قيدار نمر جندي
– من قصص ضياع الوطن بإسم التحرير .
صبحكم الله بالخيـر …… ، وما يتلوه من آداب الكلام مع الزبون أو الزائر .. يرددها الغالبية من سائقي التكسيات في بغداد ، وما أن تعطيه عنوان مقصدك .. حتى يلتقط أسم محافظتك .!.
صادف بل وتكرر معي كثيراً هذه المفارقات الجميلة إذبان التسعينيات من ذلك الزمن حينما كنت طالب دراسات في جامعة المستنصرية ، وبعدها في الطـريق إلى لبس بدلـة ” الخاكـي ” بغية العمل في مجال مؤسسة أمنية بصفة ” ملازم ” .
تتركز مشاهد هذه القصة بعد مرحلتين شاخصتين هما الأكثر في حياتي ، وتحديداً في السنة التي تلت الإحتلال عام 2003 .. وفي بغداد نفسها ، حيث ومع بوادر تشكيل أول حكومة إنتقالية .. فاضت رائحة مشاركة جميع الأطياف في كابينتها ، والإيزيدية منها ضمن وزارة صغيرة حجزت بين صفحات التأريخ إسمها لأول مرة .. ومع بالغ الأسف لآخر مرة حتى يومنا هذا .!.
عموماً ، الأكاديمي القدير ” الدكتور ممو فرحان عثمان ” جاء من خارج البلد لتسنم شؤون وزارته .. وإحتاج في مشواره هذا ضابطاً مهنياً بعيداً عن شوشرة ( الواسطات ) وما شابهها التي دخلت الخط ولم ينفع ، يعمل بإستقلالية وحرفية عالية وظيفته .
كنت كما بدا وإختار فيما بعد هو ذلك الشخص الذي تقلد مهام ومسؤولية حمايته ، وللأمانة أقول : ” كانت رحلة عصيبة بالعمل بعد فترة غياب ومتابعات وملحقات للتقارير السرية من ( س ) و ( ص ) وجميع الأحرف الهجائية وأذناب السمع عني .. دون البصر على مجريات العمل والسيرة ، ومفاجآت رؤية أسماء بارزة بدأت تخرج عن مسار أصولها وعملها السابق إلى أحضان الأحزاب الشتى .!. ” .
مرت الأيام والشـهور ، وراقت للسيد الوزير نصوص عملي اليومية بجدية وهدوء في ذروة تصاعد الأحداث وقتها من جوانب عدة ” التيار الصدري – خلايا المجاميع المسلحة الأخرى بعناوين العرب الوافدين لمقاومة الأمريكان – عصابات الأحزاب والميليشيات الحالية ووو ” حتى قبل تقديم إستقالتي بأسابيع قليلة سبقت تشكيل حكومة الجعفري الطائفية .
وذات أحد أيام تلك الشهور القليلة ، كلفني الوزير بمهمة خارجية ذات طابع مالي إلى إحدى المصارف .. وحتى أذهب الى هدفي ، كان يتوجب عليَّ المرور عبر شارع ” حيفا ” الخطير وقتها .. حيث شاعت وقتها بروز إستهدافات صدرية ومجموعات أخرى لأية أشكال حكومية أو أمريكية .
إستقلت في تنفيذ واجبي هذا سيارة أجرة ( تكسي يعني ) بعيداً عن إعطاء فرصة إقتناص لهذه المجاميع لما آخذه من وسيلة نقل رسمية ، وكانت الوجهة مع سائق التكسي ” أبو حيدر ” الذي لن أنساه أبداً .
أبو حيـدر هذا كان رجلاً ذو قامة رفيعة ، ملامح وجهه تشير إلى هويته البغـدادية الأصيلة .. حيث السماحة والبساطة وعفوية التعامل وشراحة القول . ما أن اوقفته حتى صَبحَ عليَّ بشوشاً : ( صبحكم الله بالخيـر عَمي ، إصعد .!!. ) ، طلب مني الصعود دونما بحثٍ عن العنوان والقيمة اللتين يبدئا بهما جميع سـواق التكسيات .
