رؤى اياد عبد الرزاق
عندما يطرأ على مسامع الشعوب كلمة (الحرب) فإنهم ينقلبون على أعقابهم خوفاً، وكذلك عندما يقرأ الباحثُ أو يتعمّق القارئ -بصفة عامة- بالحروب التي سبق وإن حلّت ضيفاً ثقيلاً على الأرض منذ تاريخ البشرية، وبجميع مراحلها، ولسنوات تلتها لغاية اللحظة، حتما يشعرون بنوبات من الاكتئاب والخوف والهلع.
إن الحروب في العادة مادّة دسمة أينما حلّت وارتحلت، سواء من قبل واضعيها، أو مفتعلي الفتن؛ وحصّة الأسد ممّا سوف تخلّفه هو الشعوب، لأنهم معرضين للويلات والآهات وفقد الأحبة، وخسائر جمّة، فهاهي طبول الحرب تُقرع ما بين الفينة والأخرى، معلنة إلى مناوشات لحروب كلامية -نعم، وبكل تأكيد حروب كلامية- فالعالم وبعد ما مر به من حروب عانى الأمرين، فلم تعد الحروب بالنسبة له وسيلة وغاية تبررها، وإنما مُجرّد كلام يمر مرور الكرام ليس إلا.
فـ(الحرب الناعمة) حالياً وما أفرزة الواقع العالمي اليوم أصبحت هي الرائدة دولياً، ما بين القوى العظمى -المهيمنة على مجريات ما يحصل- وبطبيعة الحال فهذا النوع من الحروب، وقد تبدو للوهلة الأولى من تسميتها، ومن باب السخرية والتهكّم بـ(حرب لطيفة) أو جميلة، ولكن عند التمعّن بها، وخاصة من قبل صُنّاع القرار ومن يعنيه الأمر نجدها مشتملة مجالات مُتعدّدة، فتارة تتّجه إلى الحروب الكلامية، أو ما يسمى اصطلاحاً (التراشق الاعلام) وتارة تتجة إلى الحروب البايلوجية، أو ما يُعرف بـ(حرب الفايروسات)، وأخيراً وليس آخراً الحروب الاقتصادية المُتجدّدة، أو ما يُعرف بـ(العقوبات الاقتصادية)، فمنذ الحرب العالمية الأولى، وما خلّفته من أضرار كبيرة في الدول التي شاركت فيها، وحتى المحايدة منها، وكذلك الخسائر الاقتصادية المرافقة لأي انتكاسة عالمية، ومن أهمّها (الكساد العظيم)، وما تخلّلها من موجات ثورية، عُرفت بـ(الحرب الاجتماعية)، من قبل الطبقة العمالية، وأصحاب الطبقة البرجوازية، وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية، واستخدام الأسلحة الثقلية المُتطورة بأنواعها، من القنابل الفتّاكة -الذرية والنووية والكيمياوية- وما خلّفته من سقوط لدول، وانتهاء محاور عالمية، لغاية إنزال النورماندي، والإطاحة بالمعسكر النازي، ففي العام (1945 ودخول العالم موجة جديدة من المواجهات، ما بين: الدول العظمى، ولكن بعيداً عن الحروب الدموية، ليدخل مرحلة الحرب الباردة، بين: المعسكر الشرقي -المتمثل بالاتحاد السوفيتي سابقاً-، والمعسكر الغربي، المُتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية، واستمرارها ردحاً من الزمن، ما يقارب (45) عاماً، تخلّلتها منافسة كبيرة بين المعسكرين، في سباق التسلّح والتطوّر التكنلوجي، والحرب النفسية، التي قامت الولايات المتحدة بممارستها بشتى الوسائل، ومن أبرزها سياسة الاحتواء، ولغاية إنهيار الاتّحاد السوفيتي، في مطلع العام (1990) ليتحول العالم من ثنائية القطب، لعام أحادي القطب، تسيطر عليه قوى عظمى واحدة، أثبتت وجودها على الساحة من خلال إحكام القبضة الحديدية لها، وإطلاق لقب (ميزان القوى العالمية)، بكل تواضع وتجرّد من جانبها، وربما استحقاق لما عملت ووصلت إليه، وحسبما يروّج مدّعو الثقافة الإمبريالية العالمية، فابتعد العالم بشكل شبه تام عن الحروب ومآسيها؛ ليتم بعد ذلك السعي إلى الدخول بحرب لا تكلّف مجهوداً كبيراً، ألا وهي (الحرب الناعمة)، أو كما سمّاها وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، وأستاذ العلوم السياسية (جوزيف ناي) في عهد الرئيس كلينتون.
ولكن من المنظور السياسي العالمي واعتبارات الأمن القومي وما ظهر على الساحة العالمية من هيمنة يُطرح تساؤلاً مهماً: (هل سوف يستمر الحال على ما هو عليه بالنظام الأحادي القطب، أم سوف يتقلّص دور القطب، ويعود إل ثنائية، أو حتّى ظهور ثلاثية القطب، بالمحور الثالث، الصين: باعتبار أن العالم ما قبل كورونا ليس هو ما بعد كورونا)؟
وللإجابة عن هذا التساؤل وبكل بساطة، لن تكون الشعوب هي من لها حق الرد والإجابة، لأنها المُتضرّرة الأولى والأخيرة، وتراكم كل أنواع الحروب الناعمة في الوقت الحالي، والمعاناة على مستوى العالم، وما نلاحظه بشكل يومي من أحداث وإفرازات سلطوية، وتنافرات سياسية وواقع حال مرهق.
ولعل ما نراه اليوم من محاولة إعطاء صفة جمالية للوضع الحالي، فنجد إن صناع القرار وكأنهم في داخل صالون؛ يقومون بإدخال العالم وما به من وقائع وظروف تجعله ليس بالمكان الجميل، فهم يرون إدخاله بهذه الحالة ليخرج بأبهى صورة، ويكون عالماً جديداً، ووفقاً لمعطيات وأسس وقواعد وأنظمة ابتدعوها، وسواء أكانوا يعلمون أم لا يعلمون، وفي الأغلب يعلمون أن الخروج من صالونات الأزمات المفتعلة لا تمنح الجمال مطلقاً، فربما تخرج بعض الدول من عداد الأزمات، كما يخرج الشعر من العجين، وتدخل أخرى بأزمات كما يلج الجمال سم الخياط، أي بما معناه أن صالون الحرب للدول التي سوف تخرج بسلام يكون ناجحاً في عمله، وربما يحصل على الكثير من الموازنات الاقتصادية وغيرها، وعن الدول التي سوف تقع في الأزمات، تخرج بصورة بشعة جرّاء ما خسرته مهما حاولت بأن لا تظر بتلك الصورة، فهي واضحة للعيان، وبكل تأكيد لندع ذلك كلّه ونرى ما سوف تفرزه الأيام لنا في قادم المواعيد، فهي بلا شك حُبلى بالمفاجآت، وعلى الشعوب أن تكون يقظة، وأن تنهض من السبات الذي ما زالت تقبع فيه منذ سنون مضت، ولعلَّ النور يشع في الظلام معلناً كلمته الفصل، ولعل الأمر يدب في النفوس فعلاً.