً:ـ حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر.
ثالثاً:ـ حرية الاجتماع والتظاهر السلمي، وتنظم بقانون.
كما تنتهك المادة 46 التي تؤكد (لا يكون تقييد ممارسة أيٍ من الحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور أو تحديدها إلا بقانون أو بناءً عليه، على أن لا يمس ذلك التحديد والتقييد جوهر الحق أو الحرية). وهذه الرشاوى تقيد ممارسة حق التعبير بطريق غير قانوني وغير مباشر ولكن النتيجة واحدة.وتنتهك كذلك المادة (45): اولاً :ـ تحرص الدولة على تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني، ودعمها وتطويرها واستقلاليتها، بما ينسجم مع الوسائل السلمية لتحقيق الأهداف المشروعة لها، وينظم ذلك بقانون.
وهذا الإجراء مصادرة لدور منظمة أساسية من المنظمات غير الحكومية يؤثر على استقلالية نقابة الصحفيين ويتم ذلك بتواطؤ النقابة (لأغراض انتخابية وتدخل في نزاهة الانتخابات مع الجهات الحكومية. أي أنها عملية (بيع) مباشرة لمنظمة مستقلة لجهات حكومية تتحكم باتجاه الرأي وحجب المعلومات وحجب الحقائق. ويؤثر هذا الإجراء على جوهر المادة 42 (لكل فرد حرية الفكر والضمير والعقيدة.) فالفرد ، بسبب هذه الإجراءات، سيخسر حرية الفكر التي يمكن أن يصيغها من خلال الحقائق التي تقدمها وسائل الإعلام وتجعله (مقموعا) بسبب الرشاوى التي تحد من حرية التعبير. إن جميع فقرات الدساتير الديمقراطية ومنها الدستور العراقي، على نواقصه، تعتمد في قضايا الحريات المدنية على المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فهي مفتاح جميع الحقوق الأخرى التي تشكل بمجموعها حقوق الإنسان. تنص المادة 19 على ما يلي: (لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.) وإجراء منح 20 ألف صحفي وفنان وأديب هو خرق لحق اعتناق الآراء واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها. بل أكثر من ذلك سيكون هذا الإجراء مصدرا لقوائم سوداء كنا فيها ويبدو أننا ما نزال في اغلبها حيث يسيطر (إعلاميو المكرمة) على وسائل الإعلام العراقية والعربية والأجنبية في العراق، بما فيها قنوات أمريكية وبريطانية ناطقة بالعربية، ويقومون بمنع وإقصاء من لا يدفع لهم إلا نادرا.
اعرف أن هناك من انضم إلى شرف المهنة والى حريته ورفض التورط باستلام هذه الرشوة. وأنا أقف وأتضامن معهم وأدعو جميع الذين استلموا هذه الرشوة إلى إعادتها والاعتذار عن قبولها من قبل. إن مثل هذه الرشاوى، في عهد غير مستقر قانونيا كالوضع العراقي، تؤسس لمنظومة تنتهك الأخلاق المهنية والاستقلالية والحرية وتوسع من الفساد لأنها تغلق أفواه من يفترض انه يتحدث بفم الناس والبسطاء.
تقوم الدول الديمقراطية وتعيش على أهمية سلطتين. السلطة الثالثة وهي القضاء المستقل والسلطة الرابعة وهي الصحافة المستقلة. فإذا صادرنا استقلالية هاتين السلطتين فلن نستغرب من الفساد السياسي والفساد الإداري.
3- إقصاء الخارج من قبل الداخل
هل عرفتم الآن ما هو تأثير مفاهيم مثل ثقافة الداخل وثقافة الخارج؟ إنها لإقصاء آلاف العراقيين أو ملايين العراقيين من العودة إلى أدوارهم، دع عنك العودة إلى وظائفهم، واحتكار هذه الأدوار وهذه الوظائف. فليس صحيحا أن الذين ركعوا أمام خدم عدي الذين كانوا يضربونهم بمقدمات أحذيتهم عانوا والذين كانوا في الخارج يعيشون في نعيم. هذه الأكذوبة استمرار لمقولة مخابرات صدام من أن المعارضة تعيش على فتات موائد الأجنبي. واليوم يتم تحقيق جوهر هذه الأكذوبة بتواطؤ جهات رسمية ونقابية.
