عيسى مسلم جاسم
كثر الحديث وعلى شتى الصعد عن النتاجات الانسانية برمتها، فهذا الاثر سوداوي وذلك كتبه مبدعه من خلال منظاره الوردي، وهذا العمل تراجيدي موغل باحداثه الساخنة الدراماتيكية، وذلك الفنان يبتسم للحياة، فيحيلها ربيعا ونماء، والى جانبه اخر متطرف في شكواه وانينه، واجمالا يشدهما خيط وهمي يتراوح ما بين الابيض والاسود
.
ولكن ماذا تعني ثقافات الشعوب وعبر المراحل التاريخية، وهي بلا شك مرايا لكم هائل من آمالها، وهمومها، وفي الوقت ذاته ترجمة صادقة، ولسان حال امين، ونحن -المتلقين-، نستقبل الاعمال الانسانية عموما، على شكل لوحة فنية متباينة الالوان نجد انفاس المبدع واضحة يتردد صداها بين الالوان، نسمع من خلالها النغمة الرومانسية الى جانب الانّات المأساوية، وتصافح عيوننا المورق والمجدب، وان لم تكن الصورة كذلك، فالنتاجات مكتوبة اصلا للمترفين القلائل، وبلا شك نحن لسنا منهم، فلا نكتب لهم، ولا نقرأ عنهم، اولئك اصحاب الابراج العاجية، سواء كانوا طبقة نخبوية او اقلاماً وإيديولوجيات سال لعابها لمغريات الحياة,
التاريخ يوثق بامانة، فلا يساوم ولا يرحم، فلا الفاشية، ولا النازية، ولا السلاطين والطغاة، تركوا للبشرية تراثا ثقافيا عزز ترسانة الفكر الانساني وان ما وصل الينا قد كتب باقلام ودماء ودموع وعرق الجموع البشرية العريضة وهنا نتوقف عند المعاناة وهي توثق الويلات وترسم الانتصارات والانكسارات معا، فقلما نرى ميسورا قد ابدع شعرا او نثرا، وان كان كذلك فهو يرفض التميز والترفع على ابناء جلدته.
فالبحار الهائجة هي التي انجبت ملاحين ماهرين “كونفوسيوش” لا ريب وليس من الترف تسليط الاضواء على ارضية ثقافات الشعوب بالوانها المتباينة، واذواقها المختلفة، ومع الحشد، الكبير من الرؤى، بل والاتهامات احيانا، والتي مفادها، ما جدوى نبرة الحزن وما ضرورة مذاق الالم، وما سبب الانين والنواح، واكاد اجزم ومن جديد بعدم تواجد اية اثار ثقافية، بل سماوية او ارضية، والانكى من ذلك تواجدها، بل وثانية اقول في اعمال الحب والغرام والذي يتعاظم ويلج بابا جديدا من اللوعة والحرمان والوجد والهجران. القشة التي قصمت ظهر البعير، ما نشرته جريدتنا “طريق الشعب” بعددها الصادر الثلاثاء 29/ايار/2012 ، وعلى صفحتها السادسة “ثقافية” كانت ضالتنا المنشودة قصيدة “شموع استقرت بمحاذاة الالم، للشاعر “شينوار ابراهيم” نعم هذه القصيدة التي اقامت الدنيا لدي على اقل تقدير، وكما هي بمثابة “الدبوس” الماسي الذي فجر بالون ثقافة الالم في الفكر الانساني، نعم لا تلمني عزيزي المتلقي، وانت تراني اكرس الالم، وكأنه قدر مرسوم من السماء، بل واتفق معك، واضع يدي بيدك، لشطب مفردة “الالم” من كل قواميس لغات المعمورة، ولكن لا يغرينا السراب سيما والكون مليء بالصراعات، ومع كل ابتسامات البشر، تبقى الدمعة اشقى وامر.
نعود الى عنوان القصيدة “شموع استقرت بمحاذاة الالم” هذه الطلائع المؤلفة فقط من اربع كلمات تترجم واقع الحال، وتوضح بامتياز استلال ذلك من بين مدارج للمدرسة الواقعية الانتقادية، بل وحتى الاشتراكية. وجود “الالم” هو ثورة وعنفوان، وهو صرخة انتقادية للواقع المرير، ورفض القدرية والمقاسات التي رسمتها الانظمة الاستبدادية، والشهادة على الشعور بالالم المتأني من الغبن بفعل الاحكام الشمولية القمعية، والخطوة اللاحقة تأتي هل نذرف الدموع، ونلطم الخدود، بل الفعل الامضى الرقص على اكتاف الموت، وايقاد شموع التدفق والثورة والتغيير، وهنا يتجسد انبثاق الفكر الثوري “لا توجد حركة ثورية بدون نظرية ثورية – لينين- عندها يبدأ العد التنازلي لكتابة معادلة تاريخية جديدة تختلف عن المألوفة، بزاوية مستقيمة والعنوان لوحده ملحمة والهام للشعوب، القصيدة ملحمية على الرغم من من قصر سطورها، فهي تتألف من سبعة وثلاثين سطراً، وهي حدثاوية بأنسيابيتها وثيمتها، جاءت مندلقة من سفح شديد الانحدار كجواد “امرئ القيس” رديف جلمود وصخر خط من علٍ جاءت متدفقة وهذا الوصف للدكتورة الشاعرة الراحلة “نازك الملائكة” في كتابها النقدي المعورف “قضايا الشعر المعاصر” ومن جانب آخر فهي تقترب من شعر التفعيلة بقصر سطورها وصغر تفعيلاتها، مع بعض التفاوت البسيط ، ناهيك عن تواجد حرف الروي “الياء” ولخمس مرات وقد جاءت تلقائية، اضف لذلك فالقصيدة رشيقة ودسمة مركزّة في ان واحد كان بودي ان اصفها فوق مرجل حراري لتمددت وتشظت وازاحت الستار عن الكثير الكثير، هذه هي رغبة الشاعر الذي وضع “علامات الترقيم في ” اربعة” مواضع واكاد اراه وهو يزم شفتيه ويكظم همومه، فهنالك النقاط.. الثلاث والفوارز وعلامات الاستفهام وهي طلاسم تبدو للمتلقي فلا يفك رموزها سوى الشاعر وكاتب هذه السطور، الذي شاطره خصلة عدم البوح عن بعض المواقع.
