الدكتور زاحم محمد الشهيلي
حين نبحر في ثنايا تاريخ الشعوب الحية والامبراطوريات الكبيرة ومدى هيمنتها على العالم وافول نجمها بعد فترة من التوسع والازدهار السياسي والاقتصادي، ومن ثم اندثارها الى الابد كالامبراطوريات الرومانية والفارسية والاسلامية والعثمانية؛ ومن ثم الامبراطورية البريطانية في العصر الحديث وانهيارها بسبب الفساد السياسي والاقتصادي الذي دب في جسد مستعمراتها المنتشرة في الغرب والشرق، والذي أدى الى انحسار نفوذها وتقهقرها داخل الجزيرة التي يحيط بها بحر الشمال والمحيط الاطلسي، والتي تعرف الآن ببريطانيا العظمى، وظهور قوى ونظم سياسية واقتصادية جديدة حلت محلها لتطوي بذلك صفحة وتفتح صفحة جديدة من تاريخ الهيمنة الحافل بالاحداث السياسية والاقتصادية التي غيرت توازن القوى في العالم القديم والحديث.
ان ازدهار النظم السياسية والاقتصادية للامبراطوريات القديمة والحديثة وشيخوختها وافول نجمها الى الابد يعيد الى الاذهان ايضا نشوء الفكر السياسي والاقتصادي للاشتراكية والراسمالية الذي بدا ينضج بعد الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر وازدهاره بعد الحرب العالمية الثانية، والذي رافقه صراع وتنافس بين الاشتراكيين في الاتحاد السوفيتي السابق والراسماليين في غرب الكرة الارضية للهيمنة على اقتصاد السوق العالمي بدواعي مختلفة.
وبما ان الاشتراكية اقيمت على ركيزتين اساسيتين متكافئتين متمثلة بالموارد الاقتصادية والموارد البشرية برعاية الدولة، وان اي خلل يصيب احداهما سيؤدي الى انهيار النظام الاشتراكي برمته، لذلك حين دب الفساد السياسي والاقتصادي في جسد القطاع الاقتصادي الاشتراكي العام في دول الاتحاد السوفيتي بعد سنين من العدالة والمساواة في توفير فرص العمل والقضاء على البطالة والفقر الاجتماعي، والذي اخل باحدى ركائز النظام القائم عليها النظام الاشتراكي منذ التاسيس، وبات من الصعب اصلاحه، دق بذلك جرس شيخوخة هذا النظام وادى بالتالي الى انهيار الاتحادي السوفيتي سياسيا واقتصاديا وتفتته الى دويلات مستضعفة غير متمكنة اقتصاديا ميالة الى النظام الراسمالي وخصخصة المشاريع العامة لكي تستمر فيها الحياة الاقتصادية قدر الامكان، وبذلك لم يعد بمقدور المنظرين للنظام الاشتراكي اصلاحه او العودة به الى سابق عهده او تحديث آلياته بما يضمن مواكبته ومنافسته للنظام الراسمالي العالمي الذي بدا يغزوا الاسواق العالمية سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
ان انهيار النظام الاشتراكي السياسي والاقتصادي للاتحاد السوفيتي السابق عام ١٩٩١ اثر بشكل مباشر في منظومة العلاقات الدولية حين افرز نظاماً عالمياً جديداً بعد فقدان توازن القوى في العالم وانفراد الراسمالية العالمية ممثلة بالراسمالية الامريكية في قيادة العالم والتحكم بمصائر البلدان النامية والبلدان ذات الاقتصاديات الناشئة بنظمها الاشتراكية، وادى في ذات الوقت الى حدوث فوضى عارمة في الشرق الاوسط، وصراعات بين دول الاتحاد السوفيتي السابق منها بين روسيا الاتحادية والدول المحاذية للقارة الاوروبية مثل اوكرانيا وكرواتيا وغيرها بسبب انضمامها للاتحاد الاوروبي وحلف الناتو بزعامة الولايات المتحدة الامريكية، الذي اصبح يهدد مصالح روسيا الاتحادية السياسية والاقتصادية في المناطق المحاذية لحدودها في القارة الباردة وفي مياه الشرق الدافئة من جهة، وكذلك ظهور خلافات سياسية على المسرح السياسي بين الصين وروسيا حول ترسيم الحدود، وبين روسيا الاتحادية واليابان حول جزر الكوريل القريبة من الحدود المائية المشتركة الروسية – اليابانية، الامر الذي جعل روسيا – التي انقذتها المساعدات الامريكية من الانهيار الاقتصادي بعد عام ١٩٩١ – ان تعيد نفسها من جديد كقوة عسكرية لها تاثيرها في توازن القوى العالمية في الغرب والشرق، لكنها لا تستطيع ان تعيد امجاد النظام الاشتراكي المنهار ليكون قوة اقتصادية منافسة للراسمالية.
