صـنـاعـة الـتـخـلـّـف!
الدكتور عـبد القادر حسين ياسين
التخلف صناعة،
وربما أحد علوم العصر الذي تميزنا به بحق؛
فنحن أمة تفوقنا في كل علم وفن،
ومن أبرز هذه الفنون: فـن التخلف.
نحن أمـّيون، وربما نفاخر العالم بذلك.
إننا نصنع الأمية وننتجها،
ولربما نـُصدرها إلى أطراف العالم من حولنا.
التخلف عملة وطنية ؛
نحن من صنعها من أجل أن يتعامل بها الجميع،
وهي العملة الوحيدة في العالم التي لها وجه واحد فقط،
مرسوم عليه الجهل.
نحن الوحيدون بين الأمم الذين نحارب الجهل بمزيد من الجهل.
ونحن ، من دون العالم، نفاخر بأننا أمة “إقـرأ” ،
في حين ناصبنا القراءة كل العداء،
وجعلنا من القراءة والكتب أعـداء لنا منذ زمن بعيد.
ونحن من بين كل الخلق الذين جعـلنا شعار المرحلة،
، مع الاعـتذار للشاعـر عـمرو بن كلثوم:
“ألا لا يجهـلن أحـد عـلـيـنـا
فـنـجـهـل فـوق جـهـل الجاهـلـيـنـا!”
فـنحن ، إذن ، من خلـَّد الجاهلية ،
مهما كان قـصد الشاعـر من كلمة جهل بريئاً وإيجابياً.
لدينا جاهلية قـديمة ، وجاهـلية معاصرة ذات أصول ،
ويتم تدريسها في مدارسنا وجامعاتنا، ونتداولها في تعاملنا اليومي.
نحن نجهل ونتجاهل في كل شيء.
لدينا مئات الفـضائيات التي لا حصر لها،
تبث في ثنايانا مختلف صنوف الجهل والتخلف،
وتسلب أوقاتنا وربما عـقـولنا – إن بقي لدينا شيء منها.
نتكلم كثيراً ، وجعـلنا من القول فنوناً،
ومن البلاغة صناعة،
ومن السجع طريقة،
ونمارس الكسل بكافة أنواعه التي من أهمها الكسل الفكري،
فالدماغ في إجازة منذ قرون خلت،
بانتظار صدمة كهـربائية عـلها تبعـثه من سباته العميق.
نمارس الكره… وأحيانا الحقـد ونرغـب في الحرب،
ونتبارى في الجهل والأمية.
نمضي الساعات نبحـلق في الشاشة الصغيرة وربما الكبيرة،
بحثاً عن شيء، ولا نجده.
نضع الأطباق فوق سطوح بيوتنا،
ونقـلـب المحطات وننام، ثم نصحو من أجل أن ننام من جديد.
نلقي مسؤولية كل مشاكلنا على الآخرين،
على الاستعمار، وعلى القـضاء والقـدر،
ونـدفـن رؤوسنا في الرمال.
نشتم الآخرين وندعـو عليهم بكل أصناف الدعاء،
ونقـنع أنفسنا أننا ما زلنا “خـيـر أمــَّـة أخـرجـت للـنـاس…”.
لا علاقة لنا بالإنتاج،
ولا رغـبة لنا في التطور،
بل إننا قد نحارب من يقـدم لنا فكرة قد تقود إلى تطورنا.
نصدق كل شيء، ونؤمن بالخرافة،
ونقـدس الأسطورة، ونفـرح بنشر الإشاعة.
عاطلون عن العمل،
وصنعـنا من البطالة مهنة.
بل إننا نعـيب على غيرنا حين يعمل.
لا نقـرأ التاريخ،
ونكره درس التاريخ في المدرسة،
ونتثاءب كثيراً،
ولا ندري ماذا نصنع بالمعلومات التي يضخونها في رؤوسنا، وعلى مسامعنا ليل نهار.
نفاخر بأمجاد الماضي،
ونزعم أن الأندلس كانت لنا،
ولا نملك حاضراً مشرفاً نتحدث عنه.
كل الأمم لها حاضر، ونحن ليس لنا إلا الماضي نتغنى به.
نفاخر بخرافات الزير سالم ،
ونباهي برجولة عـنترة العـبسي،
ونذكر في مجالسنا كرم حاتم الطائي الأسطوري،
ونسمي أولادنا وبناتنا أسماء ،
ونخلد أولئك الذين أورثونا الجهل والتهور وربما الغباء.
نسخر من الآخرين،
ولا يعجبنا العجب،
“ولا الـصـيـام في رجـب”،
ونظن أننا لا غالب لنا.
ونمجد مفهوم الذات لدينا،
ونعطي أنفـسـنا كل الحق أن نـُصنف العالم وكل من حولنا،
ونلصق بهم نعوتاً وألواناً بعـدد ألوان قـوس قـزح.
نحن جاهلون رغم كثرة مدارسنا،
وجاهلون رغم انتشار جامعاتنا،
فـليس من بينها جامعة عـربيـة واحدة،
استحقت أن تكون من بين “أفضل خمسمائة جامعة” في العالم الحديث،
وجاهلون رغم أن كثيراً منا يحمل درجة الدكتوراة أو في طريقه إليها.
نمارس الشعـوذة،
ويذهب حتى المتعلمين إلى مشعـوذي الطب.
يضربون المرضى بحجة إخراج الجـنّ من أجسادهم،
ولا نؤمن بالطب النفـسي ولا بقدرات العيادات النفسية،
ألـيـس هـذا هـو الـجـهـل بـعـيـنـه؟!
وفي زمن الانفجار المعرفي الهائل،
تتفجر لدينا مواهب تفسير الأحلام،
والمعالجة من خلال الشعوذة،
وكل ما هو بعـيد عن العـقـل.
نجهل بتفوق،
ونتخلف بجدارة،
نصدق كل شيء، ولا ندقـق في شيء،
ننعم بالجهل ونـتـلـذذ بحلاوته، ويقـتـلـنا الكبرياء..
لا نقـبل الاختلاف في الرأي،
ونعلن الحرب ببساطة، فهذه الواحة لنا دوماً وأبداً،
وخلال لحظات، ودون نقاش تمتد أيدينا إلى سيوفـنا،
ونعـتلي ظهور خيولنا، فلا مجال لتفاوض،
وكل من يقول رأياً معارضاً قد يصبح خائناً.
نتخبط في الفكر، ولا مجال لاستخدام العـقـل،
ونـلعـن العـولمة، ونعيش في ظلها،
فـهـنـيـئاً لنا لأننا ننعم بالجهل،
فـقـد صدق قول أبي الـطـيـب الـمـتـنـبي فـينا:
ذو العـقـل يـشقى في النعـيـم بعـقـلـه
وأخـو الجـهـالة في الشقاوة يـنـعـم.