شمعةٌ جديدة نشعلُها في تورتة هذه الصبيّة الصبوح التي وُلِدتْ بدرًا منذ أضاءت شمعتُها الأولى في يونيو ٢٠٠٤. اليوم تُكمل هذه الجريدة النيّرة المستنيرة عامَها الثامن عشر، وقد صارتِ الدُرّةَ المتلألئة في تاج الصحف المصرية والعربية. أفخرُ أنني ضمن كوكبة كُتّاب جريدة “المصري اليوم” التي نحتفل بعيد ميلادها هذا الشهر.
وأقولُ اليوم كلمةَ حقٍّ يُرادُ بها حقٌّ: إن حرفًا واحدًا لم يُحذف لي في مقال كتبتُه خلال تلك السنوات الطوال منذ انضممتُ إلى فريق محرريها قبل خمسة عشر عامًا. جريدة قوية لا حساباتٍ لها إلا صالحُ الوطن العزيز وقيم الحق والخير والجمال والعدالة المجتمعية. جريدةٌ وطنية لا تعرف العنصريات ولا الطائفيات تفتحُ أبوابها لجميع أبناء هذا الوطن، الجميل بتنوعه وتعدد رؤاه. هكذا كانت “المصري اليوم” منذ ميلادها، وسوف تظلُّ إلى المُنتهى بإذن الله.
ولا أنسى كيف بدأتُ الكتابة في هذه الجريدة الجميلة. كنتُ أجلس مع صغيري “مازن” وهو يقرأ عمودي الأسبوعي بجريدة “الوقت” البحرينية. عنوان المقال: (القطار … والطيارة الورق). كان المقالُ يحملُ وجهةَ نظر فلسفية تقارنُ بين القطار، والطيارة الورقية. “القطارُ” يسيرُ على قضيبين مُحددين مرسومين له سلفًا، لا يحقُّ له الخروجُ عنهما. لو شاء القطارُ أن يُبدعَ و”يفكرَ خارج الصندوق”، فخرج عن حدود القضيبين الحديديين، تحدثُ الكارثةُ وتُزهقُ أرواحٌ، ويُشبَّعُ الفضاءُ برائحة الدم. ذاك هو “قانونُ القطار” الجامد المتحجّر. أما “الطيارةُ الورقية”، فلها قانونٌ مختلف. قانونُها هو الحريةُ والانطلاقُ والألوانُ المنثورة في فضاء الكون. ليس للطيارة الورقية مسارٌ مرسومٌ سَلفًا، لتسيرَ عليه. إنما هي قصاصاتُ ورقٍ ملون وعصواتٌ نحيلةٌ مشبوكٌ في طرفها خيطٌ نهايتُه معقودةٌ في كفّ طفلة صغيرة تركضُ في الحدائق أو على رمال الشاطئ؛ فتحلّقُ الطيارةُ فوق الزهور وعلى رؤوس الأمواج، تطيرُ وتُحلِّق وترقصُ ما شاء لها الرقصُ والتحليق. قانونُ الطيارة الورقية خارجَ الصندوق. إبداعُها مرهونٌ بتحرّرها من قيود قضبان الحديد. لكنها في نهاية الأمر تحترمُ قانونَ الطفلة التي تمسكُ بقوادها. حريتُها غير مطلقة، لأن الحريةَ المطلقةَ عبثٌ وعدمية وضياع وفوضى.
سألتُ ابني: (أيهما تُفضّلُ، القطار … أم الطيارة الورق؟ تحب تبقى قطر واللا طيارة ورق يا مازن؟) قال لي: (أجيبكِ الأسبوع القادم.)… (المقال جميل قوي يا ماما. بس يا خسارة مش منشور في مصر! ليه مش بتكتبي الأفكار الجميلة دي في مصر للمصريين؟ ) ابتسمتُ وقلتُ له في تساؤل: (مش يمكن الصحف المصرية مش عاوزانا طيارات ورق، ولازم نكتب على قضيبين!) لم أكمل جملتي حتى رن هاتفي. فوجئت بالمتحدث يقول: “أنا مجدي الجلاد، رئيس تحرير المصري اليوم، عاوزينك تكتبي معانا، ممكن؟ نوعية المقالات المجنونة اللي بتكتبيها في “الوقت” البحرينية ناقصانا في الجريدة بتاعتنا.” كان ذلك عام ٢٠٠٧. ومن يومها وحتى اليوم، أكتب مقالين أسبوعيًّا يومي: الإثنين والخميس.
وأشهدُ أن “المصري اليوم” كانت دائما “الطيارة الورقية” التي تحلّق طوال الوقت بعيدًا عن القضبان الجامدة، ولكن، في حرية مسؤولة. لم تجامل، ولم تتطاول. السياسة التحريرية في بلاط “المصري اليوم” واضحةٌ وحاسمة وقاطعة، على تبدّل رؤساء تحريرها: “اِنتقدْ، ولا تتطاول”. “عارضْ بتحضّر، ولا تسِفّ بالقول ولا تتدنَّ بالحديث.” وهذا نهجي الأصلي منذ بدأتُ الكتابة، فكأنما “وافقَ شِنٌّ طبقَه”. فلسفة جريدتي الحبيبة “المصري اليوم” هي أن ننتقد الخطأ المجتمعي في رقيّ وتحضر وسموّ، دون شخصنة ولا تجريح، منذ رئيس تحريرها الأول “أنور الهواري”، وحتى رئيس تحريرها الحالي د.”عبد اللطيف المناوي” مرورًا بعديد رؤساء التحرير الأكفاء. ابتكرت “المصري اليوم” حقلا تُدوّنُ فيه أحلامَ المصريين “المؤجلة” في زاوية: “خبر غير صحيح”، انتظارًا لأن يغدو صحيحًا يومًا ما. تستقصي الأخبارَ بالدليل من مصادرَ موثوقة، ولا تسعى للفرقعات المفبركة التي تفتقرُ إلى دليل. لكل هذه الأسباب وغيرها، يعتزُّ ويفخرُ كلُّ من يكتبُ أو كتب فيها، بأن له مِدادًا بتلك الصحيفة النبيلة، كما أعتزُّ وأفخر بأنني أحدُ أقلامِها. وأعلن السيد رئيس التحرير الأسبوع الماضي في “منتدى المصري اليوم الاقتصادي الأول” بعودة “صالون المصري اليوم” الذي دشّنه الأديب “محمد سلماوي” قبل سنوات، وتوقف بسبب الجائحة. وكلنا شغفٌ لإحياء ظاهرة الصالونات الفكرية التي شكّلت وعي المصريين حتى منتصف القرن الماضي، وبغيابها اضمحلتِ الثقافة وضاع صوتُ الفكر وسط ضجيج الشارع.
اليومَ، كُبر ابني “مازن” ابني، وصار مهندسًا معماريًّا موهوبًا، ومعيدًا بالكلية، واختار أن يكون “طيارة ورق”، مثلي، ومثل “المصري اليوم”. كل سنة و”المصري اليوم” “طيارة ورق” ملونة وحرّة في أوج نور بلاط الصحافة.
شمعةٌ جديدة في بلاط المصري اليوم
شارك هذه المقالة
اترك تعليقا
اترك تعليقا