لقد فشلت الأحزاب السياسية التي كانت معارضة في تقديم بديل عن نقابة الصحفيين هذه. فشلت لأنها لا تريد أن يمثل النظام الجديد مئات الصحفيين والكتاب والفنانين والأدباء الذين شدوا أزر المعارضة لنظام صدام ودفعوا الثمن. فهي أبعدتهم بمكرها وتقاريرها وارتباطاتها مع الدول ورحبت بان يكون صحفيو المكرمات صحفييها وصحفيو بيع الذات صحفييها . لا تريد أن يكون صحفيو النظام الجديد أحرارا ومستقلين ومهنيين فرحبت بان يكون صحفيو النظام السابق هم صحفيوها.
في عام 2009 كنت اسكن في فندق فلسطين في شارع السعدون، فانا مثل أي غريب عراقي يعود إلى الفندق لأنه لم يسترجع بيته المسروق ولا يستطيع أن يعيش في منطقته الساخنة إذا لم يكن مسروقا. كنت خارج من استديوهات الحرة في نفس الفندق حين توقف شخص وسألني لماذا لا استعيد عضويتي في نقابة الصحفيين. لم أكن أريد ولا أريد الآن، بعد كل هذه النقابات والاتحادات الفاشلة أن استعيد عضويتي بعد فقدانها لمدة 30 عاما في اتحادات ونقابات لم تتغير. ولما قلت له سأستعيدها حالما تعثر لي على من احرق ملفي في نقابة الصحفيين، قال لي: ذلك صعب ومضى. كان ذلك الشخص هو رئيس نقابة الصحفيين كما علمت فيما بعد.
أنا الآن بحاجة إلى (تزكية) لاستعيد مواطنتي للعراق وعضويتي في نقابة الصحفيين وتقاعدي الذي لا أفكر به والحصول على 10 مليون دينار أنا بأشد الحاجة إليها وقطعة ارض صحفية. لكنني لا افعل حتى لو مت جوعا وتشردت في مناف أخرى جديدة. فالعراق هو الآن بالنسبة لي منفى. هذا ليس عراقنا، انه (عراقهم) وهم بأسماء شتى وصفات واحدة.
لقد استطاع كثير من صحفيي الداخل (اعرف اغلبهم شخصيا) الحصول على أكثر من قطعة ارض مثلا. مرة من نقابة الصحفيين ومرة مكرمة من صدام لأنه شارك بتأليف كتاب عنه أو كتب مقالا مداحا عن صدام واخذ أموالا اسمها في لغة صدام (مكرمات) وسمعت بعض الصحفيين من ذلك العهد يستخدمون نفس الكلمة الآن وكأنهم في النظام المنهار وكل ما فعلوه أنهم يريدون بيع أنفسهم وحرية الصحافة لشخص جديد أو نظام جديد بعد أن باعوها من قبل.
لدينا تضخم إعلامي يؤثر على حرية التعبير واستقلالية السلطة الرابعة لان هذا التضخم يضم آلافا من غير المهنيين الذين يسعون وراء مكاسب مالية من أية جهة كانت، وهم مستعدون لبيع حريتهم مقابل المال. لكن ما علاقتنا نحن الذين قاتلنا أربعين سنة من اجل هذه الحرية. إنهم يصادرون حرية تعبيرنا ببيعها لمن يدفع وبالتالي نبقى وحيدين ونحول كفاحنا من اجل بناء الديمقراطية إلى كفاح من اجل عدم عودة الدكتاتورية. كما نحول كفاحنا من اجل بناء العراق على أسس صحيحة إلى كفاح من اجل إثبات حق العراقيين في الخارج بالعودة إلى بلادهم بدون أن يبيعوا حرياتهم وحقوقهم.