اما الراسمالية – بقيادة القطاع الخاص الغربي تحديدا – فاخذت تتطور بسرعة وتجني ارباحا كبيرة وكثيرة جدا لتسيطر على اغلب الدول في العالم سياسيا واقتصاديا وثقافيا بمساعدة الثورة الالكترونية الكونية وهزيمة النظام الاشتراكي وموته سريريا حين اعيته الكهولة والشيخوخة بوقت مبكر، لكنها رغم ذلك تعرضت الى نكسات مالية في اوروبا وامريكا عام ٢٠٠٨ خاصة في القطاع المصرفي والعقاري، مما استدعى تدخل الدولة لانقاذ المؤسسات المالية من الانهيار في المانيا ودول اوروبية اخرى حيث عُدَّ تدخلاً خجولاً نوعا ما لانه كان يعد اعترافا صريحا من قبل الدولة بالنظام الاشتراكي المنهار اصلا، وهذا الامر جعل المستشارة الالمانية انجيلا ميركل ان تدعوا الى ضرورة اصلاح النظم الراسمالية في اوروبا، وبذلك دق ناقوس الخطر في هذه القارة ينذر بظهور بوادر كهولة النظام الراسمالي وتدهور الوضع الاقتصادي وعدم استقراره الى يومنا هذا، اذ زاد ذلك من النفوذ والهيمنة الامريكية على بلدان “القارة العجوز” وانتج توجهاً جديداً في بناء العلاقات الدولية الاوروبية – الامريكية بعد مجيء ترامب للسلطة في امريكا عام ٢٠١٧.
لم تستسلم الراسمالية الغربية للشيخوخة المبكرة، اذ اتخذت عدة اجراءات جديدة من ضمنها ربط حركة المال العالمي بالنظام المالي الفدرالي الامريكي بحجة منع تمويل الارهاب العالمي المتمثل بالقاعدة وداعش التي صنعتها الامبريالية الغربية والصهيونية العالمية – حسب ادعاء الخبراء والمحللين السياسيين الغربيين – واتخذته ذريعة في ادارة المال والاقتصاد العالمي والتدخل في شؤون البلدان ذات السيادة بحجة محاربة الارهاب.
ورغم ظهور بوادر شيخوخة النظام الراسمالي في اوروبا عام 2008 وصعوبة معالجته بسبب الازمات الاقتصادية وتهرب الشركات العملاقة من دفع الضرائب بعد نقل معامل انتاجها واستثماراتها خارج القارة الاوروبية لارتفاع نسبة الضرائب وكلفة الانتاج العالية في البلدان الغربية، لكن تبقى الراسمالية الامريكية هي المسيطرة على سوق الاقتصاد الغربي القائم على الانتاج والتصدير الحربي واستغلال الموارد الاقتصادية الطبيعية في البلدان الغنية الخاضعة لهيمنة الولايات المتحدة الامريكية، مما انعكس سلبا على العلاقات الدولية بين الشرق والغرب.
لذلك يمكن اعتبار الراسمالية الامريكية راسمالية متطورة وبقمة عطاءها الاقتصادي حاليا لتعدد مواردها الخارجية، واعتبار أن امريكا لاتزال قارة بكر فيها الكثير من الموارد الاقتصادية الطبيعية غير المكتشفة لحد الان، والذي يعطي لنظامها الاقتصادي الراسمالي ديمومة وتاخر في الشيخوخة المبكرة، ولذلك يمكن التكهن بان الاقتصاد الامريكي الراسمالي سوف لن يتاثر كثيرا في حال حدوث ازمة اقتصادية جديدة كما حدث عام ٢٠٠٨، في حين ستنهار دول اخرى مرتبطة اقتصادياتها بالنظام الاقتصادي المالي الامريكي.
لذلك نلاحظ بان روسيا الاتحادية وبعض الدول الاوروبية بدات تفكر مليا بايجاد نظام مالي جديد في تعاملاتها المصرفية يجنبها اجراءات الحصار الذي تفرضه امريكا على بعض البلدان ونتائج الازمات الاقتصادية المتوقعة مستقبلا، وهذا الامر سيؤثر بشكل مباشر في العلاقات السياسية والاقتصادية بين الدول المتقدمة والذي قد يؤدي الى نشوء تكتلات اقتصادية جديدة ربما يكون لها تاثير على الساحة الدولية.
ويعد النظام الاقتصادي الصيني الواعد – الرأسمالية الاشتراكية الصينية – من الاقتصاديات التي في قمة عطاءها حاليا بعد انفتاح الصين الحديث على العالم الخارجي، واصبحت تستثمر في القارات الاخرى خاصة في افريقيا، مما يجعل اقتصادها مصدر تهديد للراسمالية الامريكية التي تعد في قمة عطاءها الاقتصادي ايضا، والذي ينذر بنشوب صراع بين الجانبين على غرار الصراع السياسي والاقتصادي السابق بين الاشتراكية الشيوعية والراسمالية الغربية، وهذا الامر سيؤدي الى ضرورة اعادة النظر في العلاقات السياسية والاقتصادية الامريكية – الصينية القائمة حاليا على التوتر وتقاطع المصالح. كل ذلك سيخلق جوا متوترا في العلاقات الدولية بين العديد من البلدان بسبب تضارب المصالح وعدم القدرة على تصحيح المسارات والنظم السياسية والاقتصادية التي باتت تشيخ كما تشيخ كل الاشياء على الكوكب الاخضر وتندثر حالها حال البشر.