بعد ان كبر نسلُنا وغادرَونا ، تشتتوا في الأقاصي البعيدة والقريبة ووفَدَتْ رفيقة عمري الى خالقها واختارت الحياة الأبدية ملاذا ومأوى وتركتني بعد اربعة عقود صداقة ووفاء وامتزاج روحي ولحمة ووئام لم تعكّره هنيهات الخصومات الصغيرة ولحظات الغضب العابرة ولذعات اللسان والملاسنة ودقائق الزعل التي سرعان ما كانت تخبو بمعين المودة وتدفق ينابيع الصفو والمؤانسة والحب العارم بيننا .
هذه الايام صرت أصحو في الصباح وحدي والصمت يلتفّ بي بسكون لم أعهده قبلا اذ لا ربكة أطفال ولا صحوة شريكة الحياة وهي تنشغل في ترتيب بيتها وقرقعة الصحون في المطبخ ولا طلة الصباح بابتسامتها المعهودة وهي ترمي جريدتي المفضلة على منضدتي القريبة من السرير وتردد ساخرةً : الا تشبع من الأخبار ، تعال لتتناول إفطارك .
أتساءل بحسرة شديدة وتكاد الجهشة تتراءى على وجهي كلما تذكرت حياتي الاولى مع جلجلة الأولاد ودوران امرأتي في البيت وحركاتها الضاجة ؛ اين ولّى ذلك الضجيج الطفولي وهرَج الفتيان وصخبهم الصباحي خاصةً ؛ وكلٌ يبحث عن ضالّته ؛ فذاك يفتقد حقيبته والآخر يبحث عن حذائه تحت السرير ويجده اخيرا تحت الدرج وسط زعيق الام وهي تسارع لتنظيم هندام أولادها وتكمل معهم ما مطلوب من كراسات وكتب منهجية في جدول الدروس اليومي والأسبوعي وصوت الاطفال وهم يتنادون لأخذ لفائف سندوتشاتهم على عجلٍ يصاحبه حراك صاخب .
هنا أدعو الذاكرة ان تستعيد نشاطي الاول حينما انهض باكراً وأجمع أولادي ليشاركوني إعداد طعام الإفطار قبيل الذهاب الى مدارسهم وقد كنت اعتمد على أربع خطوات لابد من انجازها في تهيئة مائدة الفطور التي اعتبرها أهم من وجبتي الغداء والعشاء كطريقة مثلى في التغذية السليمة وهم يضحكون خفية عني لشدة التزامي بقواعدها .
كنت انتقي ماعندي من فواكه لتكون مادة اساسية واختار من ألوانها وأشكالها بما يشابه شكل الحلوى طعاما مستساغا للطفل لتفتح شهيته معاندا مطالب سيدتي في ترك الاولاد وشأنهم ليأكلوا ما يشاؤون للحاق بمدارسهم ، ولا أنسى ان أضع بعض الخضار مثل الجزر والطماطم والخيار بحيث تنسجم هذه الأشكال في اللون والترتيب ” فالعين تأكل قبل الحلق احيانا ” ليرى الأولاد طبقا جميلا زاهيا ملوّنا مما يعزز شهيتهم .
لم أكن أعطيهم الحليب وأجهد في منعهم من شربه الاّ بعد ان يتناولوا طبق الفاكهة وشيئا من الخضار الموضوعة في الصحن ، لئلا تمتلئ بطونهم ويعزفوا عن تناول الفواكه والخضر فهذا ما اعتدت عليه من خلال ثقافتي الصحية المتواضعة باعتبارها عادة خاطئة وكنت أسعى ان أشرك بنِيِّ في إعداد أطباق الفطور ومساعدتي في إحضار الطعام من البرّاد وغسله وتقشير البيض او كسره في الإناء ريثما يتم قليه حيث تعمل أنامل الأطفال معي في التحضير وترتيب المائدة الصغيرة من قبلهم ليشعر الطفل انه هو من ساهم في صنع وتهيئة المائدة ؛ فالأطفال يحبون ان يأكلوا طعاما يكون من صنع أيديهم أو شاركوا في إعداده مع أبويهم .