4- ما هو مفهوم عمل النقابة ؟ما يزال اغلب النقابيين يعتقدون أنهم اذرع ضاربة للسلطة السياسية وبذلك يحولون دون إنشاء سلطة شعبية وسيادة شعبية كما يحولون دون صناعة الرأي العام اللازم للدفاع عن حقوق المواطنين. واخطر تلك الأذرع هي مؤسسات الرأي العام مثل الصحافة لأنها تحجب الحقائق في هذه الحالة وتخون حقوق المواطنين والمجتمع المدني الذي يحد من تسلط المجتمع السياسي الذي أصبح في العراق يشرع من اجل مصالحه وليس من اجل مصالح من فوضه الحفاظ على حقوقه وأتمنه عليها.
إن النقابة، أية نقابة، معنية بالدفاع عن حقوق أعضائها، وبما أنها منظمة غير حكومية، فانها تحمي حقوق اعضائها امام الحكومة. اي انها تحمي حق التعبير لا ان تبيع هذا الحق للحكومة. وتدافع عن حرية التعبير لا ان تبيع هذه الحرية للحكومة.
يفترض ان وظيفة النقابة هي الدفاع عن اعضائها من تعسف الحكومة او تعسف المؤسسات الاعلامية التي يعمل فيها الصحفيون وتوفر لهم ضمانات الكتابة بحرية وضمانات رواتب لائقة وظروف عمل انسانية وتعمل على احتساب حصص من رواتبهم ومن دفوعات مالية تلتزم بها المؤسسات الصحفية لتكون تقاعدا لهم او تعويضا عند انتهاء خدمتهم لكن نقابة الصحفيين العراقيين باعت هذه الوظيفة للحكومة. وهناك مئات الصحفيين الذي قابلت اكثرهم في بغداد ومدن أخرى لم تقبل النقابة عضويتهم لحد الان والسبب واضح وهو الابقاء على الصحفيين الموالين وأصواتهم وهو ما يشكل خرقا للأنظمة والقوانين التي تحكم المنظمات غير الحكومية.
لماذا تنسى المادة (32): التي تنص على ان ترعى الدولة المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة، وتكفل تأهيلهم بغية دمجهم في المجتمع، وينظم ذلك بقانون.) هل يخلو العراق من المعاقين الذين تقدر خمس منظمات ان عددهم 5ملايين، وهل اوفت الدولة بالتزامها الدستوري تجاههم؟ اليكم المزيد: وزارة التخطيط تؤكد ان نسبة الارامل تصل الى المليون. ومنظمات مدنية توصل الرقم الى 7 ملايين ارملة ويتيم. اي ثلث المجتمع تقريبا. فهل الصحفيون افقر من مليون ارملة بحوزة كل ارملة يتيمان او ثلاثة او اربعة او خمسة. ما الذي يحدث في العراق حقا؟ اذا كنا تخلينا عن التزامنا الدستوري فلماذا نتخلى عن التزامنا الاخلاقي والانساني؟
وبدلا من اعطاء (رشى) وهي الكلمة الصحيحة لجمع رشوة ولكني استعملت رشاوى لكي يعرف الجميع بمن فيهم سياسيون وصحفيون لايفرقون بين اللفظين، فان قرابة 20 مليون دولار يمكن ان تكون مبلغا كبيرا جدا لتطوير ثقافة ومهنية المؤسسات الصحفية وتطوير الثقافة العامة مع احترام استقلاليتها او بناء ما تحتاجه الثقافة في العراق من مستلزمات مدنية . واذا اضفنا اليها مبلغ خمسة ملايين دولار دفعها العراق عبر وزارة الثقافة والسفارة العراقية في باريس لفنان مغمور لاستخدام لوحة تافهة له على غلاف رواية زبيبة والملك دون ان يسأل احد كم تساوي اللوحة واين جرت المحاكمة ولماذا تدفعها وزارة