ميسون أسدي
لطالما شدّتني نصوص الأدب العالمي حول الحروب التي لعبت دورًا مباشرًا في سرد الروايات الأدبيّة. فالأدب يوثّق اللحظات المأساويّة التي قد يمرّ بها الجندي، ويصف بدقّة تلك الضغوط الجسمانيّة والعقليّة الفادحة التي تعرّض لها أثناء الحرب، وهو وسيلة تعبير العديد من الشعوب، وحتى الجنود، لتدوين مأساتهم مع الحرب الضروس التي نكّلت بشعوب الأرض بلا استثناء، وظروف الحرب، والحياة الصعبة التي عاشها الجنود، وعن آمال وتطلّعات ضحايا الحروب الدمويّة هنا وهناك، فكلّ شيء في الحرب يكتب بالدماء من البداية حتّى النهاية من الألف حتّى الياء.
***
عندما يذهب أحد أبناء الطائفة المعروفية (الدروز) إلى الخدمة الإلزاميّة في الجيش الإسرائيلي، تقوم باقي الطوائف باتهامه بالخيانة لشعبه الفلسطيني، ولكن عندما يرفض الخدمة ويدفع الثمن حرّيته داخل السجن، يجد نفسه وحيدًا بدون نصير من نفس الناس الذين اتّهموا ذلك الشخص بالخيانة.
في أوائل الألفية الثانية، لفت نظري عرض مسرحي قدّمه فنان عربي درزي بعنوان “صالح رجع من الجيش”، كان العرض جريئًا جدًّا، وفي مفهومه الكلي يدعو إلى نبذ الحروب في أي مكان وزمان. عندها أخذت أبحث عن صاحب فكرة العرض، فوجدت أن صاحب الفكرة هو أيضًا عربي درزي وقد استقى الفكرة من فيلم أمريكي بعنوان “جوني حصل على سلاحه”، فانتقلت بالبحث عن الكاتب الذي كتب الفيلم الإنساني والرائع، فوجدت أنه الكاتب الأمريكي دالتون ترامبو، وهو واحد ممّن يعرفون بـ “عشرة هوليوود” كجزء من القائمة السوداء لها، والمتهمون آنذاك بانتمائهم للفكر الشيوعي، وقد تم منعه من العمل ككاتب سيناريو لمدة عشر سنوات، كتب فيها أشهر أفلامه تحت أسماء مستعارة لكتّاب آخرين.
تدور أحداث فيلم “جوني حصل على سلاحه” حول الجندي “جو بونهام”، وهو جندي في الحرب العالمية الأولى، حيث تعرض جو لقذيفة مدفعية أفقدته وعيه. يستيقظ جو في المستشفى ليكتشف أنه فقد أطرافه ووجهه، عينيه وأذنيه وفمه، لكن دماغه ما زال يعمل، ما جعله سجينا داخل جسده. ومن عنوان الرواية الأصلي جاء عنوان “صالح رجع من الجيش” وكانت خطوة ذكيّة وإبداعيّة، حيث قامت مجموعة من المسرحيين على بناء وعرض عمل فني عربي رغم كل التحديات…
***
لفت نظري أنّه بعد فترة وجيزة، لم أعد أسمع عن المسرحية التي قادتني بعيدًا، فأخذت أستفسر عن مصيرها، حتّى تبيّنت لي الحقيقة المرّة وهي أن جميع المسؤولين في مجال الإبداع وغيرها، كانوا عثرة في استمرار عرض المسرحية التي حصلت في حينها على عدّة جوائز، منها جائزة “أجرأ وأفضل نص” والتي قدّمتها مجلّة “ترفزيون” في حينه، رفضها الجمهور وكأنّهم يقولون لصالح: “لا تترك الجيش، لا نريد الصحوة لضميرك”!
والقصّة على العموم كانت كما يلي: المخرج ويدعى أيضًا صالح، هو رجل عبوس قليل الكلام وإذا تكلم فيعصر الكلمات واحدة بعد أخرى ببطء واكتئاب ومعاناة شديدة:
– لماذا أنت حزين يا صالح؟
– يقولون عنّي مجنون، وأنا لا أنكر الجنون، فالفنان الذي يفتقر إلى الجنون، هو ليس بفنان.
– إذا كنت حقًّا كذلك فأنت منعم، فكما يقولون “المجانين في نعيم”، وليس عليك أن تغضب.