نعم اتسمت القصيدة بالمفردات المألوفة، وهذا عامل قوة، وانسيابيتها كقطرات ندى على زجاج كرستالي، والجميل الذي سرني هو خلوها من الهفوات النحوية والاملائية والمتواجدة في اغلب نتاجات “الادباء”.
اتألم /ابحث متحيراً/ في متاهات / وطن ضائع هي سطور قليلة وقصيرة معاً بل هي هكذا مهمة الشعر التركيز الراكن في العمق حتى باتت المعلومة الفلسفية اتألم اذا انا موجود، وكما سبق في الاستهلال الطويل ان الالم يحمل بين طيات حروفه الكثير الكثير من رد الفعل، وفق الحقيقة الفيزيائية” لكل رد فعل مساوله في القوة ومعاكسة له في الاتجاه وهكذا هي لغة الالم بل الشعور به والبحث عن جذوره ومسبباته وسبل الخلاص منه، وبقدر ما يكون الالم قاسياً وثمنه باهظاً فأن الية الخلاص منه اكثر جسامة، وهنا لم يكن آنـّي فردياً، بل هو الم متراكم بقدر متوالية هندسية هو الم شعب بملاينيه، والم وطن بحدوده وتضاريسه وعلمه التواق الى العلا.
اتمسك بحبل الامل/ ربما/ تمر سحب اوجاعي غداً” هنا الف باء السعي للخلاص ووضع قدم اليمين على اول سكة تقود الى نهاية الالف ميل “مثل صيني” هو احتمال “ربما” وهو ليس ضرباً من الخيال، بل هو عمل تجريبي علمي ،الحياة هي التي زكت صوابه، وهنا نجد الصورة الشعرية البلاغية “سحب لاوجاع” نعم هي السحب لا بد من ان تثمر عن غيث ينهمر، وهنا بدأت الشرارة الاولى من الشرارة، يندلع اللهب واي ربيع ينتظر هذا اللهب الاسطوري، كم هي فاعلة ومؤثرة لغة الاوجاع ” وبلمسات نور مشتعلة/ يجعل مصباح دموعي فرحاً هنا الصورة تتضح ملامحها فكانت شموساً ذهبية اجهضٍت غمام الغموض، واستار الضبابية، اية قدرة متعاظمة تلك المعادلة الكونية التي احالت الدموع فرحاً لاريب انه الثمن كشمعة تذوب ولا تحرق ولكنها تمنح الضياء بلا حساب الميثولوجيا تشير الى ” اللقمة الغذائية تحتاج الى جهد كي توظف للبناء والتفاعل وبدون هذا الجهد تصبح مجرد نفاية تعيق العمل في اركان الجسد كافة.
ايتها الام / اصبحت/ تتأملين معي/ ترافقينني تنثرين غيثك على سواحل رممتها الازمنة الام هي مفردة عريضة وبأكثر من صورة، الاولى هي الجنس الاخر الفاعل الذي اراد له اعداء الحياة الضمور والتهميش فكبلوها وجعلوها عورة بأسمها وفعلها، وقد وقد نجحوا ردحاً من الزمن وما زال فعلهم يجلب لنا الويلات والمحن، الصورة الثانية للام هي الارض والحياة برمتها، فهي الغيث على السواحل، والانظمة الشمولية الاستبدادية، تدرك ذلك فقد اطلقت جام غضبها على الام بكل صورها، ففي حربها لم تميز بين طير ومدر وبشر، ايها الصديق/ انت/ الوحيد الذي/ يسمع آهات المي/ تمسح دموع احزاني/ باوجاعي” نعم هي المشاركة الواسعة والسلاح الواعي والنظرية التابعة تقض مضاجع الطغاة لا توجد حركة ثورية بدون نظرية ثورية”.
” هو قدرنا/ ان نسلك/ طريق/ الدموع بأغلظ الايمان نقول للمسارق والمغارب ” معاذ الله” لسنا طلاب حرب ولا عاشق دموع، ولا هواينتا السجون والانين، ولكنه السجال هكذا نحن ضحايا، وأمامنا طريق واحد يفضي الى خلاصنا ونكرر لكم لسنا بساديين بل نحن اداميون من الطِراز الاول ونحب الحياة الافضل وعلى الباغي تدور الدوائر والبادي اظلم.
نستيقظ على احلام مبعثرة/ وغد شوهته الارصفة” هنا استبيح الشاعر عذراً، الاحلام هي المنى الوردية التي لم ننعم بها باليقظة نراها في المنام، كان بودي ان يستبدل مفردة الاحلام بالكوابيس، هكذا قواميسنا خلت من الاحلام، بل نستيقظ على افلام مرعبة هي “فلاش باك” لعقود من التسلط والاستلاب.