الثقافة في حين ان المشتبه بكتابتها هو صدام حسين كروائي وليس كرئيس. انها مهزلة دامية فعلا ان يتم التصرف بطريقة الرشى فيما تعاني الثقافة العراقية من هزال واضمحلال يهدد التطور المدني والحضاري للعراق. وبدلا من ان تسرع النقابة ويسرع الادباء والفنانون الى وضع المزيد من الاسماء في صفقة بيع حرية التعبير ومصادرة استقلالية الرأي، كان عليها ان تطالب بطرح مسودة قانون حرية التعبير الذي يضم بنودا مخالفة للدستور للنقاش وسماع رأي آلاف المثقفين بحرية تعبيرهم. فالانتقادات فردية وغير منظمة لإحالة مسودة قانون حرية التعبير والاجتماع والتظاهر الى مجلس النواب ، والذي من الممكن ان يعزز اقراره دكتاتورية تصادر التعددية والحريات السياسية والمدنية وتمنع التطور السلمي نحو الديمقراطية، ومن شأنه تقييد الحريات وخنق الاصوات الداعية للحقوق والحريات. اقول ان هناك خطأ فادحا هو اعتقاد البرلمان العراقي انه يملك حق التشريع لمصالحه وليس لمصلحة الشعب والمجتمع. لكن احزاب البرلمان هي التي ستدفع الثمن.
هكذا نرى ان صفقة مثل هذه ستقود لصفقة اخرى في ميدان آخر من ميادين الحريات حتى نصل الى الغاء دور المجتع المدني والمنظمات غير الحكومية حتى نصمت جميعا وتهددنا قوانين ضد الحريات تصدر باسم الديمقراطية وهذا ما يخيف الناس الذين يخشون ان يصل غير الديمقراطيين الى السلطة بطريق ديمقراطي سرعان ما ينقلبون عليه بتعطيل الدستور ومصادرة الحريات.
لا احسد الذين استلموا المكرمة لان بيع حرية التعبير خيانة لامال المواطنين وتكميم لافواههم ومطالبهم، بل استنكر موقفهم ولا احسد الذين اخذوا حقوقهم فهي حقوقهم ولكني انتقد من يكون طرفا في صفقة لبيع حرية التعبير ويعدنا الى اساليب النظام الدكتاتوري المنهار الذي نريد ان نكون بديلا له، لكن النخبة السياسية والنخبة الثقافية بمن فيها الاعلاميون ومن يصف نفسه بذلك تعرقل هذا البديل باصرارها على اتباع نفس اساليب النظام الدكتاتوري الذي امم حرية التعبير ودفع لمصادرة هذه الحرية رواتب شهرية هي مصدر رزق للكتاب والصحفيين والفنانين والادباء.
الحل الوحيد لكل هذه المساعي لمصادرة حرية الصحافة والتأثير عليها واحتوائها هو رفع دعوى قضائية لمجلس القضاء الاعلى ضد الجهات المشاركة في انتهاك الدستور وفي خرق حرية التعبير والتأثير عليها . ذلك يعني اما نسكت على تحول النظام الحالي الى نظام غير ديمقراطي او ان نواصل دفاعنا الذي استمر اكثر من اربعين عن حرية التعبير ، وحق التعبير ، هذه الحرية المقدسة فعلا، وهذا الحق المقدس فعلا.
اليوم اختتم من أساطير ووقائع بلاد الرافدين، من ملحمة كلكامش وارض الحياة :
فأجاب( الاله) اوتو السماوي:
ولكن ما شأنك بأرض الحياة؟
فأجابه كلكامش: يا اوتو اريد ان اكلمك فاصغ لكلمتي
في مدينتي يموت الرجل وهو حزين القلب
ان الرجل يهلك وقلبه مثقل بالألم
ها انذا انظر من فوق الأسوار
فأشاهد هياكل الموتى وهي طافية في النهر.