أجاب بصوت عاطفي ملعلع:
– أنا غاضب لأنني توقّفت عن الكلام، سددت فاهي!
– أنت فنان ولك كلمتك، ماذا حلّ بك؟ لماذا توقفت عن عرض المسرحية؟
– مسرحيتنا، طرحت الأسئلة الأخلاقية عن الحرب والتجنيد الإلزامي المفروض على أبناء الطائفة المعروفية، والتي قد طرحها ترامبو في فيلمه “جوني حصل على سلاحه”. ومع أن المسرحية لم تطرح مباشرة مسألة تجنيد الدروز إلا أن صراعات بطل المسرحية ومعاناته ورسالته الإنسانية تحضر بقوة لتقود إلى السؤال المباشر: إلى متى سيبقى هذا الغبن اللاأخلاقي واقعًا على أبناء هذه الطائفة؟
***
فيلم “جوني حصل على سلاحه” أصبح مسرحية “صالح رجع من الجيش”، وقد تم إحياؤها بثوب جديد معرّب، وبطل المسرحية الشاب صالح وهو عربي درزي يعيش في إسرائيل.
حاول معد ومخرج المسرحية عرض المسرحية في قريته الدرزية، حيث يخدم معظم أبنائها في الجيش، ولكن المسرحية لم تلق استحسان الجمهور، لأنّهم رأوا بها تحريضًا على رفض الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي فباء إحياء المسرحية بالفشل مع أنّ مضمون المسرحية هو المناهضة للحرب في كل مكان وزمان. ولأن الحرب كقطعة النقد مهما دارت لن تقف على حافتها بل تسقط أمّا على الطرة أو على النقش، لقد رأى الجمهور بأنّ المسرحية ستزجهم بتحدّيات غير عاديّة في ظروف هذا “المجتمع الدرزي”، وان كان فلسطينيًا بكل ما فيه، إلا أنّه يتميّز عن المجتمع الفلسطيني العام بطبيعة العلاقة القسرية مع الدولة الإسرائيلية التي تفرض التجنيد الإجباري عليه وتحاول سلخه عن شعبه وأمّته.
كانت هذه بداية القصّة…. ومع كل هذا لم يفقد المخرج الأمل، فقرّر مع فريقه أن يقوموا بعرض المسرحية في الداخل الفلسطيني لغير أبناء الطائفة المعروفية من إسلام ومسيحيين، ولكن المسرحية لم تلق إعجابهم بحجّة أن الأمر لا يهمّهم، فهم لا يخدمون في الجيش ولا يشاركون في الحروب ورفضوا هذه المبادرة العنيدة للمسرح وأعضائه التي بدأت بلا أي دعم، لا من الداخل ولا من الخارج.
لملمَ المخرج ديكوره وممثليه وعاد إلى جبله الكرملي مبتلعًا حشرجة في حلقومه، يجر ذيل الهزيمة بين رجليه، لكنّه لم يرد للقصّة أن تنتهي، فقرّر أن يشحن نفسه مرّة أخرى ويحاول عرض المسرحية في القدس عند إخوتنا الفلسطينيين، وهناك جُوبه بالرّفض التام، بحجّة أنه ليس على الشعب الفلسطيني أن يتعاطف مع الجندي الإسرائيلي المحتلّ، حتى ولو صحا ضميره وهو على حافّة الموت. متجاهلين أن المسرحية تدعو لنبذ الحرب المفروضة على كل الشعوب، لرفع كابوس الحرب وإزالة القلق من أذهان الشعوب وبأنّ الشعب الفلسطيني هو الأجدر بالسلام، فالحرب تظل دومًا فاجعة إنسانية في أيّام الهزائم وأيّام الانتصارات على حدّ سواء.
***
طأطأ صالح رأسه، وضع قبضتيه على الطاولة وغرق في تأمّل حزين، ثمّ علّق:
– خذلوني ولفظوني لفظ النواة فآثرت السكوت.
***
ملحوظة غير خارجة عن النص: بعد التدقيق والتمحيص علمت فيما بعد، أنه كان هناك فنان يهودي فيما مضى، قد أعد نفس الفيلم كمسرحية باللغة العبرية، وكانت حينذاك صرخة مدويّة ضد الحروب، وبالطبع الحروب التي تخوضها إسرائيل، وقد لاقت المسرحية نجاحا باهرًا، حتى أنّها كانت تعرض أمام الجنود اليهود…