ولا انسى حزمي الشديد يوم كنت امنع اطفالي من اخذ الصحون جانباً ليأكلوا امام شاشة التلفزيون اثناء العشاء او الغداء فقد توجست خيفة ان الطفل يأخذ منحيين عند الاكل حينما يرى فيلما من افلام الكارتون مثلا ؛ فأما ان تقلّ شهيته وهو منشغل بمتابعة الشاشة بحيث ينسى الأكل ويتفاعل مع الفيلم وما يراه على الشاشة او يزداد نهمه مع متابعة ما يرى مما قد تسبب له السمنة المفرطة مستقبلا .
امام هذا السكون الذي اعيشه الان بين قراءة الكتاب مع ماتتخلله من اتعاب بسبب العيون الواهنة ، ألجأ بين الفينة والاخرى الى مشاهدة بعض الافلام المنتقاة والتجوال في غاليريهات اللوحات الفنية مما يقدمه الانترنيت لنا والاستماع الى مايقوله المفكرون في محاضراتهم ومن ثم التجوال السريع بين الصحف والمجلات والمواقع الاخبارية للاطلاع على مايدور في هذا العالم من عجائب وغرائب ومن سكينة ومن صخب اختلي بنفسي في ساعات الليل المتأخرة لأكتب مايجول في نفسي دون ان يقحم خلوتي احد افراد اسرتي لأقوم بطرده خارجا حتى أكمل ما بيدي كما كان يحصل في السابق حين كان البيت مليئاً بالحركة .
الان لم أعد اسمع وقع اقدام أمّ العيال وهي تأذنني بالدخول الى مكمني حاملةً فنجان القهوة او ابريق الشاي الاخضر الذي اعتدته شرابا ساخنا اثناء القراءة والكتابة وحدي .
كما اختفى إلحاح صغيري وهو يرجوني ان اشرح له قصيدة مطلوب منه حفظها على ظهر قلب كما يقال أو إعراب جملة عصيّة عليه في دروس النحو والقواعد وزجره من قبلي طالبا تأجيل مطلبه حتى انهي ما بيدي من موضوع . فما عليَّ في هذه العزلة سوى ان اقدّم دعواتٍ لمن عشت معهم محباً ومراعيا اهتماماتهم ومنفذا لطلباتهم كي أستعيدهم ذهنياً ليلتمّوا حولي ويلتئم شملنا ولابأس ان يكرروا صخبهم معي حتى لو وصل الامر الى الهرج والمرَج والزعيق وتعطيلي عن هوايتي العتيدة في القراءة والكتابة .
بتّ في عزلتي ووحدتي أردد بيت الشاعر عمرو بن معدي كرب الشهير :
ذهبَ الذين أحبهمْ —- وبقيتُ مثل السيف فردا
وأترنّم بما تجود به دواخلي من مقاطع شعرية على غرار هذا البيت سلوىً وعزاءً وتأسِّياً مثل غرّيد حبيس في قفص ليس له من رفقة الاّ ان يغني وينشد لعله يخفف من لواعج الوحدة :
قد كنتُ سيّـد أسرتي —- متآلِـفاً جَـذباً وشــدّا
أرخي وأحْـزم مرةً — وأكون للأولاد عَـبـدا
أبكي واضحك جُنّةً — فأرى الدّنا هزلاً وجدّا
بين اغترابٍ او رحيلٍ – هكذا المشوارُ أبدى
من لي بجالب أسرتي– كي انتشي حبّا وودّا
لستُ الإلهَ بمعجزٍ — لو كنت أقْـدر أنْ أردّا
والعيشُ لا طعمٌ لهُ — فالسيفُ قد يشتاقُ غِمدا