– سألته قبل أن أحمل نفسي بالصعود : عمي مصرف الرافدين بدون زحمة ، إشـكَد تآخذ .؟.
– إصعد عمي إصعد ، كَول يا الله .. إنتو أهل الموصـل تآمرون أمر .. ( وكأنه رافق تفصيلات سجل أحوالي المدنية ) .!.
خلال الطريق صادفنا موكب مهيب قبل إشارات المـرور ، سيارات رسمية حديثة .. حمايات نزلت تقطع الطريق من جميع الإتجاهات .. ” هوسات ” وطاق وطيق وعبارات مشينة من أفراد هذه القوة لأي مواطن أو سائق سيارة لم يلتزم سرعة الوقوف في ثانية عبور موكب هذه الشخصية المهمة .!.
فهمت بدوري مصدر هذه القوة ، وهو الآخر فهم الحالة التي كانت مفتاح آهــاته الحزينة .
– شوف إبني ، قالها وهو يشعل بيده الضئيلة اللحم سيكارة أخرجت دخانها مأساة عميقة من داخله : آني جنت بحزب الدعوة ، كنا نسوي شغلات وطلايب ما يسويها عاقل هسه ، وإنسجنت أربعة سنوات .. وما ظل شكل ولون من التعذيب وما أخذت . عندي وِلد إثنين وبنية ، حرمتهم مني أربعة سنوات ” وهو يشير بأصابع يده اليمني لي ” علمود حزب الدعوة ، جا العفو قبل الضربة وطلعت .. وصار السقوط بعدها ، كَلنا يا الله .. خلصنا من صدام وراح يآخذ كل واحد حقه ، وما تشوف غير هذوله السَفلة اللي جانوا حيشاك ( قشامر ) بيناتنه ودايحين في إيران وسوريا يصيرون أوادم بروسنا بالخضراء ( في إشارة إلى مقر الحكومة الحالية في المنطقة الخضراء ) ، هذا صار وزير .. وذاك صار نائب ، والآخر صار بالأمانة وعينك وما تشوف هذوله السرسرية والكَـواويد .!!!.
واصل العم أبو حيدر فصول سيرته الكفاحية لي بعد أن زال حسبما لاحظته جزءاً من همومه في هذا الحديث : مرات ما أريد أرجع للبيت ، تدري لييييش .؟.. لأن أرجع وأكَابل نفس السؤال من إبني الجبير :
– يابه ، شـوَّكت تخلص من شغل هذا التكسي التعبان وتآخذ حقك حالك حال هذوله المسؤولين .؟.
– جنت أرد عليه دائماً ( قالها بألم غائص ) : وليـدي ، هذوله مو مسؤولين مثل ما تتصور .. والله ثم والله تمنيت أنسجن بعد أربع سنوات أخرى ، بس يرجع الوضع مثل ما جان .. لأن كله طلع جذب بجـذب ، يا هو اللي جان مُخبرجي وفالت يدور على كُطف جـكَارة صار آدمي براسنه .. ويا ريت نبقى على هـ الوضع هذا وما نتخارب بيناتنه .!!!!.
أنهـى هذا الرجل الطيب والمظلوم مع خطأئه السابق كلامه وهو يبحث عن مكان يناسب وقوفه ووقفته ، وما أن وجده حتى بدا لي بتقديم واجب وكرم وعفوية أهل بغداد : ” عَـمي خليها على حسـابي الله عليك ، ما يصير نآخذ منك وانت ضيف .. لا باجر أهل الموصل يزعلون علينا ” ، وهو يُخرجها من داخله الملئ صدقاً كما قصته عن خسـارة وطن بأيادي ( كَواويـد ) وتجار الدم العـراقي البرئ بعد حين ، بعدما غرس في نفسي هذه القصة المؤلمة عن مشهد من مشاهد ضياع الوطن .