صالح أحمد (كناعنة)
كانوا هُنا…
وهُنا بَقيتُ أُعانِقُ الذكرى، فَذِكراهُم بِنا صَدرُ المَدى
وطَهارَةُ الأرواحِ تَحتَضِنُ المَكان.
كانوا هنا…
كَفَّ الثَّرى حُبًّا تَشَقَّقَ يَمنَحُ الأَحياءَ بابًا للضِّيا
أُنشودَةً تُحيي شِفاهَ الفَجرِ بِالتّسبيحَةِ البِكرِ التي
انطَلَقَت طَهورًا مِثلَ وَهْجِ الشَّوقِ في
أَحداقِ عاشقَةٍ بكَت حُبًا على أَسوارِ روحي
فاستَفاقَ لها المكان.
وهُنا مَرايا عِشقِهِم حَضَنَت حِكايَتَهم، تَحَرَّرَ صَوتُها
صارَت نشيدَ صُدورِهِم للأرضِ، تَهليلَ النّدى
شَوقًا لمَبسَمِ قَمحِهِم
يَعلو ويَمنَحُ صَبرَهُم لَونَ الحَياةْ.
كانوا هُنا…
خُطُواتُهُم صوتُ ارتِجالاتِ المَدى
تَسبيحَةُ الأُفقِ المُعانِقِ زهوَةَ الفجرِ الجَديدْ.
كانوا هُنا…
هيَ ذي عُطورُ أَكُفِّهِم
تَنشَقُّ مِن أَسوارِ روحي
شُعلَةَ الذكرى ونبراسَ الزّمان.
تَأبى الحياةُ وكلُّ ما تَرَكوهُ في أَعماقِ روحي
أن يَموتَ نَشيدَهُم.
وكَذا مَواسِمُ حُبِّهِم تَحكي: بِأَنّ رحيلَهُم كَذِبٌ
كما تَحكي حِجارَةُ بَيتِهِم، أَصواتُهُم، خُطُواتُهُم،
زَيتونُهُم، وصفاءُ ماءِ العينِ.. أَنَّ رحيلَهُم كذِبٌ
فَهُم عاشوا بِنا أُنشودَةَ الذكرى وَتَرجيعَ الزّمان.
عاشوا بِنا قيتارَةَ النجوى لِجَفنِ الليلِ
والفجرِ الذي سَكَنَ الجروحَ
فكانَ فينا شهقَةَ الأرضِ، ارتِعاشَ الروحِ
في جَسَدِ الكيانْ
دَعْ للشجونِ بقيَّةً…
يا أَيُّها العمرُ الموَزَّعُ بينَ ما تَحكي الجُروحُ
وبينَ ما تَحكي شَبابيكُ الهوى
عَن غَيمَةٍ نامَت على جُرحي وأُخرى لَم تَزَلْ
تَمشي وتَبحَثُ عَن خُيولٍ أَحرَقَت
شَمسَ ارتِعاشَتِنا بِوَهمِ غُبارِها…
وَحكايَةٍ خبَّأتُ حُلْمي عِندَها
وَتَرَكتُها كَي تَغزِلَ الأَشعارَ فوقَ هَشاشَةِ الأَيامِ
شَدَّتني إِلى صَمتي… وَبعضُ الصَّمتِ عاقِر.
دع للجنونِ بقِيّةً…
يا أَيّها الصَّمتُ المخَبّاُ كالسّكينَةِ في جُنونِ البحرِ قُل:
شِعرًا يَصيرُ حَقيقَةً
نثرًا يَصيرُ فَراشَةً
تَمضي، تُشَرنِقُ بينَ أَجرامِ السّما
تُخفي المسافَةَ بَينَ ما تَبني
وما تَجني مَواعيدُ الخَيال.
دَع للخَيالِ بَقيَّةً…
يا أيُّهاالجَبَلُ الذي يَجتَرُّ جُرأَتَهُ
يُثيرُ فُتونَهُ بفُتونِهِ
لا أُمُّهُ وَلَدت، ولا تَرَكَت دَمي
يَغشى شَفافِيَةَ المَدى
فَلَعَلَّها تُدنيهِ مِن حِضنِ الأَبَد
يا والِدًا… لا… ما وَلَد!
صاحَت حجارَةُ مَنزِلٍ مازالَ يَحضُنُ روحَهُ
يَلِدُ الجَلَدْ.
دَعْ للحياةِ بَقِيّةً…
يا أَيُّها المطلوبُ وَحدَكَ عُذرَ مائِدَةِ اللئام
يا أيُّها المتروكُ نهبًا للفَراغْ…
مَن أَورَثوكَ هَشاشَةَ الطينِ المُبَلّلِ بالكلام
من أَورَثوكَ رُؤى طواحينِ الهواءِ
وأَشعَلوا نيرانَ غَدرَتِهِم، وطاروا…
شمسُهُم تَمشي على أَحلامِهِم
فالحلمُ يحضُنُ ظِلَّهُ
والنارُ لا تَلِدُ السلام.
دَع للغَرامِ بَقِيَّةً…
واحرِقْ رَسائِلَ أَغرَقَت صَفوَ المَنام
دَعْ للحياةِ بَقيةً…
زيتًا وقِنديلًا وعَينًا…
وَمضَةً تجتاحُ أَبراجَ الحقيقَةِ
تكتَسي لونَ المسافاتِ المضيئَةِ
تُشعِلُ الآفاقَ من قَبَسِ انطِلاقَتِها
كنَبضَتِنا…
تَصيرُ لها حياةٌ حينَما نَبني الحَياة.
خرى لمتزَل تمشي